ثم أضافت إلى كل ذلك قولها : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
أى : ومع أنى أعترف بأنه من الصادقين ، وأعترف بأنى لم أخنه بالغيب ، إلا أنى مع كل ذلك لا أبرئ نفسى ولا أنزهها عن الميل إلى الهوى ، وعن محاولة وصفه بما هو برئ منه ، فأنا التي قلت لزوجى في حالة دهشتى وانفعالى الشديد ، { مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سوءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وما حملنى على هذا القول إلا هواي وشهواتي ، ونفسي ؛ إن النفس البشرية لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء إلا نفسا رحمها الله وعصمها من الزلل والانحراف ، كنفس يوسف - عليه السلام - .
وجملة { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تعليل لما قبلها ، أى : إن ربى كثير الغفران وكثير الرحمة ، لمن يشاء أن يغفر له ويرحمه من عباده .
والذى يتأمل هذا الكلام الذي حكاه القرآن عن امرأة العزيز ، يراه زاخرا بالصراحة التي ليس بعدها صراحة ، وبالمشاعر والانفعالات الدالة على احترامها ليوسف الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، رغم الإِغراءات المصحوبة بالترغيب والترهيب ، ويبدو لنا - والله أعلم - أن هذا الكلام ما قالته امرأة العزيز ، إلا بعد أن استقرت عقيدة الإِيمان التي آمن بها يوسف في قلبها ، وبعد أن رأت فيه إنسانا يختلف في استعصامه بالله وفى سمو نفسه ، عن غيره من الناس الذين رأتهم .
هذا ، ويرى كثير من المفسرين أن كلام امرأة العزيز قد انتهى عند قوله - تعالى - { وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } وأن قوله - تعالى - بعد ذلك { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب . . . } إلى قوله - تعالى - { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } هو من كلام يوسف - عليه السلام - ، فيكون المعنى :
وذلك ليعلم " أى العزيز " أنى لم أخنه ، في أهله { بالغيب } أى في غيبته { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين } من النساء والرجال ، بل يبطل هذا الكيد ويفضحه .
{ وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي } أى : ولا أنزهها عن السوء ، وهذا من باب التواضع منه - عليه السلام - { إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء } أى : إن هذا الجنس من الأنفس البشرية ، شأنه الأمر بالسوء والميل إلى الشهوات .
{ إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي } من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء .
{ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن شاء أن يغفر له ويرحمه من خلقه .
والذى نراه أن الرأى الأول الذي سرنا عليه هو الجدير بالقبول ، لأنه هو المناسب لسياق الآيات من غير تكلف ، ولأنه لا يؤدى إلى تفكك الكلام وانقطاع بعضه عن بعض ، بخلاف الرأى الثانى الذي يرى أصحابه أن كلام امرأة العزيز قد انتهى عند قوله - تعالى - { وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } فإنه يؤدى إلى تفكك الكلام ، وعدم ارتباط بعضه ببعض ، فضلا عن أن وقائع التاريخ لا يؤيده ، لأن يوسف - عليه السلام - كان في السجن عندما أحضر الملك النسوة وقال لهن : { مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ . . } وعندما قالت امرأة العزيز أمام الملك وأمامهن : { الآن حَصْحَصَ الحق . . } إلى قوله - تعالى - { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
ومن المفسرين الذين أيدوا الرأى الأول الإِمام ابن كثير فقد قال ما ملخصه : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب . . } تقول : إنما اعترفت بهذا على نفسى ، بأنى راودت هذا الشاب فامتنع ، { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي . . . } تقول المرأة : ولست أبرئ نفسى ، فإن النفس تتحدث وتتمنى ، ولهذا راودته لأنها أمارة بالسوء . { إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي } أى : من عصمه الله - تعالى - . . .
ثم قال : " وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصه ومعانى الكلام . لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ، ولم يكن يوسف - عليه السلام - عندهم ، بل بعد ذلك أحضره الملك " .
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عن القسم الأول من حياة يوسف - عليه السلام - القسم الذي تعرض خلاله لألوان من المحن والآلام ، بعضها من إخوته ، وبعضها من امرأة العزيز ، وبعضها من السجن ومراراته . . .
{ وما أبرّئ نفسي } أي لا أنزهها تنبيها على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه والعجب بحاله ، بل إظهار ما أنعم الله عليه من العصمة والتوفيق . وعن ابن عباس أنه لما قال : { ليعلم أني لم أخنه بالغيب } قال له جبريل ولا حين هممت فقال : ذلك . { إن النفس لأمارة بالسوء } من حيث إنها بالطبع مائلة إلى الشهوات فتهم بها ، وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات . { إلا ما رحم ربي } إلا وقت رحمة ربي ، أو إلا ما رحمه الله من النفوس فعصمه من ذلك . وقيل الاستثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة . وقيل الآية حكاية قول راعيل والمستثنى نفس يوسف وأضرابه . وعن ابن كثير ونافع " بالسّو " على قلب الهمزة واوا ثم الإدغام . { إن ربي غفور رحيم } يغفر همّ النفس ويرحم من يشاء بالعصمة أو يغفر للمستغفر لذنبه المعترف على نفسه ويرحمه ما استغفره واسترحمه مما ارتكبه .
ظاهر ترتيب الكلام أن هذا من كلام امرأة العزيز ، مضت في بقية إقرارها فقالت : { وما أبرىء نفسي } . وذلك كالاحتراس مما يقتضيه قولها : { ذلك لِيَعْلَم أني لم أخنْه بالغيب } [ سورة يوسف : 52 ] من أن تبرئة نفسها من هذا الذنب العظيم ادعاءٌ بأن نفسها بريئة براءة عامة فقالت : { وما أبرىء نفسي } ، أي ما أبرىء نفسي من محاولة هذا الإثم لأن النفس أمّارة بالسوء وقد أمرتني بالسوء ولكنه لم يقع .
فالواو التي في الجملة استئنافية ، والجملة ابتدائية .
وجلمة { إن النفس لأمارة بالسوء } تعليل لجملة { وما أبرىء نفسي } ، أي لا أدعي براءة نفسي من ارتكاب الذنب ، لأن النفوس كثيرة الأمر بالسوء .
والاستثناء في { إلا ما رحم ربي } استثناء من عموم الأزمان ، أي أزمان وقوع السوء ، بناءً على أن أمر النفس به يبعث على ارتكابه في كلّ الأوقات إلاّ وقت رحمة الله عبده ، أي رحمته بأن يقيّض له ما يصرفه عن فعل السوء ، أو يقيض حائلاً بينه وبين فعل السوء ، كما جعل إباية يوسف عليه السلام من إجابتها إلى ما دعتْه إليه حائلاً بينها وبين التورط في هذا الإثم ، وذلك لطف من الله بهما .
ولذلك ذيلته بجملة { إن ربي غفور رحيم } ثناءً على الله بأنه شديد المغفرة لمن أذنب ، وشديد الرحمة لعبده إذا أراد صرفه عن الذنب .
وهذا يقتضي أن قومها يؤمنون بالله ويحرمون الحرام ، وذلك لا ينافي أنهم كانوا مشركين فإن المشركين من العرب كانوا يؤمنون بالله أيضاً ، قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولُن الله } [ سورة العنكبوت : 61 ] وكانوا يعرفون البر والذنب .
وفي اعتراف امرأة العزيز بحضرة الملك عبرة بفضيلة الاعتراف بالحق ، وتبرئة البريء مما ألصق به ، ومن خشية عقاب الله الخائنين .
وقيل : هذا الكلام كلام يوسف عليه السلام متصل بقوله : { ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } الآية [ سورة يوسف : 50 ] .
وقوله : { قال ما خَطْبُكُنّ إذ رَاوَدْتُنّ يوسف } إلى قوله { وأن الله لا يهدي كَيْد الخائنين } [ سورة يوسف : 51 52 ] اعتراض في خلال كلام يوسف عليه السلام . وبذلك فسّرها مجاهد وقتادة وأبو صالح وابن جريج والحسن والضحّاك والسدّي وابن جبير ، واقتصر عليه الطبري . قال في الكشاف } : ( وكفى بالمعنى دليلاً قائداً إلى أن يجعل من كلام يوسف عليه السلام ، ونحوُه قوله : { قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم ثم قال فماذا تأمرون } [ سورة الأعراف : 109 110 ] وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم ) ا هـ . يريد أن معنى هذه الجملة أليق بأن يكون من كلام يوسف عليه السلام لأن من شأنه أن يصدر عن قلب مليء بالمعرفة .
وعلى هذا الوجه يكون ضمير الغيبة في قوله : { لم أخنه } [ سورة يوسف : 52 ] عائداً إلى معلوم من مقام القضية وهو العزيز ، أي لم أخن سيدي في حرمته حال مغيبه .
ويكون معنى وما أبرىء نفسي } الخ . . مثل ما تقدم قصد به التواضع ، أي لست أقول هذا ادعاء بأن نفسي بريئة من ارتكاب الذنوب إلا مدة رحمة الله النفس بتوفيقها لأكف عن السوء ، أي أني لم أفعل ما اتهمت به وأنا لست بمعصوم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.