1- سورة " غافر " هي السورة الأربعون في ترتيب المصحف أما ترتيبها في النزول لهي السورة التاسعة والخمسون من السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة " الزمر " .
ويبدو –والله أعلم- أن الحواميم ، كان نزولها على حسب ترتيبها في المصحف ، فقد ذكر صاحب الإتقان عند حديثه عن المكي والمدني من القرآن ، وعن ترتيب السور على حسب النزول .
ذكر سورة الزمر ، ثم غافر ، ثم فصلت ، ثم الشورى ، ثم الزخرف ، ثم الدخان ، ثم الجاثية ، ثم الأحقاف( {[1]} ) .
2- والمحققون من العلماء على أن سورة " غافر " من السور المكية الخالصة ، وقد حكى أبو حيان الإجماع على ذلك ، كما أن الإمام ابن كثير قال عنها بأنها مكية دون أن أن يستثني منها شيئا .
وقيل : كلها مكية إلا قوله –تعالى- : [ إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ، إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه . . . الآية ] .
ولكن هذا القيل وغيره لم تنهض له حجة يعتمد عليها ، فالرأي الصحيح أنها جميعها مكية .
3- وهذه السورة تسمى –أيضا- بسورة " المؤمن " لاشتمالها على قصة مؤمن آل فرعون . كما تسمى بسورة " الطول " لقوله –تعالى- في أوائلها : [ غافر الذنب ، وقابل التوب ، شديد العقاب ، ذي الطول . . . ] .
وعدد آياتها خمس وثمانون آية في المصحف الكوفي والشامي ، وأربع وثمانون في الحجازي ، واثنتان وثمانون في البصري .
4- وسورة " غافر " هي أول السور السبعة التي تبدأ بقوله –تعالى- [ حم ] والتي يطلق عليها لفظ " الحواميم " .
وقد ذكر الإمام ابن كثير من الآثار في فضل هذه السور ، منها : ما روي عن ابن مسعود أنه قال : " آل حم " ديباج القرآن . . ومنها ما روي عن ابن عباس أنه قال : " إن لكل شيء لبابا ، ولباب القرآن آل حم أو قال " الحواميم " ( {[2]} ) .
5- وقد افتتحت السورة الكريمة بالثناء على الله –تعالى- ، وبتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما لقيه من أذى المشركين ومن جدالهم ، وببيان وظيفة الملائكة الذي يحملون عرشه –تعالى- ، وأن منها الاستغفار للمؤمنين ، والدعاء لهم بقولهم –كما حكى القرآن عنهم- : [ . . . ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ، وقهم عذاب الجحيم . ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ، إنك أنت العزيز الحكيم . وقهم السيئات ، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته ، وذلك هو الفوز العظيم ] .
6- ثم دعا –سبحانه- عباده إلى إخلاص الطاعة له ، وذكرهم بأهوال يوم القيامة ، وأنا الملك في هذا اليوم إنما هو لله –تعالى- وحده .
قال –تعالى- : [ فادعو الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق . يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء ، لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ] .
7- وبعد أن وبخ –سبحانه- الغافلين على عدم اعتبارهم بسوء عاقبة من سبقهم من الكافرين ، أتبع ذلك بجانب من قصة موسى –عليه السلام- مع فرعون وهامان وقارون ، وحكى ما دار بين موسى –عليه السلام- وبين هؤلاء الطغاة من محاورات .
كما حكى ما وجهه الرجل المؤمن من آل فرعون إلى قومه من نصائح حكيمة ، منها قوله –كما حكى القرآن عنه- : [ وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب . مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، وما الله يريد ظلما للعباد . ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد . يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم ، ومن يضلل الله فما له من هاد ] .
8- وبعد أن ساق –سبحانه- تلك التوجيهات الحكيمة التي وجهها ذلك الرجل المؤمن –الذي يكتم إيمانه- إلى قومه . . . أتبع ذلك بحكاية جانب من المحاورات التي تدور بين الضعفاء والمتكبرين بعد أن ألقى بهم جميعا في النار .
كما حكى –سبحانه- ما يقولونه لخزنة جهنم على سبيل الاستعطاف والتذلل فقال : [ وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب . قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ] .
9- ثم ساق –سبحانه- بعد ذلك ألوانا من نعمه على عباده ، لكي يشكروه عليها ، ومن تلك النعم : إيجاده الليل والنهار ، وجعله الأرض قرارا والسماء بناء ، وتصويره الناس في أحسن تقويم ، وتحليله لهم الطيبات ، وخلقه لهم في أطوار متعددة .
قال –تعالى- : [ هو الذي خلقكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم يخرجكم طفلا ، ثم لتبلغوا أشدكم ، ثم لتكونوا شيوخا ، ومنكم من يتوفى من قبل ، ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون ] .
10- ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ، فوبختهم على جهالاتهم وعنادهم ، وهددتهم بسوء المصير ، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم أن يصبر على أذاهم ، وذكرته بأحوال الرسل السابقين مع أقوامهم ، وأنذرت مشركي مكة بأن مصيرهم سيكون كمصير المشركين من قبلهم ، إذ ما استمروا في طغيانهم وكفرهم ، وأنهم لن ينفعهم الإيمان عند حلول العذاب بهم .
قال –تعالى- : [ فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده ، وكفرنا بما كنا به مشركين . فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ، سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ] .
11- هذا ، والمتدبر في سورة " غافر " بعد هذا العرض المجمل لآياتها يراها قد أقامت أنصع الأدلة وأفواها على وحدانية الله –تعالى- وقدرته ، كما يراها قد ساقت ألوانا من التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما لحقه من قومه ، تارة عن طريق قصص الأنبياء السابقين مع أقوامهم ، وتارة عن طريق التصريح بأن العاقبة سنكون له ولأتباعه ، كما في قوله –تعالى- : [ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ] .
كما يراها قد فصلت الحديث عن تكريم الله –تعالى- لعباده المؤمنين ، تارة عن طريق استغفار الملائكة لهم ، وتضرعهم إلى خالقهم أن يبعد الذين آمنوا من عذاب الجحيم .
قال –تعالى- : [ الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ، ويؤمنون به ، ويستغفرون للذين آمنوا ، ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ] .
وتارة عن طريق وعدهم بإجابة دعائهم ، كما في قوله –تعالى- : [ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ] .
كما يراها قد اهتمت بالحديث عن مصارع الغابرين ، بأسلوب يغرس الخوف في القلوب ، ويبعث على التأمل والتدبر .
كما في قوله –تعالى- : [ كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم ، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، فأخذتهم ، فكيف كان عقاب ] .
وكما في قوله –تعالى- : [ أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم ، وما كان لهم من الله من واق ] .
كما يراها قبل كل ذلك وبعد كل ذلك لها أسلوبها البليغ المؤثر في إحقاق الحق وإبطال الباطل ، وفي تثبيت المؤمن وزلزلة الكافر ، وفي تعليم الدعاة كيف يخاطبون غيرهم بأسلوب مؤثر حكيم ، نراه متمثلا في تلك النصائح الغالية التي وجهها مؤمن آل فرعون إلى قومه . والتي حكاها القرآن في قوله [ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ، أتقتلون رجلا أن يقول ربي ا لله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم ، وإن يك كاذبا فعليه كذبه ، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم ، إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ] .
نسأل الله –تعالى- أن ينفعنا بتوجيهات القرآن الكريم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
سورة " غافر " من السور التى افتتحت ببعض الحروف المقطعة ، وهو قوله - تعالى - : { حما } .
وقد ذكرنا آراء العلماء فى تلك الحروف المقطعة بشئ من التفصيل ، عند تفسيرنا لسور : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس . .
وقلنا ما خلاصته : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة ، قد جئ بها فى افتتاح بعض السور : على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن .
فكأنه - سبحانه - يقول لهؤلاء المعاندين والمعارضين فى أن القرآن من عند الله : ها كم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم فى شك فى أنه من عند الله - تعالى - فهاتوا مثله ، أو عشر سور فى مثله ، أو سورة واحدة من مثله ، فعجزوا وانقلبوا خاسرين ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
تفسير سورة غافر{[1]}
هذه السورة مكية بإجماع ، وقد روي في بعض آياتها أنها مدنية{[2]} وهذا ضعيف والأول أصح وهذه الحواميم التي روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها ديباج القرآن{[3]} ووقفه الزجاج على ابن مسعود ومعنى هذه العبارة أنها خلت من الأحكام وقصرت على المواعظ والزجر وطرق الآخرة محضا{[4]} وأيضا فهي قصار لا يلحق فيها قارئها سآمة وروي أن عبد الله بن مسعود روى أن النبي عليه السلام قال من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ الحواميم{[5]} وهذا نحو الكلام الأول في المعنى وقال عليه السلام مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب{[6]}
تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور ، وتلك الأقوال كلها تترتب في قوله : { حم } ويختص هذا الموضع بقول آخر ، قاله الضحاك . والكسائي : إن { حم } هجاء «حُمَّ » بضم الحاء وشد الميم المفتوحة ، كأنه يقول : { حُمَّ الأمر ووقع تنزيل الكتاب من الله }{[9953]} . وقال ابن عباس : { الر } [ يونس : 1 ، هود : 1 ، إبراهيم : 1 ، يوسف : 1 ، الحجر : 1 ] و : { حم } [ غافر : 1 ، فصلت : 1 ، الشورى : 1 ، الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1 ] و : { ن } [ القلم : 1 ] هي حروف الرحمن مقطعة في سور ، وقال القرظي أقسم الله بحلمه وملكه{[9954]} . وسأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن : { حم } ما هو ؟ فقال بدء أسماء وفواتح سور .
وقرأ ابن كثير : فتح الحاء ، وروي عن أبي عمرو : كسر الحاء{[9955]} على الإمالة ، وروي عن نافع : الفتح ، وروي عنه : الوسط بينهما ، وكذلك اختلف عن عاصم ، وروي عن عيسى كسر الحاء على الإمالة ، وقرأ جمهور الناس : «حَمْ » بفتح الحاء وسكون الميم ، وقرأ عيسى بن عمر أيضاً { حم } بفتح الحاء وفتح الميم الأخيرة في النطق ، ولذلك وجهان : أحدهما التحريك للالتقاء مع الياء الساكنة ، والآخر : حركة إعراب ، وذلك نصب بفعل مقدر تقديره : «اقرأ حم » ، وهذا على أن تجري مجرى الأسماء ، الحجة منه قول شريح بن أوفى العبسي : [ الطويل ]
يذكرني حم والرمح شاجر . . . فهلا تلا حم قبل التقدم{[9956]}
وجدنا لكم في آل حم آية . . . تأولها منا تقيّ ومعرب{[9957]}
وقرأ أبو السمال : { حم } بفتح الحاء وكسر الميم الآخرة ، وذلك لالتقاء الساكنين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه السورة مكية بإجماع، وقد روي في بعض آياتها أنها مدنية وهذا ضعيف والأول أصح، وهذه الحواميم التي روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها ديباج القرآن ووقفه الزجاج على ابن مسعود، ومعنى هذه العبارة أنها خلت من الأحكام وقصرت على المواعظ والزجر وطرق الآخرة محضا، وأيضا فهي قصار لا يلحق فيها قارئها سآمة، وروي أن عبد الله بن مسعود روى أن النبي عليه السلام قال: من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ الحواميم. وهذا نحو الكلام الأول في المعنى. وقال عليه السلام مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة تعالج قضية الحق والباطل. قضية الإيمان والكفر. قضية الدعوة والتكذيب وأخيراً قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق، وبأس الله الذي يأخذ العالين المتجبرين.. وفي ثنايا هذه القضية تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ونصر الله إياهم، واستغفار الملائكة لهم، واستجابة الله لدعائهم، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم.
وجو السورة كله -من ثم- كأنه جو معركة. وهي المعركة بين الحق والباطل، وبين الإيمان والطغيان، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والتنكيل. تنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين!
ذلك الجو يتمثل في عرض مصارع الغابرين، كما يتمثل في عرض مشاهد القيامة -وهذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر- وتعرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة متناسقة مع جو السورة كله، مشتركة في طبع هذا الجو بطابع العنف والشدة.
ولعله مما يتفق مع هذه السمة افتتاح السورة بإيقاعات ذات رنين خاص: (غافر الذنب. وقابل التوب. شديد العقاب. ذي الطول. لا إله إلا هو. إليه المصير).. فكأنما هي مطارق منتظمة الجرس ثابتة الوقع، مستقرة المقاطع، ومعانيها كذلك مساندة لإيقاعها الموسيقي!
كذلك نجد كلمة البأس. وبأس الله. وبأسنا.. مكررة تتردد في مواضع متفرقة من السورة. وهناك غيرها من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها.
وعلى العموم فإن السورة كلها تبدو وكأنها مقارع ومطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين. وقد ترق أحياناً فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس هذا القلب برفق، وهي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين، أو وهي تعرض عليه الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية.
ونضرب بعض الأمثال التي ترسم جو السورة وظلها من هذه وتلك..
من مصارع الغابرين: (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق. فأخذتهم. فكيف كان عقاب؟).. (أو لم يسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم، كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض، فأخذهم الله بذنوبهم؛ وما كان لهم من الله من واق. ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا، فأخذهم الله، إنه قوي شديد العقاب)..
ومن مشاهد القيامة: (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين. ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع).. (الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون..)
ومن اللمسات الندية مشهد حملة العرش في دعائهم الخاشع المنيب: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا. ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم. وقهم السيئات، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته. وذلك هو الفوز العظيم)..
ومن اللمسات الموحية عرض آيات الله في الأنفس وفي الآفاق: (هو الذي خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم يخرجكم طفلاً، ثم لتبلغوا أشدكم، ثم لتكونوا شيوخاً. ومنكم من يتوفى من قبل، ولتبلغوا أجلاً مسمى، ولعلكم تعقلون. هو الذي يحيي ويميت. فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون).. (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً. إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. ذلكم الله ربكم خالق كل شيء. لا إله إلا هو فأنى تؤفكون؟).. (الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم. ورزقكم من الطيبات. ذلكم الله ربكم. فتبارك الله رب العالمين).
وهذه وتلك تصور جو السورة وترسم ظلها، وتتناسق مع موضوعها وطابعها.
ويجري سياق السورة بموضوعاتها في أربعة أشواط متميزة.
يبدأ الشوط الأول منها بافتتاح السورة بالأحرف المقطعة: (حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم) تتلوها تلك الإيقاعات الرصينة الثابتة: (غافر الذنب. وقابل التوب. شديد العقاب ذي الطول. لا إله إلا هو. إليه المصير).. ثم تقرر أن الوجود كله مسلم مستسلم لله. وأنه لا يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فيشذون عن سائر الوجود بهذا الجدال. ومن ثم فهم لا يستحقون أن يأبه لهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مهما تقلبوا في الخير والمتاع. فإنما هم صائرون إلى ما صارت إليه أحزاب المكذبين قبلهم؛ وقد أخذهم الله أخذاً، بعقاب يستحق العجب والإعجاب! ومع الأخذ في الدنيا فإن عذاب الآخرة ينتظرهم هناك.. ذلك بينما حملة العرش ومن حوله يعلنون إيمانهم بربهم، ويتوجهون إليه بالعبادة، ويستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض، ويدعون لهم بالمغفرة والنعيم والفلاح.. وفي الوقت ذاته يعرض مشهد الكافرين يوم القيامة وهم ينادون من أرجاء الوجود المؤمن المسلم المستسلم: (لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون).. وهم في موقف الذلة والانكسار بعد الاستكبار، يقرون بذنبهم، ويعترفون بربهم، فلا ينفعهم الاعتراف والإقرار، إنما يذكرون بما كان منهم من شرك واستكبار.. ومن هذا الموقف بين يدي الله في الآخرة يعود بالناس إلى الله في الدنيا.. (هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً) ويذكرهم لينيبوا إلى ربهم ويوحدوه: (فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون). ويشير إلى الوحي والإنذار بذلك اليوم العصيب. ويستطرد إلى مشهدهم يوم القيامة: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء) وقد توارى الجبارون والمتكبرون والمجادلون: (لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار).. ويستمر في عرض صور من هذا اليوم الذي يتفرد الله جل جلاله فيه بالحكم والقضاء. ويتوارى فيه ويضمحل ما يعبدون من دونه، كما يتوارى الطغاة والفجار..
ويبدأ الشوط الثاني بلفتة إلى مصارع الغابرين قبلهم. مقدمة لعرض جانب من قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون وهامان وقارون. تمثل موقف الطغيان من دعوة الحق. وتعرض فيها حلقة جديدة لم تعرض في قصة موسى من قبل، ولا تعرض إلا في هذه السورة. وهي حلقة ظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه. يدفع عن موسى ما هموا بقتله؛ ويصدع بكلمة الحق والإيمان في تلطف وحذر في أول الأمر، ثم في صراحة ووضوح في النهاية. ويعرض في جدله مع فرعون حجج الحق وبراهينه قوية ناصعة؛ ويحذرهم يوم القيامة، ويمثل لهم بعض مشاهده في أسلوب مؤثر؛ ويذكرهم موقفهم وموقف الأجيال قبلهم من يوسف -عليه السلام- ورسالته.. ويستطرد السياق بالقصة حتى يصل طرفها بالآخرة. فإذا هم هناك. وإذا هم يتحاجون في النار. وإذا حوار بين الضعفاء والذين استكبروا، وحوار لهم جميعاً مع خزنة جهنم يطلبون فيه الخلاص. ولات حين خلاص! وفي ظل هذا المشهد يوجه الله رسوله [صلى الله عليه وسلم] إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق، والتوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار.
فأما الشوط الثالث فيبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان إنما يدفعهم إلى هذا كبر في نفوسهم عن الحق، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر. ويوجه القلوب حينئذ إلى هذا الوجود الكبير الذي خلقه الله، وهو أكبر من الناس جميعاً. لعل المتكبرين يتصاغرون أمام عظمة خلق الله؛ وتتفتح بصيرتهم فلا يكونون عمياً: (وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء. قليلاً ما تتذكرون). ويذكرهم بمجيء الساعة، ويوجههم إلى دعوة الله الذي يستجيب للدعاء. فأما الذين يستكبرون فسيدخلون جهنم أذلاء صاغرين. ويعرض في هذا الموقف بعض آيات الله الكونية التي يمرون عليها غافلين. يعرض الليل سكناً والنهار مبصراً. والأرض قراراً والسماء بناء. ويذكرهم بأنفسهم وقد صورهم فأحسن صورهم. ويوجههم إلى دعوة الله مخلصين له الدين. ويلقن الرسول [صلى الله عليه وسلم] أن يبرأ من عبادتهم، ويعلن نهي ربه له عن آلهتهم، وأمره له بالإسلام لرب العالمين. ويلمس قلوبهم بأن الله الواحد هو الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة.. وهو الذي يحيي ويميت. ثم يعود فيعجب رسوله [صلى الله عليه وسلم] من أمر الذين يجادلون في الله؛ وينذرهم عذاب يوم القيامة في مشهد عنيف: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون).. وإذ يتخلى عنهم ما أشركوا وينكرون هم أنهم كانوا يعبدون شيئاً! وينتهي بهم الأمر إلى جهنم يقال لهم: (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين).. وعلى ضوء هذا المشهد يوجه الله رسوله إلى الصبر مرة أخرى، والثقة بأن وعد الله حق. سواء أبقاه حتى يشهد بعض ما يعدهم أو توفاه قبل أن يراه. فسيتم الوعد هناك..
والشوط الأخير في السورة يتصل بالشوط الثالث. فبعد توجيه الرسول [صلى الله عليه وسلم] للصبر والانتظار يذكر أن الله قد أرسل رسلاً قبله كثيرين. (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله).. على أن في الكون آيات قائمة، وبين أيديهم آيات قريبة؛ ولكنهم يغفلون عن تدبرها.. هذه الأنعام المسخرة لهم. من سخرها؟. وهذه الفلك التي تحملهم أليست آية يرونها! ومصارع الغابرين ألا تثير في قلوبهم العظة والتقوى؟ ويختم السورة بإيقاع قوي على مصرع من مصارع المكذبين، وهم يرون بأس الله فيؤمنون (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا. سنة الله التي قد خلت في عباده، وخسر هنالك الكافرون).. هذا الختام الذي يصور نهاية المتكبرين، ويتفق مع جو السورة وظلها وطابعها الأصيل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وردت تسمية هذه السورة في السنة (حم المؤمن) روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله وسلم "من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما "الحديث. وبذلك اشتهرت في مصاحف المشرق، وبذلك ترجمها البخاري في صحيحه والترمذي في الجامع. ووجه التسمية أنها ذكرت فيها قصة مؤمن آل فرعون ولم تذكر في سورة أخرى بوجه صريح...
وتسمى سورة غافر لذكر وصفه تعالى غافر الذنب في أولها. وبهذا الاسم اشتهرت في مصاحف المغرب...
وقد كانت هذه السورة مقروءة عقب وفاة أبي طالب، أي سنة ثلاث قبل الهجرة لما سيأتي أن أبا بكر قرأ آية {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} حين آذى نفر من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الكعبة، وإنما اشتد أذى قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب.
والسور المفتتحة بكلمة {حم} سبع سور مرتبة في المصاحف على ترتيبها في النزول ويدعى مجموعها آل حم جعلوا لها اسم آل لتآخيها في فواتحها. فكأنها أسرة واحدة وكلمة آل تضاف إلى ذي شرف ويقال لغير المقصود تشريفه أهل فلان...
وربما جمعت السور المفتتحة بكلمة {حم} فقيل ألحواميم...
وقد ثبت أنهم جمعوا {حم} على حواميم في أخبار كثيرة عن ابن مسعود، وابن عباس، وسمرة بن جندب، ونسب في بعض الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت بسند صحيح...
تضمنت هذه السورة أغراضا من أصول الدعوة إلى الإيمان، فابتدئت بما يقتضي تحدي المعاندين في صدق القرآن كما اقتضاه الحرفان المقطعان في فاتحتهما كما تقدم في أول سورة البقرة.
وأجري على اسم الله تعالى من صفاته ما فيه تعريض بدعوتهم إلى الإقلاع عما هم فيه، فكانت فاتحة السور مثل ديباجة الخطبة مشيرة إلى الغرض من تنزيل هذه السورة.
وعقب ذلك بأن دلائل تنزيل هذا الكتاب من الله بينة لا يجحدها إلا الكافرون من الاعتراف بها حسدا، وأن جدالهم تشغيب وقد تكرر ذكر المجادلين في آيات الله خمس مرات في هذه السورة، وتمثيل حالهم بحال الأمم التي كذبت رسل الله بذكرهم إجمالا، ثم التنبيه على آثار استئصالهم وضرب المثل بقوم فرعون.
وموعظة مؤمن آل فرعون قومه بمواعظ تشبه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم قومه.
والتنبيه على دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية إجمالا.
وإبطال عبادة ما يعبدون من دون الله.
والتذكير بنعم الله على الناس ليشكره الذين أعرضوا عن شكره.
وإنذارهم بما يلقون من هوله وما يترقبهم من العذاب، وتوعدهم بأن لا نصير لهم يومئذ وبأن كبراءهم يتبرؤون منهم.
وتثبيت الله رسوله ص بتحقيق نصر هذا الدين في حياته وبعد وفاته.
وتخلل ذلك الثناء على المؤمنين ووصف كرامتهم وثناء الملائكة عليهم.
وورد في فضل هذه السورة الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله من قرأ حم المؤمن إلى {إليه المصير} وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
فصول هذه السورة مترابطة مما يسوغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
...قوله "حم"... القول في ذلك عندي نظير القول في أخواتها، وقد بيّنا ذلك.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
الحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة، وأمثالها: من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
أحسن الآراء أنها كلمات يراد بها التنبيه في أول الكلام نحو (ألا) و (يا) وينطق بأسمائها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة بدء سبع سور كلها تبدأ بالحرفين: حا. ميم. منها سورة واحدة يذكر فيها بعد هذين الحرفين ثلاثة حروف أخر: عين. سين. قاف. وقد سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور. وأنها إشارة إلى صياغة هذا القرآن منها. وهو معجز لهم مع تيسير هذه الأحرف لهم ومعرفتهم بها، وهي أحرف لغتهم التي يتحدثونها ويكتبونها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
القول فيه كالقول في نظائره من الحروف المقطّعة في أوائل السور، وأن معظمها وقع بعده ذكر القرآن وما يشير إليه لِتحدّي المنكرين بالعجز عن معارضته. وقد مضى ذلك في أول سورة البقرة.