ثم وصف - سبحانه - الخاشعين وصفاً يناسب المقام ، ويظهر وجه الاستعانة ، فقال - تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } .
الظن : يرد في أكثر الكلام بعنى الاعتقاد الراجح ، وهو ما يتجاوز مرتبة الشك ، وقد يقوي حتى يصل إلى مرتبة اليقين والقطع ، وهو المراد هنا ؛ ومثل ذلك قوله - تعالى -
{ أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } أي ألا يعتقد أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم . وقوله تعالى : { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } أي علمت أني ملاق حسابيه .
وملاقاة الخاشعين لربهم معناها الحشر إليه بعد الموت ، ومجازاتهم على ما قدموا من عمل .
والمعنى : إن الصلاة لثقيلة إلا على الخاشعين ، الذين يعتقدون لقاء الله - تعالى - يوم الحساب ، وأنهم عائدون إليه لينالوا ما يستحقونه من جزاء على حسب أعمالهم .
قال ابن جرير - مرجحاً أن المراد بالظن هنا العلم واليقين - : " إن قال لنا قائل : وكيف أخبر الله - تعالى - عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة أنه يظن أنه ملاقيه ، والظن شك ، والشاك في لقاء الله كافر ؟ قيل له : إن العرب قد تسمى اليقين ظناً : والشك ظناً ؛ نظير تسميتهم الظلمة سدفة ، والضاء سدفة ، والمغيث صارخاً ، والمستغيث صارخاً ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده ، ومما يدل على أنه يسمى به اليقين ، قول دريد بن الصمة : ( فقلت لهم ظنوا بألفى مدجج . . . ) .
يعني بذلك : تيقنوا أن ألفى مدجج تأتيكم ، ثم قال : والوشاهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصى ، وفيما ذكرنا لمن وفق في فهمه كافية ، ومنه قوله تعالى : { وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } وعن مجاهد قال : " كل ظن في القرآن فهو علم " .
والذين قالوا إن الظن هنا على معناه الحقيقي ، وهو الاعتقاد الراجح ، فسروا " ملاقاة الخاشعين لربهم " بمعنى قربهم من رضاه يوم القيامة " ورجوعهم إلأيه " بمعنى حلولهم بجواره الطيب ، واستقرارهم في جناته ، أي : وإن الصلاة لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يتوقعون قربهم من ربهم ، ودخولهم جناته عند رجوعهم إليه .
وإلى هذا التفسير ذهب صاحب الكشاف ، فقال قال : ( فإن قلت : ما لها لم تثقل على الخاشعين والخشوع في نفسه مما يثقل ؟ قلت : لأنهم يتوقعون ما ادخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم . ألا ترى إلى قوله تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ } أي يتوقعون لقاء ثوابه ، ونيل ما عنده ويطمعون فيه ) .
وإنما كان شعور الخاشعين بذلك كله ظناً لا يقيناً ، لأن خواتيم الحياة لا يعلمها كيف تكون سوى علام الغيوب ، ففي وصفهم بأنهم { يَظُنُّونَ } إشارة إلى خوفهم ، وعدم أمنهم مكر الله - تعالى - وهكذا يكون المؤمن دائماً بين الخوف والرجاء .
ومن هذا العرض لمعنى الآية الكريمة يتبين لنا ، أن من فسر الظن هنا بمعنى اليقين والعلم ، يرى أن لقاء الخاشعين لله معناه الحشر بعد الموت ، ورجوعهم إليه معناه مجازاتهم على أعمالهم والحشر والمجازاة يعتقد صحتهما الخاشعون اعتقاداً جازماً .
أما من فسر الظن هنا بمعنى الاعتقاد الراجح ، فيرى أن لقاء الخاشعين لله معناه توقعهم لقاء توابه ، ورجوعهم إليه معناه ظفرهم بجناته ، وتوقع الثواب والظفر بالجنات يرجح الخاشعون حصولهما لأن مرجعهما إلى فضل الله وحده .
والذي نراه أن الرأي الأول أكثر اتساقاً مع ظاهر معنى الآية الكريمة وبه قال قدماء المفسرين ، كمجاهد وأبي العالية وغيرهما .
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ( 46 )
و { يظنون } في هذه الآية قال الجمهور : معناه يوقنون( {[562]} ) .
وحكى المهدوي وغيره : أن الظن يصح أن يكون على بابه ، ويضمر في الكلام بذنوبهم ، فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا تعسف( {[563]} ) ، والظن في كلام العرب قاعدته الشك مع ميل إلى احد معتقديه ، وقد يوقع الظن موقع اليقين في الأمور المتحققة( {[564]} ) ، لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس ، لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر أظن هذا إنساناً وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس بعد ، كهذه الآية ، وكقوله تعالى : { فظنوا أنهم مواقعوها }( {[565]} ) [ الكهف : 53 ] وكقول دريد بن الصمة : [ الطويل ]
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج . . . سراتهُم بالفارسي المسرد( {[566]} )
وقوله تعالى : { أنهم ملاقو ربهم } أن وجملتها تسد مسد مفعولي الظن ، والملاقاة هي للعقاب أو الثواب ، ففي الكلام حذف مضاف ، ويصح أن تكون الملاقاة هنا( {[567]} ) بالرؤية التي عليها أهل السنة ، وورد بها متواتر الحديث .
وحكى المهدوي : أن الملاقاة هنا مفاعلة من واحد ، مثل عافاك الله .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا قول ضعيف ، لأن لقي يتضمن معنى لاقى ، وليست كذلك الأفعال كلها ، بل فعل( {[568]} ) خلاف فاعل في المعنى .
{ وملاقو } أصله ملاقون ، لأنه بمعنى الاستقبال فحذفت النون تخفيفاً ، فلما حذفت تمكنت الإضافة لمناسبتها للأسماء ، وهي إضافة غير محضة ، لأنها تعرف .
وقال الكوفيون : ما في اسم الفاعل الذي هو بمعن المجيء من معنى الفعل يقتضي إثبات النون وإعماله ، وكونه وما بعده اسمين يقتضي حذف النون والإضافة .
و { راجعون } قيل : معناه بالموت وقيل بالحشر والخروج إلى الحساب والعرض ، وتقوي هذا القول الآية المتقدمة قوله تعالى : { ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } [ البقرة : 28 ، الحج : 66 ، الروم : 40 ] والضمير في { إليه } عائد على الرب تعالى ، وقيل على اللقاء الذي يتضمنه { ملاقو } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.