وبعد أن ساقت السورة الكريمة جانبا من أقوال الذين لا يرجون لقاء الله ومن مقترحاتهم الباطلة ومن معتقداتهم الفاسدة ، أتبعت ذلك بتصوير بعض الطبائع البشرية تصويرا صادقا يكشف عن أحوال النفوس في حالتي السراء والضراء فقال - تعالى - :
{ وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ . . . } .
قوله { أَذَقْنَا } من الذوق وحقيقته إدراك الطعام ونحوه بالذوق باللسان واستعمل هنا على سبيل المجاز في إدراك ما يسر وما يؤلم من المعنويات كالرحمة والضراء .
قال الآلوسى " والمراد بالناس كفار مكة على ما قيل ، لما روى من أن الله - تعالى - سلط عليهم القحط سبع سنين ، حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه أن يدعو لهم بالخصب ، ووعدوه بالإِيمان ، فلما دعا لهم ورحمهم الله - تعالى - بالمطر ، طفقوا يطعنون وفى آياته - تعالى - ويعاندون نبيه - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل : " إن الناس عام لجميع الكفار " .
والضراء من الضر ، وهو ما يصيب الإِنسان وفى نفسه من أمراض وأسقام .
والمكر : هو التدبير الخفي الذي يفضي بالممكور به إلى ما لا يتوقعه من مضرة وكيد .
والمعنى : وإذا أذقنا الناس منا رحمة كأن منحناهم الصحة والسعادة والغني من بعد ضراء أصابتهم وفى أنفسهم أو فيمن يحبون ، ما كان منهم إلا بالمبادرة إلى الطعن وفى آياتنا الدالة على قدرتنا ، والاستهزاء بها والتهوين من شأنها .
وأسند إذاقته الرحمة إلى ضمير الجلالة ، وأسند المساس إلى الضراء ، رعاية للأدب مع الله - تعالى - ، لأنه وإن كان كل شيء من عنده ، إلا أن الأدب معه - سبحانه - يقتضي إسناد الخير إليه والشر إلى غيره كما وفى قوله - تعالى - : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } وفى الحديث : " اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك " .
وإذا الأولى شرطية ، والثانية فجائية والجملة بعدها جواب الشرط .
وجاء التعبير بإذا الفجائية في الجواب ، للإِشارة إلى توغلهم وفى الجحود والكنود فهم بمجرد أن حلت النعمة بهم محل النقمة ، عادوا إلى عنادهم وجهلهم ، ونسبوا كل خير إلى غيره - تعالى - .
قال الرازي : " واعلم أنه - تعالى - ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة وفى قوله - تعالى - { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ . . . } إلا أنه - تعالى - زاد وفى هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها وفى تلك الآية ، وتلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة .
وفى الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج والعناد والمكر .
وقوله : { قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } أمر من الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد عليهم بما يبطل مكرهم .
أى : قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين الذين يسرعون بالمكر وفى مقام الشكر ، إن الله - تعالى - أسرع مكراً منكم ؛ لأنه لا يخفى عليه بشيء من مكركم ، ولأن الحفظة من الملائكة يسجلون عليكم أقوالكم وأفعالكم ، التي ستحاسبون عليها وفى يوم القيامة حساباً عسيراً ، وسترون أن مكركم السيء لا يحيق إلا بكم .
وقوله : { أَسْرَعُ } أفعل تفضيل من الفعل الثلاثي سرع - كضخم وحسن - ، أو من الفعل الرباعي " أسرع " عند من يرى ذلك .
والجملة الكريمة تحقيق للانتقام منهم . وتنبيه على أن مكرهم الخفي غير خاف الحفظة من الملائكة فضلا عن الخالق - عز وجل - الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .
وسمى - سبحانه - إنكارهم لآياته واستهزاءهم بها مكراً ، لأنهم كانوا كثيراً ما يتجمعون سراً ، ليتشاوروا وفى المؤامرات التي يعرقولن بها سير الدعوة الإِسلامية ، وفى الشبهات التي يوجهونها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
{ وإذا أذقنا الناس رحمة } صحة وسعة . { من بعد ضرّاء مسّتهم } كقحط ومرض . { إذا لهم مكر في آياتنا } بالطعن فيها والاحتيال في دفعها . قيل قحط أهل مكة سبع سنين حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم الله بالحيا فطفقوا يقدحون في آيات الله ويكيدون رسوله . { قل الله أسرع مكرا } منكم قد دبر عقابكم قبل أن تدبروا كيدهم ، وإنما دل على سرعتهم المفضل عليها كلمة المفاجأة الواقعة جوابا لإذا الشرطية والمكر إخفاء الكيد ، وهو من الله تعالى أما الاستدراج أو الجزاء على المكر . { إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } تحقيق للانتقام وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه لم يخف على الحفظة فضلا أن يخفى على الله تعالى ، وعن يعقوب يمكرون بالياء ليوافق ما قبله .
لما حكى تمرد المشركين بيّن هنا أنهم في ذلك لاهون ببطرهم وازدهائهم بالنعمة والدَّعة فأنساهم ما هم فيه من النعمة أن يتوقعوا حدوث ضده فتفننوا في التكذيب بوعيد الله أفانين الاستهزاء ، كما قال تعالى : { وذرني والمكذبين أولي النّعمة ومهِّلهم قليلاً } [ المزمل : 11 ] .
وجاء الكلام على طريقة الحكاية عن حالهم ، والمُلقَى إليه الكلام هو النبي صلى الله عليه وسلم والمُؤمنون . وفيه تعريض بتذكير الكفار بحال حلول المصائب بهم لعلهم يتذكرون ، فيعدوا عدة الخوف من حلول النقمة التي أنذرهم بها في قوله { فانتظروا } [ يونس : 20 ] كما في الحديث : « تَعَرَّف إلى الله في الرخاء يَعْرِفْك في الشدة » فالمراد ب { الناس } الناس المعهودون المتحدث عنهم بقرينة السياق على الوجهين المتقدمين في قوله تعالى : { وإذا مَس الإنسان الضر دعانا لجنبه } [ يونس : 12 ] .
وقد قيل : إن الآية تشير إلى ما أصاب قريشاً من القحط سبعَ سنين بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ثم كَشف الله عنهم القحط وأنزل عليهم المطر ، فلما حيوا طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدون له . والقحط الذي أصاب قريشاً هو المذكور في سورة الدخان . وقد أنذروا فيها بالبطشة الكبرى . وقال ابن عباس : هي بطشة يوم بدر . فتكون هذه الآية قد نزلت بعد انقراض السبع السنين التي هي كسني يوسف وبعد أن حيُوا ، فتكون قد نزلت بعد سنة عشر من البعثة أو سنة إحدى عشرة .
والإذاقة : مستعملة في مطلق الإدراك استعارةً أو مجازاً ، كما تقدم في قوله : { ليذوق وبال أمره } في سورة [ العقود : 95 ] .
والرحمة : هنا مطلقة على أثر الرحمة ، وهو النعمة والنفع ، كقوله : { وينشر رحمته } [ الشورى : 28 ] .
والضراء : الضر . والمس : مستعمل في الإصابة . والمعنى إذا نالت الناس نعمة بعد الضر ، كالمطر بعد القحط ، والأمن بعد الخوف ، والصحة بعد المرض .
و ( إذا ) في قوله : { إذا لهم مكرٌ } للمفاجأة ، وهي رابطة لجواب ( إذا ) الشرطية لوقوعه جملة اسمية وهي لا تصلح للاتصال بإذا الشرطية التي تلازمها الأفعال إن وقعت ظرفاً ثم إن وقعت شرطاً فلا تصلح لأن تكون جواباً لها ، فلذلك أدخل على جملة الجواب حرف ( إذا ) الفجائية ، لأن حرف المفاجأة يدل على البِدار والإسراع بمضمون الجملة ، فيُفيد مُفاد فاء التعقيب التي يؤتى بها الربط جواب الشرط بشرطه ، فإذا جاء حرف المفاجأة أغنى عنها .
والمكرُ : حقيقته إخفاء الإضرار وإبرَازه في صورة المسألة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله } في سورة [ آل عمران : 54 ] .
و ( في ) من قوله : في آياتنا } للظرفية المجازية المرادُ منها الملابسة ، أي مكرهم المصاحب لآياتنا . ومعنى مكرهم في الآيات أنهم يمكرون مكراً يتعلق بها ، وذلك أنهم يوهمون أن آيات القرآن غير دالة على صدق الرسول ويزعمون أنه لو أنزلت عليه آية أخرى لآمنوا بها وهم كاذبون في ذلك وإنما هم يكذبونه عناداً ومكابرة وحفاظاً على دينهم في الشرك .
ولما كان الكلام متضمناً التعريض بإنذارهم ، أمر الرسول أن يعظهم بأن الله أسرع مكراً ، أي منكم ، فجعل مكر الله بهم أسرع من مكرهم بآيات الله .
ودل اسم التفضيل على أن مكر الكافرين سريع أيضاً ، وذلك لما دل عليه حرف المفاجأة من المبادرة وهي إسراع . والمعنى أن الله أعجل مكراً بكم منكم بمكرمكم بآيات الله .
وأسرعُ : مأخوذ من أسرع المزيدِ على غير قياس ، أو من سَرع المجرد بناء على وجوده في الكلام فيما حكاه الفارسي .
وأطلق على تأجيل الله عذابهم اسم المكر على وجه الاستعارة التمثيلية لأن هيئة ذلك التأجيل في خفائه عنهم كهيئة فعل الماكر ، وحسنته المشاكلة كما تقدم في آية آل عمران .
وجملة : { إنّ رسلنا يكتبون ما تمكرون } استئناف خطاب للمشركين مباشرة تهديداً من الله ، فلذلك فصلت على التي قبلها لاختلاف المخاطب . وتأكيد الجملة لكون المخاطبين يعتقدون خلاف ذلك ، إذ كانوا يحسبون أنهم يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن مكرهم يتمشى عليه ولا يشعر به فأعلمهم الله بأن الملائكة الموكلين بإحصاء الأعمال يكتبون ذلك . والمقصود من هذا أن ذلك محصي معدود عليهم لا يهمل ، وهو إنذار بالعذاب عليه ، وهذا يستلزم علم الله تعالى بذلك .
وعبر بالمضارع في { يكتبون } و { يمكرون } للدلالة على التكرر ، أي تتكرر كتابتهم كلما يتكرر مكرهم ، فليس في قوله : { ما تمكرون } التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف معادي الضميرين .
وقرأه الجمهور { ما تمكرون } بتاء الخطاب . وقرأه روح عن يعقوب { ما يمكرون } بياء الغائب ، والضمير ل { الناس } في قوله : { وإذا أذقنا الناس رحمة } . وعلى هذه القراءة فالكلام موجه للنبيء صلى الله عليه وسلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا أذقنا الناس} يعنى آتينا الناس، يعني كفار مكة، {رحمة} يعني المطر، {من بعد ضراء} يعني القحط وذهاب الثمار، {مستهم} يعني المجاعة سبع سنين، {إذا لهم مكر في ءاياتنا} يعني تكذيبا، يقول: إذا لهم قول في التكذيب بالقرآن تكذيبا واستهزاء،
{قل الله أسرع مكرا} يعني الله أشد إخزاء،
{يكتبون ما تمكرون} يعني ما تعلمون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا رزقنا المشركين بالله فرجا بعد كرب ورخاء بعد شدّة أصابتهم. وقيل: عنى به المطر بعد القحط، والضرّاء: وهي الشدة، والرحمة: هي الفرج. يقول:"إذَا لَهُمْ مَكْرٌ في آياتِنا" استهزاء وتكذيب... وقوله: "قُلِ اللّهِ أسْرَعُ مَكْرا "يقول تعالى ذكره: قل لهؤلاء المشركين المستهزئين من حججنا وأدلتنا يا محمد: "الله أسرع مكرا"، أي أسرع مِحَالاً بكم واستدراجا لكم وعقوبة منكم من المكر في آيات الله... وإنما معنى الكلام: وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضرّاء مستهم مكروا في آياتنا، فاكتفى من «مكروا»، ب «إذا لهم مكر». "إنّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ" يقول: إن حفظتنا الذين نرسلهم إليكم أيها الناس يكتبون عليكم ما تمكرون في آياتنا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... (إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا) المكر في الآيات تكذيبها وردها. فيشبه أن تكون الآية ههنا في محمد كما كان من أول أمره إلى آخره آية، فمكروا به لما هموا بقتله غير مرة بقوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا) الآية [الأنفال: 30]. ويحتمل سائر الآيات والحجج؛ مكروا فيها، أي كذبوها وردوها.
(قل الله أسرع مكرا) المكر: الأخذ من غير أن يعمل هو به. يقول: (الله أسرع) أخذا، يأخذكم وأنتم لا تعلمون به، ولا تقدرون أن تأخذوا رسول الله، وتمكروا به إلا وهو يعلم بذلك، وهو أسرع أخذا منكم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... حقيقة الذوق: تناول ما له طعم بالفم ليوجد طعمه. وانما قال: اذقناهم الرحمة على طريق البلاغة لشدة إدراك الحاسة.
والمكر: فتل الشيء إلى غير وجهه على طريق الحيلة فيه، فهؤلاء محتالون لدفع آيات الله بكل ما يجدون السبيل اليه من شبهة او تخليط في مناظرة أو غير ذلك من الأمور الفاسدة.
"قل" لهم "الله اسرع مكرا" يعني أقدر جزاء على المكر، وذلك أنهم: جعلوا جزاء النعمة المكر مكان الشكر، فقوبلوا بما هو أشد. والسرعة عمل الشيء في وقته الذي هو أحق به، والمعنى: إن ما يأتيهم من العقاب أسرع مما أتوه من المكر...
"إن رسلنا يكتبون ما تمكرون"...ففي ذلك غاية الزجر والتهديد على ما يفعلونه من المكر والحيل في أمر النبي (صلى الله عليه وآله) وقيل إنما سمى جزاء المكر مكرا، لانهم إذا نالهم العذاب على مكرهم بحيث لا يحتسبونه ولا يتوقعونه فكأنه مكر بهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يعني إذا أصابهم ضُرُّ ومحنة فرحمناهم وكَشْفنا عنهم، أحالوا الأمر على غيرنا، وتوهموه ما هو سوانا مثل قولهم: مُطِرْنَا بنوء كذا، ومثل قولهم إن هذه سعادة نجَمْ أو مساعدةُ دولة أو تأثيرُ فَلَكٍ أو خيراتُ دهر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمكر: إخفاء الكيد وطيه، من الجارية الممكورة المطوية الخلق.
ومعنى {مَسَّتْهُمْ} خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم. فإن قلت: ما وصفهم بسرعة المكر، فكيف صحّ قوله: {أَسْرَعُ مَكْرًا}؟ قلت: بلى دلت على ذلك كلمة المفاجأة، كأنه قال: وإذا رحمناهم من بعد ضراء فاجؤوا وقوع المكر منهم، وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤوسهم من مسّ الضرّاء، ولم يتلبثوا ريثما يسيغون غصتهم. والمعنى: أنّ الله تعالى دبر عقابكم وهو موقعه بكم قبل أن تدبروا كيف تعملون في إطفاء نور الإسلام..
{إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ} إعلام بأنّ ما تظنونه خافياً مطوياً لا يخفى على الله، وهو منتقم منكم...
المسألة الأولى: اعلم أن القوم لما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية أخرى سوى القرآن، وأجاب الجواب الذي قررناه وهو قوله: {إنما الغيب لله} ذكر جوابا آخر وهو المذكور في هذه الآية، وتقريره من وجهين:
الوجه الأول: أنه تعالى بين في هذه الآية أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد وعدم الإنصاف، وإذا كانوا كذلك فبتقدير أن يعطوا ما سألوه من إنزال معجزات أخرى، فإنهم لا يؤمنون بل يبقون على كفرهم وجهلهم، فنفتقر ههنا إلى بيان أمرين: إلى بيان أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد، ثم إلى بيان أنه متى كان الأمر كذلك لم يكن في إظهار سائر المعجزات فائدة.
أما المقام الأول: فتقريره أنه روي أن الله تعالى سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم، وأنزل الأمطار النافعة على أراضيهم، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع الجليلة إلى الأصنام وإلى الأنواء، وعلى التقديرين فهو مقابلة للنعمة بالكفران. فقوله: {وإذا أذقنا الناس رحمة} المراد منه تلك الأمطار النافعة.
{من بعد ضراء مستهم} المراد منه ذلك القحط الشديد.
{إذا لهم مكر في آياتنا} المراد منه إضافتهم تلك المنافع الجليلة إلى الأنواء والكواكب أو إلى الأصنام.
واعلم أنه تعالى ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة، وهو قوله تعالى: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه} إلا أنه تعالى زاد في هذه الآية التي نحن في تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها في تلك الآية، وتلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة، ويطلبون الغوائل، وفي الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة، فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج والعناد والمكر وطلب الغوائل.
وأما المقام الثاني: وهو بيان أنه متى كان الأمر كذلك فلا فائدة في إظهار سائر الآيات، لأنه تعالى لو أظهر لهم جميع ما طلبوه من المعجزات الظاهرة فإنهم لا يقبلونها، لأنه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التشدد في طلب الدين، وإنما غرضهم الدفع والمنع والمبالغة في صون مناصبهم الدنيوية، والامتناع من المتابعة للغير، والدليل عليه أنه تعالى لما شدد الأمر عليهم وسلط البلاء عليهم، ثم أزالها عنهم وأبدل تلك البليات بالخيرات، فهم مع ذلك استمروا على التكذيب والجحود، فظهر بما ذكرنا أن هذا الكلام جواب قاطع عن السؤال المتقدم.
الوجه الثاني: في تقرير هذا الجواب: أن أهل مكة قد حصل لهم أسباب الرفاهية وطيب العيش، ومن كان كذلك تمرد وتكبر كما قال تعالى: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} وقرر تعالى هذا المعنى بالمثال المذكور، فإقدامهم على طلب الآيات الزائدة والاقتراحات الفاسدة، إنما كان لأجل ما هم فيه من النعم الكثيرة والخيرات المتوالية..
{قل الله أسرع مكرا} كالتنبيه على أنه تعالى يزيل عنهم تلك النعم، ويجعلهم منقادين للرسول مطيعين له، تاركين لهذه الاعتراضات الفاسدة. والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله تعالى: {وإذا أذقنا الناس رحمة} كلام ورد على سبيل المبالغة، والمراد منه إيصال الرحمة إليهم. واعلم أن رحمة الله تعالى لا تذاق بالفم، وإنما تذاق بالعقل، وذلك يدل على أن القول بوجود السعادات الروحانية حق.
أما قوله تعالى: {قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} فالمعنى أن هؤلاء الكفار لما قابلوا نعمة الله بالمكر، فالله سبحانه وتعالى قابل مكرهم بمكر أشد من ذلك، وهو من وجهين: الأول: ما أعد لهم يوم القيامة من العذاب الشديد، وفي الدنيا من الفضيحة والخزي والنكال. والثاني: أن رسل الله يكتبون مكرهم ويحفظونه، وتعرض عليهم ما في بواطنهم الخبيثة يوم القيامة، ويكون ذلك سببا للفضيحة التامة والخزي والنكال نعوذ بالله تعالى منه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وإذا أذقنا} أي على ما لنا من العظمة {الناس} أي الذين لهم وصف الاضطراب {رحمة} أي نعمة رحمناهم بها من غير استحقاق. ولما كان وجود النعمة لا يستغرق الزمان الذي يتعقب النقمة، أدخل الجار فقال: {من بعد ضراء} أي قحط وغيره {مستهم} فاجأوا المكر وهو معنى {إذا لهم مكر} أي عظيم بالمعاصي التي يفعلون في الاستخفاء بأغلبها فعل الماكر {في آياتنا}.
ولما كانت هذه الجملة دالة على إسراعهم بالمكر من ثلاثة أوجه: التعبير بالذوق الذي هو أول المخالطة ولفظ "من "التي هي للابتداء و "إذا" الفجائية، كان كأنه قيل: أسرعوا جهدهم في المكر، فقيل: {قل الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء {أسرع مكراً}..
وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه حال الجاهل من تضييع حق النعمة والمكر فيها وإن جلت منزلتها وأتت على فاقة إليها وشدة حاجة إلى نزولها مع الوعيد بعائد الوبال على الماكر فيها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما كان الجواب عن اقتراحهم الآية الكونية للدلالة على النبوة يتضمن بمعونة ما يفصله من الآيات أن أولئك المشركين المعاندين لا يقتنعون بالآيات، وأنهم إذا رأوها بأعينهم يكابرون حسهم ولا يؤمنون، ضرب الله تعالى مثلا له في آياته الكونية الدالة على وحدانيته في أفعاله وحكمه فيها، وما لهؤلاء المشركين المعاندين من المكر فيها، وكونها لا تزيدهم إلا ضلالا.
{وإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ} هذه الشرطية منتظمة مع أختيها في الآيتين 12 و 15 في نسق واحد، والذوق في أصل اللغة إدراك الطعم بالفم، والمدرك له عصب خاص في اللسان، واستعمل مجازا في إدراك غيره من الملائمات كالرحمة والنعمة، والمؤلمات كالعذاب والنقمة، والضراء الحالة من الضر المقابل للنفع، ويقابلها السراء من السرور، أي وإذا كشفنا ضراء مسّ الناس ألمها، برحمة منا أذقناهم لذاتها على أتمها، لأن الشعور بها عقب زوال ضدها يكون أتم وأكمل.
{إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا} إذا هذه تسمى الفجائية، والجملة جواب للشرط. أي ما كان منهم إلا أنهم بادروا إلى المكر، وأسرعوا بالفجائية به في مقام الشكر، فإذا كانت الرحمة مطرا أحيا الأرض، وأنبت الزرع، ودر به الضرع، بعد جدب وقحط أهلك الحرث والنسل، قالوا: مطرنا بالأنواء، وإذا كانت نجاة من هلكة وأعوزتهم أسبابها، عللوها بالمصادفات، وإذا كان سببها دعاء نبيهم أنكروا إكرام الله له وتأييده بها، كما فعل فرعون وقومه عقب آيات موسى، وكما فعل مشركو مكة إثر القحط الذي أصابهم بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم رفع عنهم بدعائه فما زادهم ذلك إلا كفرا وجحودا، ومكرا وكنودا.
أخرج الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن قريشا لما استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام والميتة من الجهد، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 10 11]، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله استق لمضر، فإنها قد هلكت فقال:"مضر؟" متعجبا، وفي رواية فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله، فدعا لهم فكشف الله عنهم العذاب ومطروا، فعادوا إلى حالهم ومكرهم الأول الذي تقدم فيه قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} [الأنفال: 30] الآية، وقد بينا في تفسيرها وتفسير (98) وآية (54) معنى المكر في اللغة، وكونه حسنا وسيئا، ومعنى إسناده إلى الله تعالى، وخلاصته أن المكر عبارة عن التدبير الخفي الذي يفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسبه ولا يتوقعه، وأن مكره تعالى وهو تدبيره الذي يخفى على الناس إنما يكون بإقامة سننه، وإتمام حكمه في نظام العالم، وكله حق وعدل حسن، ولكن ما يسوء الناس منه يسمونه شرا وسوءا، وإن كان جزاء عدلا، ويراجع تحقيقه في الجزأين 3 و9 من التفسير.
{قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً} أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يسرعون في المكر كما دلت عليه المفاجأة: إن الله تعالى أسرع مكرا منكم، إذ سبق في تدبيره لأمور العالم وتقديره للجزاء على الأعمال قبل وقوعها أن يعاقبكم على مكركم في الدنيا قبل الآخرة، وهو عالم به لا يخفى عليه شيء منه، وأكد هذا بقوله: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} يعني الحفظة من الملائكة الذين وكلهم الله تعالى بإحصاء أعمال الناس وكتبها للحساب عليها في الآخرة. وكتابة المكر عبارة عن كتابة متعلقة من الأعمال اللاتي كان هو الباعث عليها، ويجوز أن تكتب نيتها وهي المعنى المصدري للمكر.
والجملة تتمة الجواب الذي لقنه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بناء على أنه يبلغه عنه عز وجل بلفظه الموحي إليه لا بمعناه، ولذلك يدخل في التبليغ لفظ "قل "وهو خطاب الله له صلى الله عليه وسلم مقوله الخاص بهم، كقوله: {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون: 1]، وأمثاله الكثيرة في القرآن، بل أقول له: إنه صلى الله عليه وسلم بلغهم الآية برمتها: ما حكاه تعالى عنهم، وما أمره أن يجيبهم به، وقد يكون ذلك في ضمن السورة كلها لا وحده، ومثل هذا يقال في أمثاله.
فعلم بهذا أنه ليس المراد أن يقول صلى الله عليه وسلم لهم كلمة: "أسرع مكرا" من قبل نفسه فيستشكل الالتفات فيها عن الغيبة إلى التكلم في "إن رسلنا"، بل هو جار على سنة القرآن فيه، وهو أبلغ في تصوير تسخير الله تعالى للملائكة في كتابة الأعمال من التعبير بضمير الغيبة" إن رسله يكتبون "الخ؛ لأن في ضمير الجمع من تصوير العظمة في هذا التدبير العظيم، والنظام الدقيق، ما يشعر به كل من له ذوق في هذه اللغة سيدة اللغات، التي اعترف علماء اللغات من الإفرنج بأنها تفوق جميع لغاتهم، في التعبير عن صفات الله تعالى وكماله وعظمته، ومثل هذا الالتفات فيها قوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ولَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف: 109]...
وقد فصلنا القول في كتابة الملائكة الحفظة لأعمال الناس، وحكمتها في تفسير {وهُو الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ويُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} [الأنعام: 61] من سورة الأنعام، وشرحنا قبلها مسألة كتابة مقادير الخلق كلها في تفسير الآية {وعند مفاتح الغيب} [الأنعام: 59] منها، فيراجع الموضوع كله في جزء التفسير السابع من شاء، ومن اكتفى بالإجمال فحسبه الإيمان بأن الملائكة تكتب الأعمال كتابة غيبية لم يكلفنا الله تعالى معرفة صفتها، وإنما كلفنا أن نؤمن بأن له نظاما حكيما في إحصائها، لأجل مراقبتنا له فيها، لنلتزم الحق والعدل والخير ونجتنب أضدادها...