التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنٗا وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ} (35)

ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك بعض الدعوات التى تضرع بها إبراهيم - عليه السلام - إلى ربه ، وهى دعوات تدل على شكره لخالقه ، وحسن صلته به ، ورجائه فى فضله . . فقال - تعالى - :

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل . . . } .

هذه بعض الدعوات التى ابتهل بها إبراهيم - عليه السلام - إلى ربه ، وقد تقبلها الله - تعالى - منه قبولا حسنا .

وفى هذه الدعوات تنبيه لمشركى مكة الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، والذين جحدوا نعم الله عليهم ، بأن من الواجب عليهم أن يثوبوا إلى رشدهم ، وأن يستجيبوا لدعوة الحق ، وأن يقتدوا بإبراهيم - عليه السلام - فى إيمانه وشكره لخالقه - سبحانه - .

و " إذ " ظرف لما مضى من الزمان ، وهو منصوب على المفعولية لفعل محذوف .

و " رب " منادى بحرف نداء محذوف أى : يا رب .

والمراد بالبلد : مكة المكرمة شرفها الله - تعالى - .

والمعنى : إبراهيم - عليه السلام - فى دعائه نعمة الأمن على غيرها - لأنها أعظم أنواع النعم ، ولأنها إذا فقدها الإِنسان ، اضطرب فكره ، وصعب عليه أن يتفرغ لأمور الدين أو الدنيا بنفس مطمئنة ، وبقلب خال من المنغصات المزعجات .

قال الإِمام الرازى : " سئل بعض العلماء : الأمن أفضل أم الصحة ؟ فقال الأمن أفضل ، والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان ، ولا يمنعها هذا الكسر من الإِقبال على الرعى والأكل والشرب .

ولو أنها ربطت - وهى سليمة - فى موضع ، وربط بالقرب منها ذئب ، فإنها تمسك عن الأكل والشرب ، وقد تستمر على ذلك إلى أن تموت .

وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف ، أشد من الضرر الحاصل من ألم الجسد .

وقال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : " يذكر الله - تعالى - فى هذا المقام - محتجا على مشركى مكة الذين كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم قد تبرأ ممن عبد غير الله ، وأنه دعا لمكة بالأمن وقد استجاب الله له فقال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ . . } وقال - تعالى - : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً . . } وقال صاحب الكشاف : " فإن قلت : أى فرق بين قوله - تعالى - فى سورة البقرة { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً . . } وبين قوله هنا { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً . . . } .

قلت : قد سأل فى الأول أن يجعله من جملة البلاد التى يأمن أهلها ولا يخافون ، وسأل فى الثانى أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن ، كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمنا . . "

وقوله - سبحانه - { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } حكاية لدعوة أخرى من الدعوات التى تضرع بها إبراهيم - عليه السلام - إلى خالقه - سبحانه - .

وقوله { واجنبنى } بمعنى وأبعدنى مأخوذ من قولك جنبت فلانا عن كذا ، إذا أبعدته عنه ، وجعلته فى جانب آخر ، وفعله جنب من باب نصر .

والمراد ببنيه : أولاده من صلبه ، أوهم من تناسل معهم .

والأصنام جمع صنم ، وهو التمثال الذى كان مشركوا العرب يصنعونه من الحجر الحجر ونحوه لكى يعبدوه من دون الله .

والمعنى : أسألك يا ربى أن تجعل مكة بلدا آمنا ، كما أسألك أن تعصمنى وتعصم ذريتى من بعدى من عبادة الأصنام ، وأن تجعل عبادتنا خالصة لوجهك الكريم .

وقد بين - سبحانه - فى آيات أخرى ، أنه قد أجابه فى بعض ذريته دون بعض .

ومن ذلك قوله - تعالى - { سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين . وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين . وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ }

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنٗا وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ} (35)

المعنى : واذكر إذ قال إبراهيم ، و { البلد } : مكة ، و { آمناً } معناه فيه أمن ، فوصفه بالأمن تجوزاً - كما قال : { في يوم عاصف } [ إبراهيم : 18 ] ، وكما قال الشاعر :

وما ليل المطي بنائم{[7086]} . . . { واجنبني } معناه : وامنعني ، يقال : جنبه كذا وجنبه وأجنبه : إذا منعه من الأمر وحماه منه .

وقرأ الجحدري والثقفي «وأجنِبني » بقطع الألف وكسر النون .

وأراد إبراهيم بني صلبه ، وكذلك أجيبت دعوته فيهم ، وأما باقي نسله فعبدوا الأصنام ، وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه ومن حصل في رتبته ، فكيف يخاف أن يعبد صنماً ؟ ! لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدى بها في الخوف وطلب الخاتمة .

و { الأصنام } هي المنحوتة على خلقة البشر ، وما كان منحوتاً على غير خلقة البشر فهي أوثان ، قاله الطبري عن مجاهد .


[7086]:هذا جزء من بيت، وهو بتمامه: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت و ما ليل المطي بنائم وقد سبق الاستشهاد به عند تفسير قوله تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد . ...} الآية، من هذه السورة (صفحة 221 هامش 1).