التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (49)

ثم حكى - سبحانه - لونا آخر من قبائح اليهود فقال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً } .

روى المفسرون فى سبب نزول هاتين الآيتين " أن رجالا من اليهود أتوا النبى صلى الله عليه وسلم بأطفالهم فقالوا : يا محمد هل على هؤلاء ذنب ؟ فقال : لا . فقالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم . ما علمناه بالنهار كفر عنا بالليل ، وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار " .

ولقد حكى القرآن عن اليهود أنهم قالوا { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } وحكى عنهم أنهم كانوا { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } وحكى عنهم وعن النصارى أنهم قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ } للتعجب من أحوالهم ، والتهوين من شأنهم حيث بالغوا فى مدح أنفسهم مع أنهم كاذبون فى ذلك .

وقوله { يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } من التزكية بمعنى التطهير والتنزيه عن القبيح . والمراد بهذا التعبير هنا : أنهم يصفون أنفسهم بالأفعال الحسنة ، ويمدحونها مدحا كثيرا ، مع أنهم لا يستحقون إلا الذم بسبب سوء أقوالهم وأفعالهم .

والمعنى : ألم ينته علمك يا محمد إلى حال هؤلاء اليهود الذين يمدحون أنفسهم ويثنون عليها مختالين متفاخرين مع ما هم عليه من الكفر وسوء الأخلاق ؟ إن كنت لم تعلم أحوالهم أو لم تنظر إليهم فها نحن نكشف لك عن خباياهم لتتعجب من سوء أعمالهم وليتعجب منهم كل عاقل .

وقوله { بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } إبطال لمعتقدهم بإثبات ضده ، وهو أن التزكية شهادة من الله ولا ينفع أحدا أن يزكى نفسه ، وإعلام منه - سبحانه - بأن تزكيته هى التى يعتد بها لا تزكية غيره ، فإنه هو العالم بما ينطوى عليه الإِنسان من حسن وقبح ، وخير وشر .

وقوله { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } بيان لكمال عدله - سبحانه - وأنه لا يظلم أحدا من خلقه لا قليلا ولا كثيرا .

والفتيل : هو الخيط الذى يكون فى شق النواة . وكثيرا ما يضرب به المثل فى القلة والحقارة . أى أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم بغير حق يعاقبون على هذا الكذب بما يستحقون من عقاب عادل لا ظلم معه ؛ لأنه - سبحانه - لا يظلم أحدا من عباده شيئا بل يجازى كل إنسان بما هو أهل له من خير أو شر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (49)

هذا لفظ عام في ظاهره ، ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود ، واختلف في المعنى الذي به «زكوا أنفسهم » ، فقال قتادة والحسن : ذلك قولهم { نحن أبناء الله وأحباؤه }{[4099]} وقولهم : { لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً }{[4100]} وقال الضحاك والسدي : ذلك قولهم : لا ذنوب لنا وما فعلناه نهاراً غفر ليلاً ، وما فعلناه ليلاً غفر نهاراً ، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب ، وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة : تقديمهم أولادهم الصغار للصلاة لأنهم لا ذنوب لهم .

قال المؤلف : وهذا يبعد من مقصد الآية وقال ابن عباس : ذلك قولهم أبناؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا ، وقال عبد الله بن مسعود : ذلك ثناء بعضهم على بعض ، ومدحهم لهم وتزكيتهم لهم .

قال القاضي أبو محمد : فتقتضي هذه الآية الغض من المزكي لنفسه بلسانه ، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل{[4101]} ، والضمير في { يزكون } عائد على المذكورين ممن زكى نفسه أو ممن يزكيه الله تعالى ، وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمهم من غير هذه الآية ، وقرأت طائفة «ولا تظلمون » بالتاء على الخطاب ، «والفتيل » : هو ما فتل ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، وقال ابن عباس وعطاء ومجاهد وغيرهم : «الفتيل » : الخيط الذي في شق نواة التمرة ، وقال ابن عباس وأبو مالك والسدي : هو ما خرج من بين إصبعيك أو كفيك إذا فتلتهما ، وهذا كله يرجع إلى الكناية عن تحقير الشيء وتصغيره ، وأن الله لا يظلمه ، ولا شيء دونه في الصغر ، فكيف بما فوقه ، ونصبه على مفعول ثان ب { يظلمون }{[4102]} .


[4099]:- من الآية (18) من سورة (المائدة).
[4100]:- من قوله تعالى في الآية (111) من سورة البقرة: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، تلك أمانيهم}.
[4101]:- التزكية هي:التطهير والتبرئة من الذنوب.
[4102]:- يتأتى ذلك بتضمين (يظلمون) معنى ما يتعدى لاثنين.