ثم بين - سبحانه - ما ينبغي اتباعه عند حصول الطلاق وإمضائه حتى لا يقع ظلم أو جور فقال - تعالى - : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف } .
قال القرطبي : تعضلوهن معناه تحبسوهن ، ودجاجة معضل أي : قد احتبس بيضها ، وقيل : العضل التضييق والمنع وهو راجع إلى معنى الحبس . يقال : أعضل الأمر : إذا ضاقت عليك فيه الحيل . قال الأزهري : وأصل العضل من قولهم : عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه ويقال أعضل الأمر إذا اشتد ، وداء عضال أي شديد عسر البرء أعيا الأطباء . . . " .
والمعنى : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن أي : انقضت عدتهن وخلت الموانع من زواجهن ، فلا تمنعوهن من الزواج بمن يردن الزواج به ، متى حصل التراضي بين الأزواج والزوجات على ما يحسن في الدين ، وتقره العقول السليمة ، ويجري به العرف الحسن .
والمراد ببلوغ الآجل هنا بلوغ أقصى العدة ، بخلاف البلوغ في الآية التي قبل هذه ، فإن المراد به المشارفة والمقاربة كما أشرنا من قبل لأن المعنى يحتم ذلك ، والخطاب هنا للأزواج وللأولياء ولكل من له تأثير على المرأة المطلقة ، وذلك لأن منع الزوجة من الزواج بعد انقضاء عدتها قد يكون من جانب الزوج السابق ، لا سيما إذا كان صاحب جاه وسلطان وسطوة ، فإنه يعز عليه أن يتزوج مطلقته أحد بعده فيمنعها من الزواج .
وقد يكون المنع من جانب الأولياء ، وقد أورد المفسرين آثاراً تشهد لذلك منها - كما يقول الآلوسي - ما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود من طرق شتى عن معقل بن يسار قال : كان لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه ، فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقه ، ولم يراجعها حتحى انقضت العدة ، فهويها وهوته ثم خطبها مع الخطاب . فقلت له : أكرمتك بها وزوجتكما فطلقتها ثم جئت تخطبها ، والله لا ترجع إليك أبداً ، وكان رجلا لا بأس به ، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه ، فعلم الله - تعالى - حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل هذه الآية . ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه . . " .
وعبر - سبحانه - عن الرجال الذين هم محل الرضا من النساء بالأزواج فقال { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } مع أن الزواج لم يتحقق بعد ، للإِشارة إلى الحقيقة المقررة الثابتة ، وهي أن من يقع اختيارها عليه ، ولم يكن اقترانها به فيه ما يشينها أو يشين أسرتها ، فمن الواجب ألا يمانع أحد في إتمام هذا الزواج ، بل على الجميع أن يقروه وينفذوه ، لأن شريعة الله والفطرة الإِنسانية يقضيان بذلك .
وقوله : { أَن يَنكِحْنَ } تقديره : من أن ينكحن فهو في محل جر عند الخليل والكسائي وفي محل نصب عند غيرهما ، وقوله : { إِذَا تَرَاضَوْاْ } ظرف لأن ينكحن أو لقوله : { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } وقوله : { بالمعروف } متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل تراضوا ، أو هو نعت لمصدر محذوف أي تراضياً كائناً بالمعروف أو هو متعلق بتراضوا . أي تراضوا بما يحسن في الدين والمروءة ، وفيه إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفء أو بما دون مهر المثل ليس من العضل المنهي عنه .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .
أي : ذلك القول الحكين ، والتوجيه الكريم المشتمل على أفضل الأحكام وأسماها يوعظ به ، ويستجيب له من كان منكم عميق الإِيمان بالله - تعالى - وبثوابه وبعقابه يوم القيامة . لذكلم الذي شرعه الله لكم - أيها المؤمنون - من ترك عضل النساء والإِضرار بهن وغير ذلك من الأحكام { أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } أي أعظم بركة ونفعاً ، وأكثر تطهيراً من دنس الآثام ، فإن المرأة إذا عوملت معاملة كريمة ، ولم تظلم في رغباتها المشروعة ، التمزمت في سلوكها العفاف والخلق الشريف ، أما إذا شعرت بالظلم والامتهان فإن هذا الشعور قد يدفعها إلى ارتكاب ما نهى الله عنه .
والله تعالى يعلم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، فامتثلوا ما أمركم به واجتنبوا ما نهاكم عنه تفوزوا وتسعدوا .
والإِشارة بقوله : { ذلك } إلى ما فصل من أحكام وما أمر به من أفعال والخطاب لكل من يصلح للخطاب من المكلفين .
وخصص الوعظ بالمؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون به ، وترق معه قلوبهم وتخشع له نفوسهم .
وأتى - سبحانه - بضمير الجمع { ذلكم } بعد أن قال في صدر الجملة { ذلك } للإشارة إلى أن حماية المرأة من الهوان ومنع التضييق عليها في اختيار زوجها واجب على جميع المؤمنين ، وأن فائدة ذلك ستعود عليهم جميعاً ما دام هذا الاختيار في حدود الآداب التي جاء بها الإِسلام .
وقوله : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } رد على كل معترض على تطبيق شريعة الله ، أو متهاون في ذلك بدعوى أنها ليست صالحة للظروف التي يعيش ذلك المعترض أو هذا المتهاون فيها ، لأن شرع الله فيه النفع الدائم والمصلحة الحقيقية ، والنتائج المرضية ، لأنه شرع من يعلم كل شيء ولا يجهل شيئاً ، ويعلم ما هو الأنفع والأصلح للناس في كل زمان ومكان ، ولم يشرع لهم - سبحانه - إلا ما فيه مصلحتهم ومنفعتهم ، وما دام علم الله - تعالى - هو الكامل ، وعلم الإِنسان علم قاصر ، فعلينا أن نتبع شرع الله في كل شئوننا ، ولنقل لأولئك المعترضين أو المتهاونين : سيروا معنا في طريق الحق فذلكم { أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .
وبعد : فهذه خمس آيات قد تحدثت عن جملة من الأحكام التي تتعلق بالطلاق ، وإذا كان الإِسلام قد شرع الطلاق عند الضرورة التي تحتمها مصلحة الزوجين ، فإنه في الوقت نفسه قد وضع كثيراً من التعاليم التي يؤدي اتباعها إلا الإبقاء على الحياة الزوجية ، وعلى قيامها على المودة والرحمة ، ومن ذلك :
1 - أنه أرشد أتباعه إلى أفضل السبل لاختيار الزوج ، بأن جعل أساس الاختيار الدين والتقوى والخلق القويم ، لأنه متى كان كل من الزوجين متحلياً بالإِيمان والتقوى ، استقرت الحياة الزوجية بينهما ، وقامت على المودة والرحمة وحسن المعاشرة .
2 - أنه أمر كلا الزوجين بأن يبذل كل واحد منهما قصارى جهده في أداء حق صاحبه ، وإدخال السرور على نفسه ، فإذا ما نجم خلاف بينهما فعليهما أن يعالجاه بالحكمة والعدل ، وأن يجعلا الأناة والصبر رائدهما ، فإن الحياة الزوجية بحكم استمرارها وتشابك مطالبها لا تخلو من اختلاف بين الزوجين .
3 - دعا الإِسلام إلى الإِصلاح ما بين الزوجين إن ابتدأت العلاقة تسير في غير طريق المودة ، فقال - تعالى - { وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً والصلح خَيْرٌ . . . } كما دعا أولى الأمر أن يتدخلوا للإِصلاح بين الزوجين عند نشوب الشقاق بينهما أو عند خوفه فقال - تعالى - { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } .
4 - نهى الإِسلام عن إيقاع الطلاق على الزوجة في حال حيضها ، أو في حال طهر باشرها فيه ، لأن المرأة في هاتين الحالتين قد تكون على هيئة لا تجعل الرجل مشوقاً إليها . . .
وأباح له أن يوقع الطلاق في طهر لم يجامعها فيه ، لأن إيقاعه في هذه الحالة يكون دليلا على استحكم النفرة بينهما .
5 - نهى الإِسلام عن الطلاق البات بالنسبة للمرأة المدخول بها ، وأمر الزوج بأن يجعل طلاقه رجعياً ، وأعطاه فرصة طويلة تقرب من ثلاثة أشهر ليراجع خلالها نفسه ، فإن وجد الخير في مراجعة زوجته راجعها بقصد الإِصلاح واستمرار الحياة الزوجية ، وإن وجد الخير في غير ذلك تركها حتى تنقضي عدتها وفارقها بالمعروف عملا بقوله - تعالى - : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } .
6 - جعل الإِسلام الطلاق بيد الرجل ، لأنه هو الذي وقعت عليه معظم أعباء الزواج ، وهو الذي سيتحمل ما سيترتب على الطلاق من تكاليف ، ولا شك أنه بمقتضى هذه التكاليف وبمقتضى حرصه على استقرار حياته ، سيتأنَّى ويتروى فلا يوقع الطلاق إلا إذا كان مضطراً إلى ذلك .
كما أن الإِسلام أباح للمرأة أن تفتدي نفسها من زوجها ، أو ترفع أمرها للقاضي ليفرق بينها وبينه إذال تيقنت من استحالة استمرار الحالة الزوجية بينهما لأي سبب من الأسباب . وفي هذه الحالة فللقاضي أن يفرق بينهما إذا رأى أن المصلحة تقتضي ذلك .
7 - أباح الإِسلام للرجل الذي طلق امرأته ثلاثاً أن يعود إليها من جديد ، وذلك بعد طلاقها من رجل آخر يكون قد تزوجها زواجاً شرعياً وانقضت عدتها منه ، وفي ذلك ما فيه من التأديب لهما ، والتهذيب لسلوكهما .
8 - وردت أحاديث متعددة تنهى عن إيقاع الطلاق إلا عند الضرورة وتتوعد المرأة التي تطلب من زوجها أن يطلقها بدون سبب معقول بالعذاب الشديد ، ومن ذلك ما رواه أبو داود والترمذي عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس - أي من غير عذر شرعي أو سبب قوي - فحرام عليها رائحة الجنة " وروى أبو داود وغيره عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " .
هذه بعض التشريعات التي وضعها الإِسلام لصيانة الحياة الزوجية من التصدع والانهيار ، ومنها نرى أن الإِسلام وإن كان قد شرع الطلاق ، إلا أنه لا يدعو إليه إلا إذا كانت مصلحة الزوجين أو أحدهما تقتضيه وتستلزمه .
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( 232 )
وقوله تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن } الآية خطاب للمؤمنين الذين منهم الأزواج ومنهم الأولياء ، لأنهم المراد في { تعضلوهن }( {[2200]} ) ، وبلوغ الأجل في هذا الموضع تناهيه ، لأن المعنى يقتضي ذلك( {[2201]} ) ، وقد قال بعض الناس في هذا الموضع : إن المراد ب { تعضلوهنّ } ، الأزواج ، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة عضلاً عن نكاح الغير ، فقوله { أزواجهن } على هذا يعني به الرجال ، إذ منهم الأزواج ، وعلى أن المراد ب { تعضلوهن } الأولياء فالأزواج هم الذين كنَّ في عصمتهم( {[2202]} ) ، والعضل المنع من الزواج ، وهو من معنى التضييق والتعسير ، كما يقال أعضلت الدجاجة إذا عسر بيضها ، والداء العضال العسير البرء ، وقيل : نزلت هذه الآية في معقل بن يسار وأخته ، وقيل : في جابر بن عبد الله ، وذلك أن رجلاً طلق أخته ، وقيل بنت عمه( {[2203]} ) ، وتركها حتى تمت عدتها ، ثم أراد ارتجاعها فغار جابر ، وقال : «تركتها وأنت أملك بها ، لا زوجتكما أبداً » ، فنزلت الآية ، وهذه الآية تقتضي ثبوت حق الولي في إنكاح وليته ، وأن النكاح يفتقر إلى ولي ، خلاف قول أبي حنيفة إن الولي ليس من شروط النكاح ، وقوله { بالمعروف } معناه المهر والإشهاد .
وقوله تعالى : { ذلك يوعظ به من كان منكم } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : ثم رجوع إلى خطاب الجماعة : والإشارة في { ذلكم أزكى } إلى ترك العضل ، و { أزكى } و { أطهر } معناه أطيب للنفس وأطهر للعرض والدين ، بسبب العلاقات التي تكون بين الأزواج ، وربما لم يعلمها الولي فيؤدي العضل إلى الفساد والمخالطة على ما لا ينبغي ، والله - تعالى - يعلم من ذلك ما لا يعلم البشر .