وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابت الجب وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } .
أى : فلما أقنعوا أباهم بإرسال يوسف معهم ، وذهبوا به في الغد إلى حيث يريدون ، وأجمعوا أمرهم على أن يلقوا به في قعر الجب ، فعلوا به ما فعلوا من الأذى ، ونفذوا ما يريدون تنفيذه بدون رحمة أو شفقة .
فالفاء في قوله فلما : للتفريع على كلام مقدر ، وجواب " لما " محذوف ، دل عليه السياق . وفعل " أجمع " يتعدى إلى المفعول بنفسه ، ومعناه العزم والتصميم على الشئ ، تقول : أجمعت المسير أى : عزمت عزما قويا عليه .
وقوله " أن يجعلوه " مفعول أجمعوا .
قال الآلوسى : " والروايات في كيفية إلقائه في الجب ، وما قاله لإِخوته عند إلقائه وما قالوه له كثيرة ، وقد تضمنت ما يلين له الصخر ، لكن ليس فها ماله سند يعول عليه " .
والضمير في قوله ، وأوحينا إليه يعود على يوسف - عليه السلام - .
أى : وأوحينا إليه عند إلقائه في الجب عن طريق الإِلهام القلبى ، أو عن طريق جبريل - عليه السلام - أو عن طريق الرؤيا الصالحة . { لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا } أى : لتخبرنهم في الوقت الذي يشاؤه الله - تعالى - في مستقبل الأيام ، بما فعلوه معك في صغرك من إلقائك في الجب ، ومن إنجاء الله - لك ، فالمراد بأمرهم هذا : إيذاؤهم له وإلقاؤهم إياه في قعر الجب ، ولم يصرح - سبحانه - به ، لشدة شناعته .
وجملة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حالية ، أى : والحال أنهم لا يحسون ولا يشعرون في ذلك الوقت الذي تخبرهم فيه بأمرهم هذا ، بأنك أنت يوسف . لاعتقادهم أنك قد هلكت ولطول المدة التي حصل فيها الفراق بينك وبينهم ، ولتباين حالك وحالهم في ذلك الوقت ، فأنت ستكون الأمين على خزائن الأرض ، وهم سيقدمون عليك فقراء يطلبون عونك ورفدك .
وقد تحقق كل ذلك - كما سيأتى - عند تفسير قوله تعالى - : { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر . . . } وكان هذ الإِيحاء - على الراجح - قبل أن يبلغ سن الحلم ، وقبل أن يكون نبيا .
وكان المقصود منه ، إدخال الطمأنينة على قلبه ، وتبشيره بما سيصير إليه أمره من عز وغنى وسلطان .
قالوا : وكان هذا الجب الذي ألقى فيه يوسف على بعد ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب - عليه السلام - بفلسطين .
وقوله تعالى : { فلما ذهبوا به } الآية ، أسند الطبري إلى السدي قال : ذهبوا بيوسف وبه عليهم كرامة ، فلما برزوا في البرية أظهروا له العداوة ، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه به فجعل لا يرى منهم رحيماً ، فضربوه حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح ويقول : يا أبتاه يا يعقوب لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء ، فقال لهم يهوذا : ألم تعطوني موثقاً أن لا تقتلوه ؟ فانطلقوا به إلى الجب ، فجعلوا يدلونه فيتعلق بالشفير فربطوا يديه ونزعوا قميصه . فقال : يا إخوتاه ردوا عليّ قميصي أتوارى به في الجب ، فقالوا : ادعُ الشمس والقمر والكواكب تؤنسك ؛ فدلوه حتى إذا بلغ نصف الجب ألقوه إرادة أن يموت ، فكان في الجب ماء فسقط فيه ثم قام على صخرة يبكي ، فنادوه ، فظن أنهم رحموه ، فأجابهم ، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ، فمنعهم يهوذا ، وكان يأتيه بالطعام .
وجواب { لما } محذوف تقديره : { فلما ذهبوا به وأجمعوا } أجمعوا ، هذا مذهب الخليل وسيبويه وهو نص لهما في قول امرىء القيس : [ الطويل ]
فلما أجزنا ساحية الحي وانتحى{[6590]} . . . . . . . . . ومثل هذا قول الله تعالى :
{ فلما أسلما وتله للجبين }{[6591]}- وقال بعض النحاة - في مثل هذا- : إن الواو زائدة - وقوله مردود لأنه ليس في القرآن شيء زائد لغير معنى{[6592]} .
و { أجمعوا } معناه : عزموا واتفق رأيهم عليه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم - في المسافر - «ما لم يجمع مكثاً »{[6593]} ، على أن إجماع الواحد قد ينفرد بمعنى العزم والشروع ، ويتصور ذلك في إجماع إخوة يوسف وفي سائر الجماعات - وقد يجيء إجماع الجماعة فيما لا عزم فيه ولا شروع ولا يتصور ذلك في إجماع الواحد .
والضمير في { إليه } عائد إلى يوسف . وقيل على يعقوب ، والأول أصح وأكثر ، ويحتمل أن يكون الوحي حينئذ إلى يوسف برسول ، ويحتمل أن يكون بإلهام أو بنوم - وكل ذلك قد قيل - وقال الحسن : أعطاه الله النبوءة وهو في الجب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد .
وقرأ الجمهور : «لتنبئنهم » بالتاء ، وفي بعض مصاحف البصرة بالياء ، وقرأ سلام بالنون ، وهذا كله في العلامة التي تلي اللام .
وقوله : { وهم لا يشعرون } قال ابن جريج : وقت التنبيه إنك يوسف{[6594]} . وقال قتادة : لا يشعرون بوحينا إليه . قال القاضي أبو محمد : فيكون قوله : { وهم لا يشعرون } - على التأويل الأول - مما أوحي إليه - وعلى القول الثاني - خبر لمحمد صلى الله عليه وسلم .
تفريع حكاية الذّهاب به والعزم على إلقائه في الجبّ على حكاية المحاورة بين يعقوب عليه السّلام وبنيه في محاولة الخروج بيوسف عليه السّلام إلى البادية يؤذن بجمل محذوفة فيها ذكر أنهم ألحوا على يعقوب عليه السّلام حتّى أقنعوه فأذن ليوسف عليه السّلام بالخروج معهم ، وهو إيجاز .
والمعنى : فلمّا أجابهم يعقوب عليه السّلام إلى ما طلبوا ذهبوا به وبلغوا المكان الذي فيه الجب .
وفعل ( أجمع ) يتعدّى إلى المفعول بنفسه . ومعناه : صمّم على الفعل ، فقوله : { أن يجعلوه } هو مفعول { وأجمعوا } .
وجواب ( لمّا ) محذوف دلّ عليه { أن يجعلوه في غيابت الجب } ، والتقدير : جعلوه في الجب . ومثله كثير في القرآن . وهو من الإيجاز الخاص بالقرآن فهو تقليل في اللّفظ لظهور المعنى .
وجملة { وأوحينا إليه } معطوفة على جملة { وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب } ، لأنّ هذا الموحى من مهمّ عبر القصة .
وقيل : الواو مزيدة وجملة { أوحينا } هو جواب ( لمّا ) ، وقد قيل بمثل ذلك في قوله امرىء القيس :
فلمّا أجزنا ساحة الحي وانتحى *** البيت .
وقيل به في قوله تعالى : { فلمّا أسلما وتلّه للجبين وناديناه أنْ يا إبراهيم } [ سورة الصافات : 103 ، 104 ] الآية وفي جميع ذلك نظر .
والضمير في قوله : { إليه } عائد إلى يوسف عليه السّلام في قول أكثر المفسّرين مقتصرين عليه . وذكر ابن عطية أنّه قيل الضمير عائد إلى يعقوب عليه السّلام .
وجملة { لتنبئنهم بأمرهم هذا } بيان لِجلمة { أوحينا } . وأكّدت باللاّم ونون التوكيد لتحقيق مضمونها سواء كان المراد منها الإخبار عن المستقبل أو الأمر في الحال . فعلى الأوّل فهذا الوحي يحتمل أن يكون إلهاماً ألقاه الله في نفس يوسف عليه السّلام حين كيدهم له ، ويحتمل أنّه وحي بواسطة المَلك فيكون إرهاصاً ليوسف عليه السّلام قبل النّبوءة رحمة من الله ليزيل عنه كربه ، فأعلمه بما يدل على أن الله سيخلصه من هذه المصيبة وتكون له العاقبة على الذين كادوا له ، وإيذان بأنّه سيؤانسه في وحشة الجب بالوحي والبشارة ، وبأنه سينبىء في المستقبل إخوته بما فعلوه معه كما تؤذن به نون التوكيد إذا اقترنت بالجملة الخبرية ، وذلك يستلزم نجاته وتمكّنه من إخوته لأن الإنباء بذلك لا يكون إلا في حال تمكّن منهم وأمن من شرهم .
ومعنى { بأمرهم } : بفعلهم العظيم في الإساءة .
وجملة { وهم لا يشعرون } في موضع الحال ، أي لتخبرنهم بما فعلوا بك وهم لا يشعرون أنك أخوهم بل في حالة يحسبونه مطلعاً على المغيبات متكهناً بها ، وذلك إخبار بما وقع بعد سنين مما حكي في هذه السورة بقوله تعالى : { قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } [ سورة يوسف : 89 ] الآيتين .
وعلى احتمال عود ضمير { إليه } على يعقوب عليه السّلام فالوحي هو إلقاء الله إليه ذلك بواسطة المَلَك ، والواو أظهر في العطف حينئذٍ فهو معطوف على جملة { فلما ذهبوا به } إلى آخرها { وأوحينا إليه } قبل ذلك . و { لتنبئنهم } أمر ، أي أوحينا إليه نَبّئْهم بأمرهم هذا ، أي أشعرهم بما كادوا ليوسف عليه السّلام ، إشعاراً بالتعريض ، وذلك في قوله : { وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون } [ سورة يوسف : 13 ] .
وجملة { وهم لا يشعرون } على هذا التقدير حال من ضمير جمع الغائبين ، أي وهم لا يشعرون أننا أوحينا إليه بذلك .
وهذا الجب الذي ألقي فيه يوسف عليه السّلام وقع في التوراة أنه في أرض ( دوثان ) ، ودوثان كانت مدينة حصينة وصارت خرابا . والمراد : أنه كانت حوله صحراء هي مرعى ومربع . ووصف الجب يقتضي أنه على طريق القوافل . واتّفق واصفو الجب على أنه بين ( بانياس ) و ( طبرية ) . وأنه على اثني عشر ميلاً من طبرية ممّا يلي دمشق ، وأنه قرب قرية يقال لها ( سنجل أو سنجيل ) . قال قدامة : هي طريق البريد بين بعلبك وطبرية .
ووصفها المتأخرون بالضبط المأخوذ من الأوصاف التاريخية القديمة أنه الطريق الكبرى بين الشام ومصر . وكانت تجتاز الأردن تحت بحيرة طبرية وتمر على ( دوثان ) وكانت تسلكها قوافل العرب التي تحمل الأطياب إلى المشرق ، وفي هذه الطريق جباب كثيرة في ( دوثان ) . وجب يوسف معروف بين طبرية وصفد ، بنيت عليه قبة في زمن الدولة الأيوبية بحسب التوسّم وهي قائمة إلى الآن .