التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا} (48)

وقوله { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } . استئناف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد ، ولتأكيد وجوب امتثال الأمر بالإِيمان ، لأنه لا مغفرة إذا انتفى الإِيمان .

والمراد بالشرك هنا : مطلق الكفر ؛ فيدخل فيه كفر اليهود دخولا أوليا .

والمعنى : إن الله لا يغفر لكم مات على كفره ، ويغفر ما دون الكفر من الذنوب والمعاصى لمن يشاء أن يغفر له إذا ما من غير توبة . فمن مات من المسلمين بدون توبة من الذنوب التى اقترفها فأمره مفوض إلى الله ، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة ، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة .

وقوله { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً } استئناف مشعر بتعليل عدم غفران الشرك ، وزيادة فى تشنيع حال المشرك .

أى . ومن يشرك بالله فى عبادته غيره من خلقه ، فقد ارتكب من الآثام ما لا يتعلق به المغفرة ، لأنه بهذا الإِشراك قد افترى الكذب العظيم على الله ، واقترف الإِفك المبين ، فعل أعظم ذنب فى الوجود : قال القرطبى : قوله - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } روى " أن النبى صلى الله عليه وسلم تلا { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } فقال له رجل : يا رسول الله والشرك ! ! فنزل : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } "

الآية . وهذا من المحكم المتفق عليه الذى لا اختلاف فيه بين الأمة .

وقوله { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } من المتشابه الذى قد تكلم العلماء فيه .

فقال ابن جرير الطبرى : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة فهو فى مشيئة الله إن شاء عفا عنه ذنبه ، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله - تعالى - .

وقد أورد ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية الكريمة ثلاثة عشر حديثا تتعلق بها .

ومن هذه الأحاديث ما رواه الحافظ أبو يعلى فى مسنده عن جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع فى الحجاب قيل يا نبى الله وما الحجاب ؟ قال : الإِشراك بالله . ثم قرأ : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } " الآية .

وروى ابن أبى حاتم وابن جرير عن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم لا نشك فى قاتل النفس ، وآكل مال اليتيم ، وشاهد الزور ، وقاطع الرحم ، حتى نزلت هذه الآية : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } وفى رواية لابن أبى حاتم : فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله - تعالى - .

وقال الآلوسى : ثم إن هذه الآية كما يرد بها على المعتزلة - الذين يسوون بين الإِشراك بالله وبين ارتكاب الكبيرة بدون توبة - يرد بها أيضا - على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه مخلد فى النار . وذكر الجلال أن فيها ردا أيضا على المرجئة القائلين : إن أصحاب الكبائر من المسلمين لا يعذبون .

وأخرج ابن الضريس وابن عدى بسند صحيح عن ابن عمر قال : " كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم قوله - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } وقال : " إنى ادخرت دعوتى وشفاعتى أهل الكبائر من أمتى فأمسكنا عن كثير مما كان فى أنفسنا ثم نطقنا ورجونا " وقد استبشر الصحابة بهذه الآية حتى قال على بن أبى طالب : أحب آية إلى فى القرآن { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا} (48)

وقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية ، هذه مسألة الوعد والوعيد ، وتلخيص الكلام فيها أن يقال : الناس أربعة أصناف ، كافر مات على كفره ، فهذا مخلد في النار بإجماع ، ومؤمن محسن لم يذنب قطّ ومات على ذلك ، فهذا في الجنة محتوم عليه حسب الخبر من الله تعالى بإجماع ، وتائب مات على توبته فهو عند أهل السنة وجمهور فقهاء الأمة لاحق بالمؤمن المحسن إلا أن قانون المتكلمين أنه في المشيئة ، ومذنب مات قبل توبته ، فهذا موضع الخلاف ، فقالت المرجئة : هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته ، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعيد كلها مخصصة في الكفار ، وآيات الوعد عامة في المؤمنين ، تقيّهم وعاصيهم .

وقالت المعتزلة : إذا كان صاحب كبيرة فهو في النار ولا بد ، وقالت الخوارج : إذا كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلد ولا إيمان له ، لأنهم يرون كل الذنوب كبائر ، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعد كلها مخصصة في المؤمن المحسن الذي لم يعص قط ، والمؤمن التائب ، وجعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كفاراً أو مؤمنين ، وقال أهل السنة والحق : آيات الوعد ظاهرة العموم ، وآيات الوعيد ظاهرة العموم ، ولا يصح نفوذ كلها لوجهه بسبب تعارضها ، كقوله تعالى : { لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى }{[4094]} وهذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد وقوله : { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم }{[4095]} فلا بد أن نقول : إن آيات الوعد لفظها لفظ عموم ، والمراد بها الخصوص في المؤمن المحسن ، وفي التائب ، وفيمن سبق في علمه تعالى العفو عنه دون تعذيب من العصاة ، وأن آيات الوعيد لفظها عموم ، والمراد بها الخصوص في الكفرة وفيمن سبق في علمه تعالى أنه يعذبه من العصاة ، ونحكم بقولنا : هذه الآية النص في موضع النزاع ، وهي قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فإنها جلت الشك وردت على الطائفتين ، المرجئة والمعتزلة ، وذلك أن قوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } فصل مجمع عليه ، وقوله : { ويغفر ما دون ذلك } فصل قاطع بالمعتزلة راد على قولهم رداً لا محيد عنه ، ولو وقفنا في هذا الموضع من الكلام لصح قول المرجئة ، فجاء قوله { لمن يشاء } راداً عليهم ، موجباً أن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم ، بخلاف ما زعموه من أنه مغفور لكل مؤمن .

قال القاضي أبو محمد : ورامت المعتزلة أن ترد هذه الآية إلى قولها ، بأن قالوا : «من يشاء » هو التائب ، وما أرادوه فاسد ، لأن فائدة التقسيم في الآية كانت تبطل ، إذ التائب من الشرك يغفر له .

قال القاضي أبو محمد : ورامت المرجئة أن ترد الآية إلى قولها بأن قالوا : { لمن يشاء } معناه : يشاء أن يؤمن ، لا يشاء أن يغفر له ، فالمشيئة معلقة بالإيمان ممن يؤمن ، لا بغفران الله لمن يغفر له ، ويرد ذلك بأن الآية تقتضي على هذا التأويل أن قوله : { ويغفر ما دون ذلك } عام في كافر ومؤمن ، فإذا خصص المؤمنون بقوله { لمن يشاء } وجب أن الكافرين لا يغفر لهم ما دون ذلك ، ويجازون به .

قال القاضي أبو محمد : وذلك وإن كان مما قد قيل - فهو مما لم يقصد بالآية على تأويل أحد من العلماء ، ويرد على هذا المنزع بطول التقسيم ، لأن الشرك مغفور أيضاً لمن شاء الله أن يؤمن .

قال القاضي أبو محمد : ومن آيات الوعيد التي احتج بها المعتزلة ، قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً }{[4096]} والآية مخرجة عنهم لوجوه ، منها : أن الأصح في تأويل قوله تعالى { متعمداً } ما قال ابن عباس : إنه أراد مستحلاً ، وإذا استحل أحد ما حرم الله عليه فقد كفر ، ويدل على ما قال ابن عباس : إنّا نجد الله تعالى في أمر القتل إذا ذكر القصاص لم يذكر الوعيد ، وإذا ذكر الوعيد بالنار لم يذكر القصاص ، فيظهر أن القصاص للقاتل المؤمن العاصي ، والوعيد للمستحل الذي في حكم الكافر ، ومنها من جهة أخرى أن الخلود إذا لم يقرن بقوله «أبداً » فجائز أن يراد به الزمن المتطاول ، إذ ذلك معهود في كلام العرب ، ألا ترى أنهم يحيّون الملوك بخلد الله ملكك ، ومن ذلك قول امرىء القيس : [ الطويل ]

وَهَلْ يَعِمَنْ إلاّ سعيدٌ مُخَلَّدٌ . . . قَليلُ الهمومِ ما يَبِيتُ بِأَوْجَالِ{[4097]}

وقال عبد الله بن عمرو لما نزلت { قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعاً }{[4098]} قال بعض أصحاب النبي عليه السلام : والشرك يا رسول الله ، فنزلت : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ولما حتم على أنه لا يغفر الشرك ذكر قبح موضعه وقدره في الذنوب ، والفرية : أشد مراتب الكذب قبحاً ، وهو الاختلاق للعصبية .


[4094]:- الآيتان (15، 16) من سورة (الليل).
[4095]:- من الآية (23) من سورة (الجن).
[4096]:- الآية (93) من سورة (النساء).
[4097]:- يعمن: ينعمن، الهموم: الأحزان، والوجل: الخوف، يقال: وجل كفرح ياجل، وييجل، ويوجل. وقبل هذا البيت يقول الشاعر: ألا عم صباحا أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي؟
[4098]:- من الآية (53) من سورة (الزمر).