التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ ٱئۡذَن لِّي وَلَا تَفۡتِنِّيٓۚ أَلَا فِي ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُواْۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (49)

ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن هؤلاء المنافقين ، فحكت جانبا من أعذارهم الكاذبة ، ومن أقوالهم الخبيثة . . فقال - تعالى - : { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ . . . . مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } .

روى محمد بن إسحاق ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبى بكر ، وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو جهازه - أى لغزوة تبوك - للجد عن قيس اخى بنى سلمة : " هل لك ياجد في جلاد بنى الأصفر " ؟ - يعنى الروم - فقال الجد : يا رسول الله أو تأذن لى ولا تفتنى ؟ فهو الله لقد عرف قومى ما رجل أشد عجبا بالنساء منى ، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر ألا أصبر عنهن ، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال قد أذنت لك " " .

ففى الجد بن قيس نزلت هذه الآية { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي } .

أى : ومن هؤلاء المنافقين الذين لم ينته الحديث عنهم بعد " من يقول " لك - يا محمد - " أئنذ لى " في القعود بالمدينة ، " ولا تفتنى " أى ولا توقعنى في المعصية والإِثم بسبب خروجى معك إلى تبوك ، ومشاهدتى لنساء بنى الأصفر .

وعبر - سبحانه - عن قول هذا المنافق بالفعل المضارع ، لا ستحضار تلك الحال لغرابتها ، فإن مثله في نفاقه وفجوره لا يخشى إثم الافتتان بالنساء إذا لا يجد من دينه ما نعا من غشيان الشهوات الحرام .

وقوله : { أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ } رد عليه فيما قال ، وذم له على ما تفوه به .

أى : ألا إن هذا وأمثاله في ذات الفتنة قد سقطوا ، لافى أى شئ آخر مغاير لها .

وبدأ - سبحانه - الجملة الكريمة بأداة التنبيه " ألا " ، لتأكيد الخبر ، وتوجيه الأسماع إلى ما اشتمل عليه من توبيخ لهؤلاء المنافقين .

وقدم الجار والمجرور على عامله ؛ لدلالة على الحصر . أى فيها لا في غيرها قد سقطوا وهووا إلى قاع سحيق .

قال الآلوسى : وفى التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة ، تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديدهم في دركات الردى أسفل سافلين .

وقال الفخرى الرازى ما ملخصه : " وفيه تنبيه على أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة ، فالله - تعالى - بيّن أنهم في عينا لفتنة واقعون ، لأن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله وبرسوله ، والتمرد على قبول التكاليف التي كلفنا الله بها . . . " .

وقوله : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } وعيد وتهديد لهم على أقوالهم وأفعالهم .

أى : وإن جهنم لمحيطة بهؤلاء الكافرين بما جاء من عند الله ، دون أن يكون لهم منها مهرب أو مفر .

وعبر عن إحاطتها بهم باسم الفاعل الدال على الحال ، لإِفادة تحقيق ذلك حتى لكأنه واقع مشاهد .

قالوا : ويحتمل أنها محيطة بهم الآن ، بأن يراد بجهنم الأسباب الموصلة إليها من الكفر والنفاق وغير ذلك من الرذائل التي سقطوا فيها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ ٱئۡذَن لِّي وَلَا تَفۡتِنِّيٓۚ أَلَا فِي ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُواْۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (49)

نزلت في بعض المنافقين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن تبوك ولم يُبدوا عذراً يمنعهم من الغزو ، ولكنّهم صرّحوا بأنّ الخروج إلى الغزو يفتنهم لمحبّة أموالهم وأهليهم ، ففضح الله أمرهم بأنّهم منافقون : لأن ضمير الجمع المجرور عائد إلى { الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 45 ] ، وقيل : قال جماعة منهم : ائذن لنا لأنّا قاعدون أذنت لنا أم لم تأذَنْ فأذَنْ لنا لئلا نقع في المعصية . وهذا من أكبر الوقاحة لأنّ الإذن في هذه الحالة كَلا إذنٍ ، ولعلّهم قالوا ذلك لعلمهم برفق النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : إنّ الجِدّ بن قيس قال : يا رسول الله لقد علم الناس أنّي مُسْتَهْتَر بالنساء فإنّي إذا رأيت نساء بني الأصفر افتتنت بهنّ فأذَنْ لي في التخلّف ولا تفتنّي وأنا أعينك بمالي ، فأذن لهم . ولعلّ كلَّ ذلك كان .

والإتيان بأداة الاستفتاح في جملة { ألا في الفتنة سقطوا } للتنبيه على ما بعدها من عجيب حالهم إذ عاملهم الله بنقيض مقصودهم فهم احترزوا عن فتنة فوقعوا في الفتنة . فالتعريف في الفتنة ليس تعريف العهد إذ لا معهود هنا ، ولكنّه تعريف الجنس المؤذن بكمال المعرّف في جنسه ، أي في الفتنة العظيمة سقطوا ، فأيُّ وجه فرض في المراد من الفتنة حين قال قائلهم { ولا تفتنى } كان ما وقَع فيه أشدَّ ممّا تفصَّى منه ، فإن أراد فتنة الدين فهو واقع في أعظم الفتنة بالشرك والنفاق ، وإن أراد فتنة سوء السمعة بالتخلّف فقد وقع في أعظم بافتضاح أمر نفاقهم ، وإنْ أراد فتنة النكد بفراق الأهل والمال فقد وقع في أعظم نكد بكونه ملعوناً مبغوضاً للناس . وتقدّم بيان { الفتنة } قريباً .

والسقوط مستعمل مجازاً في الكَون فجأة على وجه الاستعارة : شُبّه ذلك الكون بالسقوط في عدم التهيّؤ له وفي المفاجأة باعتبار أنّهم حصلوا في الفتنة في حال أمنهم من الوقوع فيها ، فهم كالساقط في هُوّة على حينِ ظَنّ أنّه ماش في طريق سهل ومن كلام العرب « على الخبير سقطتَ » .

وتقديم المجرور على عامله ، للاهتمام به لأنّه المقصود من الجملة .

وهذه الجملة تسير مَسرى المثَل .

وجملة { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } معترضة والواو اعتراضية ، أي وقعوا في الفتنة المفضية إلى الكفر . والكفر يستحقّ جهنّم .

وإحاطة جهنّم مراد منها عدم إفلاتهم منها ، فالإحاطة كناية عن عدم الإفلات . والمراد بالكافرين : جميع الكافرين فيشمل المتحدّث عنهم لثبوت كفرهم بقوله : { إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 45 ] .

ووجه العدول عن الإتيان بضميرهم إلى الإتيان بالاسم الظاهر في قوله : { لمحيطة بالكافرين } إثبات إحاطة جهنّم بهم بطريق شبيه بالاستدلال ، لأنّ شمول الاسم الكلي لبعض جزئياته أشهر أنواع الاستدلال .