والفاء في قوله : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } للتفريع أي : حافظوا على الصلاة في كل وقت ، وأدوها بخشوع واطمئنان ، فإن كان بكم خوف من عدو في حال المقاتلة في الحرب أو من غيره لسبب من الأسباب ، فصلوا رجلين أي ماشين على الأقدام ، أو راكبين على ركائبكم بإيماء ، سواء وليتم وجوهكم شطر القبلة أولا .
و ( رجالا ) جمع راجل . وهو القوى على المشي برجليه . يقال : رَجل الإِنسان يرجل رجلا إذا لم يحد ما يركبه ومشى على قدميه ، والركابن جمع راكب للجمل أو الفرس أو غيرهما .
وجواب الشرط محذوف والتقدير : فإن خفتم فصلوا رجلين أو راكبين ، وهذان اللفظان أي - رجالا أو ركباناً - حالان من الضمير في " فصلوا " المحذوف .
والآية الكريمة تدل على شدة عناية الإِسلام بشأن الصلاة ، فقد أمر الله - تعالى - عباده بأن يحافظوا عليها في حالتي الأمن والخوف ، والصحة والمرض ، والسفر والإِقامة .
وقد بسط هذا المعنى الأستاذ الإِمام محمد عبده فقال ما ملخصه : وقوله - تعالى - : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } هذا تأكيد للمحافظة على الصلاة ، وبيان أنها لا تسقط بحال ، لأن حال الخوف على النفس أو العرض أو المال هو مظنة العذر في الترك كما يكون السفر عذراً في ترك الصيام . . والسبب في عدم سقوط الصلاة عن المكلف بحال أنها عمل قلبي ، وإنما فرضت تلك الأعمال الظاهرة لأنها مساعدة على العمل القلبي المقصود بالذات ، وهو تذكر سلطان الله - تعالى - المستولي علينا وعلى العالم كله ، ومن شأن الإِنسان إذا أراد عملا قلبياً يجتمع فيه الذكر أن يستعين على ذلك ببعض ما ينسابه من قول وعمل .
ولا ريب أن هذه الهيأة التي اختارها الله - تعالى - للصلاة هي أفضل معين على استحضار سلطانه فإن قولك " الله أكبر " في فاتحة الصلاة وعند الانتقال فبها من عمل إلى عمل يعطيك من الشعور يكون الله أكبر وأعظم من كل شيء ما يغمر روحك ، ويستولي على إرادتك . . وكذلك الشأن في سائر أعمال الصلاة .
فإذا تعذر عليك الإِتيان ببعض تلك الأعمال البدنية ؛ فإن ذلك لا يسقط عنك هذه العبادة القلبية التي هي روح الصلاة وغيرها ، وهي الإِقبال على الله - تعالى - واستحضار سلطانه ، مع الإِشارة إلى تلك الأعمال بقدر الإِمكان الذي لا يمنع من مدافعه الخوف الطارئ من سبع مفترس ، أو عدو مغتال ، أو لص محتال . . فالآية تعلمنا أنه يجب أن لا يذهلنا عن الله شيء في حال من الأحوال . . "
وقال الإِمام ابن العربي : قوله - تعالى - { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } أمر الله - تعالى - بالمحافظة على الصلاة في كل حال من صحة ومرض ، وحضر وسفر ، وقدرة وعجز ، وخوف وأمن ، لا تسقط عن المكلف بحال ، ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب " .
والمقصود من ذلك أن تفعل الصلاة كيفما أمكن ، لا تسقط بحال حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإِشارة بالعين للزم فعليها كذلك إذا لم يقدر على حركة سائر الجوارح ، وبهذا المعنى تميزت عن سائر العبادات ، فإن العبادات كلها تسقط بالأعذار ، ولذلك قال علماؤنا : " إن تارك الصلاة يقتل ، لأنها أشبهت الإِيمان الذي لا يسقط بحال ، ولا تجوز النيابة فيها ببد ولا مال " .
ثم قال - تعالى - : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } أي فإذا زال خوفكم وصرتم آمنين مطمئنين ، { فاذكروا الله } أي فأدوا الصلاة تامة كاملة مثل ما علمكم إياها ربكم على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد من الله - تعالى - عليكم بهذا التعليم الذي كنتم تجهلونه فضلا منه وكرماً .
وعبر - سبحانه - " بإن " المفيدة للشك في حالة الخوف ، وبإذا المفيدة للتحقيق في حالة الأمن ، للإِشعار بأن حالة الأمن هي الحالة الكثيرة الثابتة ، وأن حالة الخوف هي الحالة القليلة الطارئة ، وفي ذلك فضل جزيل من الله - تعالى - على عباده يحملهم على شكره وطاعته ، حيث وهبهم الأمان والاطمئنان في أغلب أوقات حياتهم .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد أمرتا المسلم بأن يحافظ على الصلاة محافظة تامة ، إذ في هذه المحافظة سعادة للإِنسان ، ودافع له على أداء الحقوق لأربابها ، وزاجر له عن اقتراف ما نها الله عنه .
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ( 239 )
أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحالة قنوت ، وهو الوقار والسكينة وهدوء الجوارح ، وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة . ثم ذكر تعالى حالة الخوف الطارئة أحياناً ، فرخص لعبيده في الصلاة رجالاً متصرفين على الأقدام ، و { ركباناً } على الخيل والإبل( {[2325]} ) ، ونحوه إيماء وإشارة بالرأس حيث ما توجه ، هذا قول جميع العلماء وهذه هي صلاة الفذ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المسايفة أو من سبع يطلبه أو عدو يتبعه أو سيل يحمله ، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيح ما تضمنته هذه الآية ، وأما صلاة الخوف بالإمام وانقسام الناس فليس حكمها في هذه الآية( {[2326]} ) ، وفرق مالك رحمه الله بين الخوف ، العدو المقاتل وبين خوف السبع ونحوه بأن استحب في غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن ، وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء ، وقوله تعالى { فرجالاً } هو جمع راجل أو رجل من قولهم رجل الإنسان يرجل رجلاً إذا عدم المركب ومشى على قدميه فهو رجل وراجل ، ورجُل بضم الجيم وهي لغة أهل الحجاز ، يقولون مشى فلان إلى بيت الله حافياً رجُلاً ، حكاه الطبري وغيره ورجلان ورجيل ، ورجل وأنشد ابن الأعرابي في رجلان : [ الطويل ]
عليَّ إذا لاقيت ليلى بخلوة . . . أن ازدار بيت الله رجلان حافيا( {[2327]} )
ويجمع على رِجال ورجيلى ورُجَالى ورُجَّالى ورَجَّالة ورُجَّال ورَجَالي ورُجْلان وَرَجْلة ورِجْلة ورِجَلة بفتح الجيم وأرجِلة وأراجلِ وأراجيل ، والرجل الذي هو اسم الجنس يجمع أيضاً على رجال ، فهذه الآية وقوله تعالى : { يأتوك رجالاً }( {[2328]} ) [ الحج : 27 ] هما من لفظ الرجلة أي عدم المركوب ، وقوله تعالى { شهيدين من رجالكم }( {[2329]} ) [ البقرة : 282 ] فهو جمع اسم الجنس المعروف ، وحكى المهدوي عن عكرمة وأبي مجلز أنهما قرآ " فرُجَّلاً " ، بضم الراء وشد الجيم المفتوحة ، وعن عكرمة أيضاً أنه قرأ " فرُجَالاً " بضم الراء وتخفيف الجيم ، وحكى الطبري عن بعضهم أنه قرأ " فرُجَّلاً " دون ألف على وزن فعل بضم الفاء وشد العين( {[2330]} ) ، وقرأ جمهور القراء " أو ركباناً «وقرأ بديل بن ميسرة »( {[2331]} ) " فرجالاً فركباناً " بالفاء ، والركبان جمع راكب ، وهذه الرخصة في ضمنها بإجماع من العلماء أن يكون الإنسان حيث ما توجه من السموت( {[2332]} ) ، ويتصرف بحسب نظره في نجاة نفسه . واختلف الناس كم يصلى من الركعات . فمالك رحمه الله وجماعة من العلماء لا يرون أن ينقص من عدد الركعات شيئاً ، بل يصلي المسافر ركعتين ولا بد . قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما : يصلي ركعة إيماء . وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة .
وقال الضحاك بن مزاحم : يصلي صاحب خوف الموت في المسايفة وغيرها ركعة ، فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين ، وقال إسحاق بن راهويه : فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه ، ذكره ابن المنذر( {[2333]} ) .
واختلف المتألون في قوله تعالى : { فإذا أمنتم فاذكروا الله } الآية ، فقالت فرقة : المعنى فإذا زال خوفكم الذي أجاءكم( {[2334]} ) إلى هذه الصلاة فاذكروا الله بالشكر على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإحزاء ولم تفتكم صلاة من الصلوات ، وهذا هو الذي لم يكونوا يعلمونه وقالت فرقة : المعنى فإذا كنتم آمنين قبل أو بعد ، كأنه قال : فمتى كنتم على أمن فاذكروا الله ، أي صلوا الصلاة التي قد علمتموها ، أي فصلوا كما علمكم صلاة تامة ، حكاه النقاش وغيره .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقوله على هذا التأويل { ما لم تكونوا } بدل من { ما } التي في قوله { كما } ، وإلا لم يتسق لفظ الآية ، وعلى التأويل الأول { ما } مفعولة ب { علمكم } ، وقال مجاهد : «معنى قوله { فإذا أمنتم } ، فإذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة »( {[2335]} ) ، ورد الطبري على هذا القول( {[2336]} ) ، وكذلك فيه تحويم على المعنى كثير ، والكاف في قوله { كما } للتشبيه بين ذكر الإنسان لله ونعمة الله عليه في أن تعادلا ، وكان الذكر شبيهاً بالنعمة في القدر وكفاء لها ، ومن تأول { اذكروا } بمعنى صلوا على ما ذكرناه فالكاف للتشبيه بين صلاة العبد والهيئة التي علمه الله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإن خفتم} العدو، فصلوا {فرجالا أو ركبانا}: على أرجلكم أو على دوابكم، فصلوا ركعتين حيث كان وجهه إذا كان الخوف شديدا، فإن لم يستطع السجود، فليومئ برأسه إيماء، وليجعل السجود أخفض من الركوع، ولا يجعل جبهته على شيء.
{فإذا أمنتم} العدو، {فاذكروا الله}: فصلوا لله، {كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون}...
- يحيى: عن مالك، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف. قال: يتقدم الإمام وطائفة من الناس، فيصلي بهم الإمام ركعة، وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو لم يصلوا. فإذا صلى الذين معه ركعة، استأخروا مكان الذين لم يصلوا، ولا يسلمون ويتقدم الذين لم يصلوا، فيصلون معه ركعة، ثم ينصرف الإمام، وقد صلى ركعتين، فتقوم كل واحدة من الطائفتين، فيصلون لأنفسهم ركعة واحدة. بعد أن ينصرف الإمام: فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلوا ركعتين، فإن كان خوفا هوا أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بذلك: وقوموا لله في صلاتكم مطيعين له لما قد بيناه من معناه، فإن خفتم من عدو لكم، أيها الناس، تخشونهم على أنفسكم في حال التقائكم معهم أن تصلوا قياما على أرجلكم بالأرض قانتين لله، فصلوا "رجالا"، مشاة على أرجلكم، وأنتم في حربكم وقتالكم وجهاد عدوكم "أو ركبانا"، على ظهور دوابكم، فإن ذلك يجزيكم حينئذ من القيام منكم، قانتين.
وأما الركبان، فجمع راكب، يقال: هو راكب... أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال: سألته عن قوله: "فرجالا أو ركبانا"، قال: عند المطاردة، يصلي حيث كان وجهه، راكبا أو راجلا ويجعل السجود أخفض من الركوع، ويصلي ركعتين يومئ إيماء...
عن مجاهد في قول الله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في القتال على الخيل، فإذا وقع الخوف فليصل الرجل على كل جهة قائما أو راكبا، أو كما قدر على أن يومئ برأسه أو يتكلم بلسانه.
عن قتادة: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، الآية، أحل الله لك إذا كنت خائفا عند القتال، أن تصلي وأنت راكب، وأنت تسعى، تومئ برأسك من حيث كان وجهك، إن قدرت على ركعتين، وإلا فواحدة.
قال أبو جعفر: الخوف الذي للمصلي أن يصلي من أجله المكتوبة ماشيا راجلا وراكبا جائلا؛ الخوف على المهجة عند السلة والمسايفة في قتال من أمر بقتاله، من عدو للمسلمين، أو محارب، أو طلب سبع، أو جمل صائل، أو سيل سائل فخاف الغرق فيه.
وكل ما الأغلب من شأنه هلاك المرء منه إن صلى صلاة الأمن، فإنه إذا كان ذلك كذلك، فله أن يصلي صلاة شدة الخوف حيث كان وجهه، يومئ إيماء لعموم كتاب الله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، ولم يخص الخوف على ذلك على نوع من الأنواع، بعد أن يكون الخوف، صفته ما ذكرت.
وإنما قلنا إن الخوف الذي يجوز للمصلي أن يصلي كذلك، هو الذي الأغلب منه الهلاك بإقامة الصلاة بحدودها، وذلك حال شدة الخوف، لأن: محمد بن حميد وسفيان بن وكيع حدثاني قالا حدثنا جرير، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف: يقوم الأمير وطائفة من الناس معه فيسجدون سجدة واحدة، ثم تكون طائفة منهم بينهم وبين العدو. ثم ينصرف الذين سجدوا سجدة مع أميرهم، ثم يكونون مكان الذين لم يصلوا، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون مع أميرهم سجدة واحدة. ثم ينصرف أميرهم وقد قضى صلاته، ويصلي بعد صلاته كل واحد من الطائفتين سجدة لنفسه، وإن كان خوف أشد من ذلك "فرجالا أو ركبانا"...
عن ابن عمر قال: إذا اختلطوا -يعني في القتال- فإنما هو الذكر، وإشارة بالرأس. قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"وإن كانوا أكثر من ذلك، فيصلون قياما وركبانا".
ففصل النبي بين حكم صلاة الخوف في غير حال المسايفة والمطاردة، وبين حكم صلاة الخوف في حال شدة الخوف والمسايفة، على ما روينا عن ابن عمر. فكان معلوما بذلك أن قوله تعالى ذكره: "فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، إنما عنى به الخوف الذي وصفنا صفته.
وأما عدد الركعات في تلك الحال من الصلاة، فإني أحب أن لا يقصر من عددها في حال الأمن. وإن قصر عن ذلك فصلى ركعة، رأيتها مجزئة، لأن: ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.
"فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ":"فإذا أمنتم"، أيها المؤمنون، من عدوكم أن يقدر على قتلكم في حال اشتغالكم بصلاتكم التي فرضها عليكم- ومن غيره ممن كنتم تخافونه على أنفسكم في حال صلاتكم- فاطمأننتم، "فاذكروا الله" في صلاتكم وفي غيرها بالشكر له والحمد والثناء عليه، على ما أنعم به عليكم من التوفيق لإصابة الحق الذي ضل عنه أعداؤكم من أهل الكفر بالله، كما ذكركم بتعليمه إياكم من أحكامه، وحلاله وحرامه، وأخبار من قبلكم من الأمم السالفة، والأنباء الحادثة بعدكم- في عاجل الدنيا وآجل الآخرة، التي جهلها غيركم وبصركم، من ذلك وغيره، إنعاما منه عليكم بذلك، فعلمكم منه ما لم تكونوا من قبل تعليمه إياكم تعلمون.
وكان مجاهد يقول في قوله: "فإذا أمنتم ": خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة
وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد: فإذا أمنتم فصلوا الصلاة كما افترض الله عليكم- إذا جاء الخوف كانت لهم رخصة.
وقوله ها هنا:"فاذكروا الله"، قال: الصلاة، "كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون".
وهذا القول الذي ذكرنا عن مجاهد، قول غيره أولى بالصواب منه، لإجماع الجميع على أن الخوف متى زال، فواجب على المصلي المكتوبة- وإن كان في سفر- أداؤها بركوعها وسجودها وحدودها، وقائما بالأرض غير ماش ولا راكب، كالذي يجب عليه من ذلك إذا كان مقيما في مصره وبلده، إلا ما أبيح له من القصر فيها في سفره. ولم يجر في هذه الآية للسفر ذكر، فيتوجه قوله:"فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون"، إليه. وإنما جرى ذكر الصلاة في حال الأمن، وحال شده الخوف، فعرف الله سبحانه وتعالى عباده صفة الواجب عليهم من الصلاة فيهما. ثم قال: "فإذا أمنتم" فزال الخوف، فأقيموا صلاتكم وذكري فيها وفي غيرها، مثل الذي أوجبته عليكم قبل حدوث حال الخوف.
وبعد، فإن كان جرى للسفر ذكر، ثم أراد الله تعالى ذكره تعريف خلقه صفة الواجب عليهم من الصلاة بعد مقامهم، لقال: فإذا أقمتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ولم يقل: "فإذا أمنتم".
وفي قوله تعالى ذكره:"فإذا أمنتم"، الدلالة الواضحة على صحة قول من وجه تأويل ذلك إلى الذي قلنا فيه، وخلاف قول مجاهد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} ليس فيه أن ذلك في الصلاة، لكنهم صرفوا إليها ذلك، لأنه ذكر على إثر ذكر الصلاة. ثم اختلف فيه: قولوا: ركبانا على الدواب حيث ما توجهت بهم الدواب يصلون عليها في حال السير والوقوف. وعلى ذلك جاءت الآثار من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، في النوافل، فتكون الفرائض عند العذر به مرادة بالآية، بل على ما ظهر فعل النوافل في غيره بالسنة.
وأما قوله: {فرجالا} فمما اختلف فيه؛ قولهم: ما يكون {فرجالا} فمشاة، هو من الرجل، وترجل مشى راجلا. وأما عندنا فهو على المعروف من الصلاة على الأرجل والأقدام قياما وقعودا، لا يزال عن الظاهر والمعروف الذي عرف الفعل به على ما عرف من الصلاة على الأرجل، وقوله: {أو ركبانا} على ما عرف من الركوب، وهو في حال السير؛ ولم نر الصلاة تقوم مع المشي فيها. فإن قيل: صلاة الخوف فيها مشي، فقامت. قيل إن المشي في فعل الصلاة لأنهم في الوقت الذي يمشون لا يفعلون فعل الصلاة، وهو كما يقول: إن الصلاة لا تقوم مع الحدث. فإن أحدث فيها، فذهب ليتوضأ، ليسهو في وقت الحدث مصليا، وإن بقي في حكم الصلاة. فعلى ذلك المشي في الصلاة، ليس هو في فعل الصلاة، وإن كان باقيا على حكم الصلاة، والله أعلم...
{فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون}: [يحتمل أن يصرف قوله]: {فاذكروا} إلى الصلاة؛ أي صلوا كما علمكم أن تصلوا في حال الأمر، ويحتمل أن يصرف إلى غيره من الأذكار كقوله تعالى: {ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45]، ويحتمل أن يصرف إلى الشكر؛ أي اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، واشكروها بي كقوله تعالى: {فاذكروني أذكركم} [البقرة: 152]، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي لا تُخِلُّوا بمناجاتي لأوقاتها على الوصف الذي أمكنكم، فإن ما تحسونه من أعدائكم أنا سلّطتُهم عليكم، فإذا خلوتم بي بقلوبكم قصرت أيديهم عنكم، وجعلت لكم الظفر عليهم، ثم إذا زال عنكم الخوف وأمنتم، فعودوا إلى استقراركم باستفراغ أوقاتكم في الاعتكاف بحضرتي سراً وجهراً...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
قوله تعالى: {فإنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أوْ رُكْباناً} لما ذكر الله تعالى وجوب الصلاة بشروطها وحدودها، وأمر بالقنوت والصمت وملازمة الخشوع وترك العمل، قال تعالى: {فإنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أوْ رُكباناً}، أرخص في جواز ترك بعض الشروط، تعظيماً لأمرها، وتأكيداً لوجوبها...
وفي الآية أيضاً دليل على أن الماشي يصلي في القتال على حسب حاله، لأنه تعالى قال: {فإنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أوْ رُكْباناً}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال الحرالي: ما من حكم شرعه الله في السعة إلا وأثبته في الضيق والضرورة بحيث لا يفوت في ضيقه بركة من حال سعته ليعلم أن فضل الله لا ينقصه وقت ولا يفقده حال، وفيه إشعار بأن المحافظة على الصلاة في التحقيق ليس إلا في إقبال القلب بالكلية على الرب، فما اتسع له الحال ما وراء ذلك فعل وإلا اكتفى بحقيقتها، ولذلك انتهت الصلاة عند العلماء في شدة الخوف إلى تكبيرة واحدة يجتمع إليها وحدها بركة أربع الركعات التي تقع في السعة، وفيها على حالها من البركة في اتساع الرزق وصلاح الأهل ما في الواقعة في السعة مع معالجة النصرة لعزيمة إقامتها على الإمكان في المخافة، وقد وضح باختلاف أحوال صلاة الخوف أن حقيقتها أنها لا صورة لها، فقد صح فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة صورة وزيادة صور في الأحاديث الحسان...
وروى البخاري في التفسير عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كيفية في صلاة الخوف ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها. قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني لأن مثل ذلك لا يقال من قبل الرأي.
{فإذا أمنتم} أي حصل لكم الأمن مما كان أخافكم. ولما كان المراد الأعظم من الصلاة الذكر وهو دوام حضور القلب قال مشيراً إلى أن صلاة الخوف يصعب فيها ذلك منبهاً بالاسم الأعظم على ما يؤكد الحضور في الصلاة وغيرها من كل ما يسمى ذكراً {فاذكروا الله} أي الذي له الأمر كله. قال البغوي: أي فصلوا الصلوات الخمس تامة بحقوقها. قال الحرالي: أظهر المقصد في عمل الصلاة وأنه إنما هو الذكر الذي هو قيام الأمن والخوف... فكأنه سبحانه وتعالى لما منع مما ليس من الصلاة من الأقوال والأفعال استثنى الأفعال حال الخوف فأبقيت على الأصل لكن قد روى الشافعي رضي الله تعالى عنه وصرحه في كتاب اختلاف الحديث من الأم وأبو داود والنسائي... عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة- الحديث في أنه لما رجع من الحبشة قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة" وحكم بأنه قيل حديث ذي اليدين لما في بعض طرقه مما يقتضي أن رجوعه كان قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو كذلك، لكن عاصم له أوهام في الحديث وإن كان حجة في القراءة فلا يقوى حديثه لمعارضة ما في الصحيحين من حديث زيد الماضي المغيا بنزول الآية. والبقرة مدنية كما في الصحيح في فضائل القرآن عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه في النكاح وغيره أنه صلى الله عليه وسلم بنى بها وهي بنت تسع سنين وأقامت عنده تسعاً، فيكون ذلك في السنة الثانية من الهجرة...
ولما أمر سبحانه وتعالى بالذكر عند الأمن علله بقوله: {كما علمكم} أي لأجل إنعامه عليكم بأن خلق فيكم العلم المنقذ من الجهل، فتكون الكاف للتعليل وقد جوزه أبو حيان في النهر ونقله في موضع آخر منه عن النحاة -والله سبحانه وتعالى أعلم {ما لم تكونوا تعلمون} بما آتاكم على لسان هذا النبي الكريم من الأحكام التي تقدمت في هذه السورة المفصلة ببدائع الأسرار من الأصول ودقائق العلوم كلها. قال الحرالي: من أحكام هيئة الصلاة في الأعضاء والبدن وحالها في النفس من الخشوع والإخبات والتخلي من الوسواس وحالها في القلب من التعظيم والحرمة، وفي إشارته ما وراء ظاهر العلم من أسرار القلوب التي اختصت بها أئمة هذه الأمة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام هذا التأكيد للمحافظة وبيان أن الصلاة لا تسقط بحال، لأن حال الخوف على النفس أو العرض أو المال من مظنة العذر في الترك، كما يكون السفر عذرا في ترك الصيام، وكالأعذار الكثيرة لترك صلاة الجمعة، واستبدال صلاة الظهر بها، والسبب في عدم سقوط الصلاة عن المكلف بحال أنها عمل قلبي، وإنما فرضت فيها تلك الأعمال الظاهرة لأنها مساعدة على العمل القلبي المقصود بالذات، وهو تذكير سلطان الله تعالى المستولي علينا وعلى العالم كله، ومن شأن الإنسان إذا أراد عملا قلبيا يجتمع فيه الفكر، ويصح فيه توجه النفس وحضور القلب، أن يستعين على ذلك ببعض ما يناسبه من قول وعمل...
ولا ريب أن هذه الهيئة التي اختارها الله تعالى للصلاة هي أفضل معين على استحضار سلطانه، وتذكر كرمه وإحسانه، فإن قولك "الله أكبر "في فاتحة الصلاة وعند الانتقال فيها من عمل إلى عمل يعطيك من الشعور بكون الله أكبر وأعظم من كل شيء تشغل به نفسك، وتوجه إليه همك، ما يغمر روحك، ويستولي على قلبك وإرادتك،
وفي قراءة الفاتحة من الثناء على الله تعالى وتذكر رحمته وربوبيته ومعاهدته على اختصاصك إياه بالعبادة والاستعانة، ومن دعائه لأن يهديك صراطه الذي استقام عليه ومن سبقت لهم منه النعمة من عباده الصالحين ما فيها... وكل ما تقرأه من القرآن بعد الفاتحة له في النفس آثار محمودة تختلف باختلاف ما في القرآن من المعارف العالية، والحكمة البالغة، والعبر العظيمة، والهادية القويمة،
وانحناؤك للركوع وللسجود بعد ذلك يقوي في النفس معنى العبودية، وتذكر عظمة الألوهية ونعم الربوبية، لما في هذين العملين من علامة الخضوع والخروج عن المألوف، وما شرع فيهما من تسبيح الله، وتذكر عظمته وعلوه جل ثناؤه...
فإذا تعذر عليك الإتيان ببعض الأعمال البدنية، فإن ذلك لا يسقط عنك هذه العبادة القلبية، التي هي روح الصلاة وغيرها وهي الإقبال على الله تعالى واستحضار سلطانه مع الإشارة إلى تلك الأعمال بقدر الإمكان، الذي لا يمنع من مدافعة الخوف الطارئ من سبع مفترس، أو عدو مغتال، أو لص محتال، وكيف يسقط طلب الصلاة القلبية في حال الخوف وهو يساعد على الخروج منه، أو تخفيف وقعه، فالآية تعلمنا أنه يجب أن لا يذهلنا عن الله تعالى شيء من الأشياء، ولا يشغلنا عنه شاغل ولا خوف في حال من الأحوال، ولذلك قال: {فإن خفتم فرجالا أو ركبنا} أي فصلوا مشاة أو راكبين كيفما اتفق وهذا في حالة الملاحمة في القتال أو مقاومة العدو ودفع الصائل أو الفرار من الأسد، أي ممارسة ذلك الفعل، فإن كان الوقت وقت صلاة على المكلف راجلا أو ركبانا لا يمنعه من صلاته الكر والفر، ولا الطعن والضرب، ويأتي من أقوال الصلاة بما يأتي من الحضور والذكر ويومئ بالركوع والسجود بقدر الاستطاعة، ولا يلتزم التوجه إلى القبلة. وأما صلاة الخوف في هذه الحالة كصلاة الجند المعسكر بإزاء العدو جماعة فهي مذكورة في سورة النساء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما إذا كان الخوف الذي لا يدع مجالا لإقامة الصلاة تجاه القبلة، فإن الصلاة تؤدي ولا تتوقف. يتجه الراكب على الدابة والراجل المشغول بالقتال ودفع الخطر حيث يقتضيه حاله، ويومئ إيماءة خفيفة للركوع والسجود. وهذه غير صلاة الخوف التي بين كيفيتها في سورة النساء. فالمبينة في سورة النساء تتم في حالة ما إذا كان الموقف يسمح بإقامة صف من المصلين يصلي ركعة خلف الإمام بينما يقف وراءه صف يحرسه. ثم يجيء الصف الثاني فيصلي ركعة بينما الصف الأول الذي صلى أولا يحرسه.. أما إذا زاد الخوف وكانت الموقعة والمسايفة فعلا، فتكون الصلاة المشار إليها هنا في سورة البقرة. وهذا الأمر عجيب حقا. وهو يكشف عن مدى الأهمية البالغة التي ينظر الله بها إلى الصلاة، ويوحي بها لقلوب المسلمين. إنها عدة في الخوف والشدة. فلا تترك في ساعة الخوف البالغ، وهي العدة. ومن ثم يؤديها المحارب في الميدان، والسيف في يده، والسيف على رأسه. يؤديها فهي سلاح للمؤمن كالسيف الذي في يده. وهي جنة له كالدرع التي تقيه. يؤديها فيتصل بربه أحوج ما يكون للاتصال به، وأقرب ما يكون إليه والمخافة من حوله... إن هذا الدين عجيب. إنه منهج العبادة. العبادة في شتى صورها والصلاة عنوانها، وعن طريق العبادة يصل بالإنسان إلى أرفع درجاته. وعن طريق العبادة يثبته في الشدة، ويهذبه في الرخاء. وعن طريق العبادة يدخله في السلم كافة ويفيض عليه السلام والاطمئنان.. ومن ثم هذه العناية بالصلاة والسيوف في الأيدي وفي الرقاب!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تفريع على قوله: {وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] للتنبيه على أن حالة الخوف لا تكون عذراً في ترك المحافظة على الصلوات، ولكنها عذر في ترك القيام لله قانتين، فأفاد هذا التفريع غرضين: أحدهما بصريح لفظه، والآخر بلازم معناه...
وقوله: {كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} الكاف للتشبيه أي اذكروه ذكراً يشابه ما من به عليكم من علم الشريعة في تفاصيل هذه الآيات المتقدمة، والمقصود من المشابهة المشابهة في التقدير الاعتباري، أي أن يكون الذكر بنية الشكر على تلك النعمة والجزاء، فإن الشيء المجازى به شيء آخر يعتبر كالمشابه له، ولذلك يطلق عليه اسم المقدار، وقد يسمون هذه الكاف كاف التعليل، والتعليل مستفاد من التشبيه، لأن العلة على قدر المعلول.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ولأن الصلاة لها تلك المنزلة، لم تسقطها رخصة، ولا تجب على فريق دون فريق، فلها عموم الوحدانية، ولها لزوم الشهادتين، فأكثر العبادات قد تسقط عن فريق دون فريق إلا الصلاة، فإنه لا رخصة لسقوطها، ولذا وجبت في حال الأمن والخوف، وقال تعالى في حال الخوف: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} هذا بيان ما يجب من الصلاة حال الخوف، وهي أعم من حال الحرب، وأخص منها، فبينهما ما يسميه المناطقة عموم وخصوص من وجه، فإن حال الخوف قد تكون في حال الحرب، وقد تكون في غيرها كهجوم وحش مفترس، وحال الحرب ليست دائما حال خوف، فقد يكون فيها وقت يأمن على نفسه فيصلي آمنا مؤديا الأركان بالجوارح...
و إيجاب الصلاة في حال الخوف وحال الأمن يدل على أمرين:
أحدهما – أن الصلاة ركن لا يقبل السقوط إلا في حال العجز التام حتى عن الصلاة بالإيماء، وقد نوهنا إلى ذلك من قبل، وبينا أنها اختصت من بين الفرائض العملية بذلك.
ثانيهما –أن الصلاة... كما تؤدى بالحركات كاملة، تؤدى بالإشارة إليها بما يكون في وسع المكلف القيام به، وذلك لأن الصلاة كما قلنا، في لب معناها، اتجاه قلبي إلى الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء...
قد يقول قائل: إن الصلاة إذا كان ذلك لب معناها فلماذا كانت تلك الحركات؟ ألا يغني فيها الاتجاه القلبي، وحصر الذهن والنفس لله، وفي ذلك عمران القلب بذكر الله وامتلاء النفس بهيبته؟... وقد قاله بعض المقلدين الفرنجة، واتبعوا من زعم أن ذلك طريق الإصلاح الخلقي. وقد يكون ذلك القول مجديا لو كان يمكن تحقق معناه من غير تلك الحركات، ومن غير هذه الأقوال التي تشتمل عليها الصلاة. إن هذه الحركات معين لاستذكار القلب، وامتلاء الفكر بعظمة الله سبحانه وتعالى، والأقوال التي تقال في الصلاة هي لهذا الاستحضار، ف (الله أكبر) التي تتكرر عند الانتقال من حال إلى حال هي في معناها لملء النفس بعظمة الله، والآيات التي تتلى هي حمد لله، وثناء على الله سبحانه وتعالى، وشعور بالربوبية وسلطان الله سبحانه مالك يوم الدين، ودعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم، وتجنب طريق الضالين. والحركات هي مظاهر الطاعة والخضوع، والقيام بحق الربوبية.. وهكذا كل قول وفعل في الصلاة إنما هو لتوجيه القلب نحو الملكوت الأعلى، و ذكر الله العلي القدير، اللطيف الخبير... و لا يمكن استحضار القلب لذكر الله بغيرها، بل إنها تكون ثمرة ذلك الاستحضار، فإن القلب إذا شعر بعظمة الله نطق اللسان بها وتطامنت الرأس خضوعا، وخر الإنسان ساجدا صاغرا لله رب العالمين...
إذن فالحق سبحانه وتعالى فصل بآية: (حافظوا على الصلوات..) بين قضية واحدة هي قضية الفراق بين الزوجين وقسّمها قسمين، وأدخل بينهما الحديث عن الصلاة، وذلك لينبهنا إلى وحدة التكاليف الإيمانية، ونظرا لأن الحق يتكلم هن عن أشياء كل مظاهرها إما شقاق اختياري بالطلاق، وإما افتراق قدري بالوفاة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يدخل الإنسان في العملية التعبّدية التي تصله بالله الذي شرّع الطلاق والصلاة وقدّر الوفاة. ولماذا اختار الله الصلاة دون سائر العبادات لتقطع سياق الكلام عن تشريع الطلاق والفراق؟ لأن الصلاة هي التي تهب المؤمنين الاطمئنان، إن كانت أمور الزواج والطلاق حزبتهم وأهمتهم في شقاق الاختيار في الطلاقات التي وقعت أو عناء الافتراق بالوفاة. ولن يربط على قلوبهم إلا أن يقوموا لربهم ليؤدوا الصلاة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من يفعل ذلك، كان إذا ما حزبه أمر قام إلى الصلاة. إن المؤمن يذهب إلى الخالق الذي أجرى له أسباب الزواج والطلاق والفراق؛ ليسأله أن يخفف عنه الهم والحزن. ومادام المؤمن قد اختار الذهاب إلى من يُجري الأقدار فله أن يعرف أن الله الذي أجرى تلك الأقدار عليه لم يتركها بلا أحكام، بل وضع لكل أمر حكما مناسبا، وما على المؤمن إلا أن يأخذ الأمور القدرية برضا ثم يذهب إلى الله قانتا وخاشعا ومصليا. لأن المسألة مسألة الطلاق أو الوفاة فيها فزع وفراق اختيار أو فراق الموت القدري...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنَّ اللّه يريد للإنسان أن يبقى معه في وجدانه الروحي، وفي وعيه لعبوديته للّه وربوبيته له، وارتباطه به، وحاجته إليه، وتوكله عليه في كلّ أموره... حتى يكون مع ربه دائماً، ليعصمه ذلك من السقوط تحت تأثير الضعف، والانحراف تحت تأثير الغفلة، والاهتزاز النفسي والعملي تحت ضغط الهزاهز الروحية والواقعية... ولذلك أراده أن يأتي بالصلاة في جميع الأحوال، حتى في حالات الخوف التي تتجمع فيها الأخطار من حوله، لأنَّ ذلك ما يثبته ويقويه، ويوحي إليه أنَّ اللّه فوق ذلك كلّه؛ لأنَّ القوّة له جميعاً. إنَّ اللجوء إلى الصلاة في حالات الخوف يمنح الإنسان قوّة روحية معنوية تمنعه من الضعف والاهتزاز، والسقوط تحت تأثير الضغوط القاسية التي تفرضها عناصر الخوف عليه. وبذلك قد نجد تشريع الصلاة في هذه الحالات أشدّ ضرورة من تشريعها في الحالات الأخرى، لأنها هي الحالات التي يشعر الإنسان فيها بالحاجة إلى قوّة غير عادية تحميه وتخلصه مما فيه، أو تعينه على الثبات في خطّ المجابهة عندما تضعف قوّته الطبيعية. ولعلّ هذا ما يلتقي بالطبيعة الإنسانية التي يلجأ الإنسان من خلالها إلى اللّه في حالات الخوف من الغرق عند اشتداد الأمواج واهتزاز السفينة؛ وذلك هو قول اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22].
وقد يلفت النظر ورود هاتين الآيتين في سياق أحكام الطلاق والعلاقة الزوجية، ولكن قد يكون السبب في ذلك بعض مناسبات الحديث عن الطاعة في ما تقدّم من الآيات، لأنَّ الصلاة هي الوجه البارز في خضوع الإنسان للّه وطاعته له؛ واللّه العالم.