التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمِنۡهُم مَّن يَلۡمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ فَإِنۡ أُعۡطُواْ مِنۡهَا رَضُواْ وَإِن لَّمۡ يُعۡطَوۡاْ مِنۡهَآ إِذَا هُمۡ يَسۡخَطُونَ} (58)

ثم تمضى السورة بعد ذلك في الكشف عن الأقوال المنكرة ، والأفعال القبيحة التي كانت تصدر عن المنافقين فتقول . { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ . . . إِلَى الله رَاغِبُونَ } .

قال الإِمام الرازى : اعلم أن المقصود من هذا ، شرح نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم ، وهو طعنهم في الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء ، ويقولون إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته ، وينسبونه إلى أنه لا يراعى العدل .

هذا ، وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآتين روايات منها :

ما أخرجه البخارى والنسائى " عن أبى سعيد الخردى - رضى الله عنه - قال : بينما النبى - صلى الله عليه وسلم - يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمى فقال : اعدل يا رسول الله ، فقال : " ويلك ! ومن يعدل إذا لم أعدل " ؟ فقال عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - : ائذن لى فأضرب عنقه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " دعه فإن له أصحاب يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصايمه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم في الرمية . . " " .

قال أبو سعيد ، فنزلت فيهم : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات . . } .

وروى ابن مردويه " عن ابن مسعود - رضى الله عنه - قال : " لما قسم النبى - صلى الله عليه وسلم - غنائم حين سمعت رجلا يقول : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله . فأتيت النبى - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك فقال : " رحمة الله على موسى ، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر " ونزل { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } .

وقوله : { يَلْمِزُكَ } أى : يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات وغيرها من الأموال ، مأخوذ من اللمز وهو العيب . يقال لمزه وهمزه يلمزه ويهمزه إذا عابه وطعن عليه ، ومنه قوله - تعالى - : { ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } وقيل : اللمز ما كان يحضره الملموز ، والهمز ما كان في غيابه .

والمعنى : ومن هؤلاء المنافقين - يا محمد - من يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات والغنائم ، زاعمين أنك لست عادلا في قسمتك .

وقوله : { فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ . . . } بيان لفساد لمزهم وطعنهم ، وأن الدافع إليه إنما هو الطمع والشره في حطام الدنيا ، وليس الغضب من أجل إحقاق الحق : أو من أجل نشر العدالة بين الناس .

أى : أن هؤلاء المنافقين إن أعطيتهم . يا محمد . من تلك الصدقات ، رضوا عنك ، وحكموا على هذا العطاء بأنه عدل حتى ولو كان ظلماً ، وإن لم تعطهم منهم سخطوا عليك ، واتهموك بأنك غير عادل ، حتى ولو كان عدم عطائهم هو الحق بعينه ، فهم لا يقولون ما يقولونه فيك غضبا للعدل ، ولا حماسة للحق ، ولا غيرة على الدين . . وإنما يقولون ما يقولون من أجل مطامعهم الشخصية ، ومنافعهم الذاتية .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِنۡهُم مَّن يَلۡمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ فَإِنۡ أُعۡطُواْ مِنۡهَا رَضُواْ وَإِن لَّمۡ يُعۡطَوۡاْ مِنۡهَآ إِذَا هُمۡ يَسۡخَطُونَ} (58)

عرف المنافقون بالشحّ كما قال الله تعالى : { أشحة عليكم } [ الأحزاب : 19 ] وقال { أشحة على الخير } [ الأحزاب : 19 ] ومن شحّهم أنّهم يودّون أنّ الصدقات توزع عليهم فإذا رأوها تُوزّع على غيرهم طعنوا في إعطائها بمطاعن يُلقونها في أحاديثهم ، ويظهرون أنّهم يغارون على مستحقّيها ، ويشمئزّون من صرفها في غير أهلها ، وإنّما يرومون بذلك أن تقصر عليهم .

روي أنّ أبا الجَوَّاظ ، من المنافقين ، طَعَن في أن أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أموالِ الصدقات بعضَ ضعفاء الأعراب رعاء الغنم ، إعانة لهم ، وتأليفاً لقلوبهم ، فقال : ما هذا بالعدل أن يضع صدقاتكم في رعاء الغنم ، وقد أمر أن يقسمها في الفقراء والمساكين ، وقد روي أنّه شافه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم .

وعن أبي سعيد الخدري : أنّها نزلت في ذي الخويصرة التميمي الذي قال للنبيء صلى الله عليه وسلم اعدل ، وكان ذلك في قسمة ذهب جاء من اليمن سنة تسع ، فلعل السبب تكرّر ، وقد كان ذو الخويصرة من المنافقين من الأعراب .

واللّمز القدح والتعييب ، مضارعه من باب يضرب ، وبه قرأ الجمهور ، ومن باب ينصرُ ، وبه قرأ يعقوب وحده .

وأدخلت { في } على الصدقات ، وإنّما اللمز في توزيعها لا في ذواتها : لأنّ الاستعمال يدلّ على المراد ، فهذا من إسناد الحكم إلى الأعيان والمراد أحوالها .

ثم إنّ قوله : { فإن أعطوا منها رضوا } يحتمل : أنّ المراد ظاهر الضمير أن يعود على المذكور ، أي إن أعطي اللامزون ، أي إنّ الطاعنين يطمعون أن يأخذوا من أموال الصدقات بوجه هدية وإعانة ، فيكون ذلك من بلوغهم الغاية في الحرص والطمع ، ويحتمل أنّ الضمير راجع إلى ما رجع إليه ضمير { منهم } أي : فإن أعطي المنافقون رضي اللاَّمزون ، وإن أعطي غيرهم سخطوا ، فالمعنى أنّهم يرومون أن لا تقسم الصدقات إلاّ على فقرائهم ولذلك كره أبو الجَواظ أن يعطى الأعراب من الصدقات .

ولم يُذكر متعلّق { رضوا } ، لأنّ المراد صاروا راضين ، أي عنك .

ودلّت { إذا } الفجائية على أنّ سخطهم أمر يفاجىء العاقل حين يشهده لأنّه يكون في غير مظنّة سخط ، وشأن الأمور المفاجئة أن تكون غريبة في بابها .