{ وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ ياأهل يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فارجعوا . . . } .
أى : واذكروا - كذلك - أيها المؤمنون - وقت أن قالت لكم طائفة من هؤلاء المنافقين : { ياأهل يَثْرِبَ } أى : يا أهل المدينة ، لا مقام لكم فى هذا المكان الذى تقيمون فيه بجوار الخندق لحماية بيوتكم ومدينتكم ، فارجعوا إلى مساكنكم ، واستسلموا لأعدائكم .
قال الشوكانى : وذلك أن المسلمين خرجوا فى غزوة الخندق ، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سلع ، وجعلوا وجوههم إلى العدو ، وجعلوا الخندق بينهم وبين القوم . فقال هؤلاء المنافقون : ليس ها هنا موضع إقامة وأمروا الناس بالرجوع إلى منازلهم بالمدينة .
ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المنافقين لم يكتفوا بهذا القول الذميم ، بل كانوا يهربون من الوقوف إلى جانب المؤمنين ، فقال - تعالى - : { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } .
أى : أنهم كانوا يحرضون غيرهم على ترك مكانه فى الجهاد ، ولا يكتفون بذلك ، بل كان كل فريق منهم يذهب إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فيستأذنه فى الرجوع إلى بيوتهم ، قائلين له : يا رسول الله : { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أى : خالية ممن يحرسها .
يقال : دار ذات عورة إذا سهل دخولها لقلة حصانتها .
وهنا يكشف القرآن عن حقيقتهم ويكذبهم فى دعواهم فيقول { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } أى : والحال أن بيوتهم كما يزعمون ، وإنما الحق أنهم يريدون الفرار من ميدان القتال ، لضعف إيمانهم ، وجب نفوسهم .
روى " أن بنى حارثة بعثوا أحدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول له : إن بيوتنا عورة ، وليست دار من دور الأنصار مثل دورنا ، وليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا ، فأذن لنا كى نرجع إلى دورنا ، فمنع ذرارينا ونساءنا . فأذن لهم صلى الله عليه وسلم .
فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال : يا رسول الله ، لا تأذن لهم ، إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة إلا فعلوا ذلك . . فردهم " .
هذه المقالة روي أن بني حارثة قالوها ، و { يثرب } قطر محدود ، المدينة في طرف منه ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وحفص عن عاصم ومحمد اليماني والأعرج «لا مُقام لكم » بضم الميم ، والمعنى لا موضع إقامة ، وقرأ الباقون «لا مَقام » بفتح الميم بمعنى لا موضع قيام ، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة وأبي رجاء والحسن وقتادة والنخعي وعبد الله بن مسلم وطلحة ، والمعنى في حومة القتال وموضع الممانعة ، { فارجعوا } معناه إلى منازلكم وبيوتكم وكان هذا على جهة التخذيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والفريق المستأذن روي أن أوس بن قيظي استأذن في ذلك عن اتفاق من عشيرته فقال { إن بيوتنا عورة } أي : منكشفة للعدو ، وقيل أراد خالية للسراق ، ويقال أعور المنزل إذا انكشف ومنه قول الشاعر :
له الشدة الأولى إذا القرن أعورا{[9470]} . . .
قال ابن عباس «الفريق » بنو حارثة ، وهم كانوا عاهدوا الله إثر أحد لا يولون الأدبار ، وقرأ ابن عباس وابن يعمر وقتادة وأبو رجاء «عِورة » بكسر الواو فيهما وهو اسم فاعل ، قال أبو الفتح صحة الواو في هذه شاذة لأنها متحركة قبلها فتحة ، وقرأ الجمهور «عوْرة » ساكنة الواو على أنه مصدر وصف به ، و «البيت المعور » هو المنفرد المعرض لمن شاءه بسوء .
قوله { لا مقام لكم } قرأه الجمهور بفتح الميم وهو اسم لمكان القيام ، أي : الوجود . وقرأه حفص عن عاصم بضم الميم ، أي : محلّ الإقامة . والنفي هنا بمعنى نفي المنفعة فلما رأى هذا الفريق قلة جدوى وجودهم جعلها كالعدم ، أي لا فائدة لكم في ذلك ، وهو يروم تخذيل الناس كما فعل يوم أُحُد .
و { يثرب } : اسم مدينة الرسول ، وقال أبو عبيدة يثرب : اسم أرض والمدينة في ناحية منها ، أي : اسم أرض بما فيها من الحوائط والنخل والمدينة في تلك الأرض . سميت باسم يثرب من العمالقة ، وهو يثرب بن قانية الحفيد الخامس لإرَم بن سام بن نوح . وقد روي عن البراء بن عازب وابن عباس أن النبي نهى عن تسميتها يثرب وسماها طَابة .
وفي قوله { يا أهل يثرب لا مقام لكم } محسِّنٌ بديعيّ ، وهو الاتِزان لأن هذا القول يكون منه مصراع من بحر السريع من عَروضه الثانية المخبُولة المكشوفة إذ صارت مفعولات بمجموع الخبل والكشف إلى فَعَلن فوزنه مستفعلن مستفعلن فَعَلن .
والمراد بقوله { فريق منهم } جماعة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، وليسوا فريقاً من الطائفة المذكورة آنفاً ، بل هؤلاء هم أوس بن قيظي وجمع من عشيرته بني حارثة وكان بنو حارثة أكثرهم مسلمين وفيهم منافقون ، فجاء منافقوهم يعتذرون بأن منازلهم عورة ، أي : غير حصينة .
وجملة { ويستأذن فريق } عطف على جملة { قالت طائفة } ، وجيء فيها بالفعل المضارع للإشارة إلى أنهم يلِحُّون في الاستئذان ويكررونه ويجددونه .
والعورة : الثغر بين الجبلين الذي يتمكن العدو أن يتسرب منه إلى الحي ، قال لبيد :
وأجَنَّ عوراتِ الثغورِ ظَلامُها
والاستئذان : طلب الإذن وهؤلاء راموا الانخذال واستحيَوا . ولم يذكر المفسرون أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم . وذكر أهل السير أن ثمانين منهم رجعوا دون إذنه . وهذا يقتضي أنه لم يأذن لهم وإلا لما ظهر تميزهم عن غيرهم ، وأيضاً فإن في الفعل المضارع من قوله { يستأذن } إيماء إلى أنه لم يأذن لهم وستَعلم ذلك ، ومنازل بني حارثة كانت في أقصى المدينة قرب منازل بني سَلِمة فإنهما كانا حيين متلازمين قال تعالى : { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } [ آل عمران : 122 ] هما بنو حارثة وبنو سلمة في غزوة أُحُد . وفي الحديث : أن بني سَلِمة راموا أن ينقلوا منازلهم قرب المسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم « يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم » أي خُطاكم . فهذا الفريق منهم يعتلُّون بأن منازلهم بعيدة عن المدينة وآطامها .
والتأكيد بحرف { إنَّ } في قولهم { إن بيوتنا عورة } تمويه لإظهار قولهم { بيوتنا عورة } في صورة الصدق . ولما علموا أنهم كاذبون وأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم كذبهم جعلوا تكذيبه إياهم في صورة أنه يشك في صدقهم فأكدوا الخبر .
وجملة { وما هي بعورة إلى قوله مسؤول } [ الأحزاب : 15 ] معترضة بين جملة { يستأذن فريق منهم } الخ وجملة { لنينفعكم الفرار } [ الأحزاب : 16 ] . فقوله : { وما هي بعورة } تكذيب لهم فإن المدينة كانت محصنة يومئذ بخندق وكان جيش المسلمين حارسها . ولم يقرن هذا التكذيب بمؤكد لإظهار أن كذبهم واضح غير محتاج إلى تأكيد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.