ثم بين - سبحانه - أن حال هؤلاء المشركين تدعو إلى العجب فقال : { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } .
قال الجمل : وقوله { بَلْ عَجِبْتَ } إضراب إما عن مقدر دل عليه قوله : { فاستفتهم } أى : هم لا يقرون بل عجبت ، وإما عن الأمر بالاستفتاء ، أى : لا تستفتهم فإنهم معاندون ، بل انظر إلى تفاوت حالك وحالهم .
أى : بل عجبت - أيها الرسول الكريم - ومن حقك أن تعجب ، من إنكار هؤلاء الجاحدين لإِمكانية البعث ، مع هذه الأدلة الساطعة التى سقناها لهم على أن البعث حق .
وجملة { وَيَسْخَرُونَ } حالية . أى : والحال أنهم يسخرون من تعجبك ومن إنكارك عليهم ذلك ، ومن إيمانك العميق بهذه الحقيقة ، حتى إنك لترددها على مسامعهم صباح مساء .
قال الآلوسى : وقرأ حمزة والكسائى : { بل عجبتُ } - بضم التاء - . . وأولت هذه القراءة بأن ذلك من باب الفرض ، أى : لو كان العجب مما يجوز علىَّ لعجبت من هذه الحال .
ثم قال : والذى يقتضيه كلام السلف أن العجب فينا انفعال يحصل للنفس عند الجهل للسبب ، ولذا قيل : إذا ظهر السبب بطل العجب ، وهو فى الله - تعالى - بمعنى يليق لذاته - تعالى - وهو - سبحانه - أعلم به ، فلا يعينون معناه .
وقرأ جمهور القراء «بل عجبتَ » بفتح التاء ، أي عجبت يا محمد عن إعراضهم عن الحق وعماهم عن الهدى وأن يكونوا كافرين مع ما جئتهم به من عند الله ، وقرأ حمزة والكسائي «بل عجبتُ » بضم التاء ، ورويت عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن وثاب والنخعي وطلحة وشقيق والأعمش وذلك على أن يكون تعالى هو المتعجب ، ومعنى ذلك من الله أنه صفة فعل ، ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم «يعجب الله تعالى إلى قوم يساقون إلى الجنة في السلاسل »{[9834]} ، وقوله عليه السلام «يعجب الله من الشاب ليست له صبوة »{[9835]} ، فإنما هي عبارة عما يظهره تعالى في جانب المتعجب منه من التعظيم والتحقير حتى يصير الناس متعجبين منه ، فمعنى هذه الآية بل عجبت من ضلالتهم وسوء نحلتهم ، وجعلتها للناظرين ، وفيما اقترن معها من شرعي وهداي متعجباً ، وروي عن شريح أنه أنكر هذه القراءة وقال إن الله تعالى لا يعجب ، وقال الأعمش : فذكرت ذلك لإبراهيم ، فقال إن شريحاً كان معجباً بعلمه وإن عبد الله أعلم منه{[9836]} ، وقال مكي وعلي بن سليمان في كتاب الزهراوي : هو إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه كأن المعنى قل بل عجبت ، وقوله { يسخرون } أي وهم يسخرون من نبوءتك والحق الذي عندك .
{ بَلْ } للإِضراب الانتقالي من التقرير التوبيخي إلى أن حالهم عجب .
وقرأ الجمهور { بَلْ عَجِبْتَ } بفتح التاء للخطاب . والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم المخاطبِ بقوله : { فَاستَفْتِهِم } [ الصافات : 11 ] . وفعل المضيّ مستعمل في معنى الأمر وهو من استعمال الخبر في معنى الطلب للمبالغة كما يستعمل الخبر في إنشاء صيغ العقود نحو : بِعت . والمعنى : اعجَبْ لهم . ويجوز أن يكون العجب قد حصل من النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى إعْراضهم وقلة إنصافهم فيكون الخبر مستعملاً في حقيقته . ويجوز أن يكون الكلام على تقدير همزة الاستفهام ، أي بل أعجبت .
والمعنى على الجميع : أن حالهم حرية بالتعجب كقوله تعالى : { وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد } في سورة [ الرعد : 5 ] .
وقرأ حمزة والكسائي وخلف { بَلْ عَجِبْتُ } بضم التاء للمتكلم فيجوز أن يكون المراد : أن الله أسند العجب إلى نفسه . ويُعرَف أنه ليس المراد حقيقةَ العجب المستلزمة الروعة والمفاجأة بأمر غير مترقب بل المراد التعجيب أو الكناية عن لازمه ، وهو استعظام الأمر المتعجب منه . وليس لهذا الاستعمال نظير في القرآن ولكنه تكرر في كلام النبوءة منه قوله صلى الله عليه وسلم " إن الله ليعجب من رجلين يَقتُل أحدهُما الآخرَ يدخلان الجنة يقاتل هذا في سبيل الله فيُقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد " رواه النسائي بهذا اللفظ . يعني ثم يسلم القاتل الذي كان كافراً فيقاتل فيستشهد في سبيل الله .
وقولُه في حديث الأنصاري وزوجه إذ أضافا رجلاً فأطعماه عشاءهما وتركا صبيانهما « عجِب الله من فعالكما » .
ونزل فيه { ويؤثرون على أنفسهم }{[347]} [ الحشر : 9 ] . وقوله : « عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل »{[348]} . وإنما عدل عن الصريح وهو الاستعظام لأن الكناية أبلغ من التصريح ، والصارف عن معنى اللفظ الصريح في قوله : { عَجِبْتُ } ما هو معلوم من مخالفته تعالى للحوادث . ويجوز أن يكون أطلق { عجبت } على معنى المجازاة على عَجبهم لأن قوله : { فاستفتهم أهم أشدُّ خلقاً } [ الصافات : 11 ] دلّ على أنهم عجبوا من إعادة الخلق فتوعدهم الله بعقاب على عَجبهم . وأطلق على ذلك العقاب فعل { عجبت } كما أطلق على عقاب مكرهم المكرُ في قوله : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } [ آل عمران : 54 ] .
والواو في { ويَسْخَرُونَ } واو الحال ، والجملة في موضع الحال من ضمير { عَجِبْتَ } أي كان أمرهم عجباً في حال استسخارهم بك في استفتائهم . وجيء بالمضارع في { يسخرون } لإِفادة تجدد السخرية ، وأنهم لا يرعوُون عنها .
والسخرية : الاستهزاء ، وتقدمت في قوله تعالى : { فحاق بالذين سخروا منهم } في سورة [ الأنعام : 10 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.