التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ لَمۡ تَكُن فِتۡنَتُهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشۡرِكِينَ} (23)

ثم أخبر - سبحانه - عما يكون منهم من تخبط وحسرة فقال :

{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } .

الفتنة مأخوذة من الفتن ، وهو إدخال الذهب فى النار لتعرف جودته من رداءته ، ثم استعمل فى معان أخرى كالاختبار ، والعذاب ، والبلاء ، والكفر .

والمعنى : ثم لم تكن عاقبة كفرهم حين اختبروا بهذا السؤال ورأوا الحقائق ، وارتفعت الدعاوى إلا أن قالوا مؤكدين ما قالوا بالقسم الكاذب والله يا ربنا ما كنا مشركين . ظنا منهم أن تبرأهم من الشرك فى الآخرة سينجيهم من عذاب الله كما نجا المؤمنين بفضله ورضوانه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ لَمۡ تَكُن فِتۡنَتُهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشۡرِكِينَ} (23)

{ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا } أي كفرهم ، والمراد عاقبته وقيل معذرتهم التي يتوهمون أن يتخلصوا بها ، من فتنة الذهب إذا خلصته . وقيل جوابهم وإنما سماه فتنة لأنه كذب ، أو لأنهم قصدوا به الخلاص . وقرأ ابن كثير . وابن عامر وحفص عن عاصم { لم تكن } بالتاء و{ فتنتهم } بالرفع على أنها الاسم ، ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عنه بالتاء والنصب على أن الاسم { أن قالوا } ، والتأنيث للخبر كقولهم من كانت أمك والباقون بالياء والنصب . { والله ربنا ما كنا مشركين } يكذبون ويحلفون عليه مع علمهم بأنه لا ينفعهم من فرط الحيرة والدهشة ، كما يقولون : { ربنا أخرجنا منها } . وقد أيقنوا بالخلود . وقيل معناه ما كنا مشركين عند أنفسنا وهو لا يوافق قوله { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ لَمۡ تَكُن فِتۡنَتُهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشۡرِكِينَ} (23)

وقوله تعالى : { ثم لم تكن فتنتنهم إلا أن قالوا } الآية قرأ ابن كثير في رواية شبل عنه ، وعاصم في رواية حفص وابن عامر «تكن فتنتُهم » برفع الفتنة و { إلا أن قالوا } في موضع نصب على الخبر ، التقدير إلا قولهم ، وهذا مستقيم لأنه أنث العلامة في الفعل حين أسنده إلى مؤنث وهي الفتنة ، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن كثير أيضاً «تكن فتنتهم » بنصب الفتنة ، واسم كان { أن قالوا } ، وفي هذه القراءة تأنيث { أن قالوا } ، وساغ ذلك من حيث الفتنة مؤنثة في المعنى ، قال أبو علي وهذا كقوله تعالى : { فله عشر أمثالها }{[4863]} فأنث الأمثال لما كانت الحسنات بالمعنى ، وقرأ حمزة والكسائي «يكن » بالياء «فتنتَهم » بالنصب واسم كان { إلا أن قالوا } وهذا مستقيم لأنه ذكر علامة الفعل حين أسنده إلى مذكر ، قال الزهراوي وقرأت فرقة «يكن فتنُهم » برفع الفتنة ، وفي هذه القراءة إسناد فعل مذكرالعلامة إلى مؤنث ، وجاء ذلك بالمعنى لأن الفتنة بمعنى الاختبار أو المودة{[4864]} في الشيء والإعجاب ، وقرأ أبي بن وكيع وابن مسعود والأعمش «وما كان فتنتهم » ، وقرأ طلحة بن مصرف ، «ثم كان فتنتهم » والفتنة في كلام العرب لفظة مشتركة تقال بمعنى حب الشيء والإعجاب به كما تقول فتنت بكذا ، وتحتمل الآية هنا هذا المعنى أي لم يكن حبهم للأصنام وإعجابهم بها وإتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على عجزها إلا التبري منها والإنكار لها ، وهذا توبيخ لهم كما تقول لرجل كان يدعي مودة آخر ثم انحرف عنه وعاداه يا فلان لم تكن مودتك لفلان إلا أن شتمته وعاديته{[4865]} ، ويقال الفتنة في كلام العرب بمعنى الاختبار ، كما قال عز وجل لموسى عليه السلام :{ وفتناك فتوناً }{[4866]} ، وكقوله تعالى : { ولقد فتنا سليمان وألقينا }{[4867]} وتحتمل الآية هاهنا هذا المعنى لأن سؤالهم عن الشركاء وتوقيفهم اختبار ، فالمعنى ثم لم يكن اختبارنا لهم إذ لم يفد ولا أثمر ، إلا إنكارهم الإشراك ، وتجيء الفتنة في اللغة على معان غير هذين لا مدخل لها في الآية ، ومن قال إن أصل الفتنة الاختبار من فتنت الذهب في النار ، ثم يستعار بعد ذلك في غيره فقد أخطأ ، لأن الاسم لا يحكم عليه بمعنى الاستعارة حتى يقطع باستحالة حقيقته في الموضع الذي استعير له كقول ذي الرمة : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ولَفَّ الُّثرَيَّا في مُلاءتِهِ الفَجْرُ{[4868]}

ونحوه ، والفتنة لا يستحيل أن تكون حقيقة في كل موضع قيلت عليه ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر والله «ربِّنا » خفض على النعت لاسم الله ، وقرأ حمزة والكسائي «ربَّنا » نصب على النداء ، ويجوز فيه تقدير المدح ، وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين «واللهُ ربُّنا » برفع الاسمين وهذا على تقدير تقديم وتأخير ، كأنهم قالوا ما كنا مشركين والله ربنا ، و { ما كنا مشركين } معناه جحود إشراكهم في الدنيا ، فروي أنهم إذا رأوا إخراج من في النار من أهل الإيمان ضجوا فيوقفون ، ويقال لهم أين شركاؤكم فينكرون طماعية منهم أن يفعل بهم ما فعل بأهل الإيمان . وأتى رجل ابن عباس فقال : سمعت الله يقول : { والله ربنا ما كنا مشركين } وفي أخرى { ولا يكتمون الله حديثاً } [ النساء : 42 ] فقال ابن عباس لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن قالوا تعالوا فلنجحد ، وقالوا ما كنا مشركين ، فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثاً .

قال القاضي أبو محمد : وعبر بعض المفسرين عن الفتنة هنا بأن قالوا معذرتهم{[4869]} ، قاله قتادة ، وقال آخرون : كلامهم ، قاله الضحاك ، وقيل غير هذا مما هو كله في ضمن ما ذكرناه .


[4863]:- من الآية (160) من سورة (الأنعام).
[4864]:- الصواب أن يقال: "أن الود في الشيء"،ولكن النسخ الأصلية كلها كما أثبتنا، وقطعا هو من خطأ النساخ.
[4865]:- قال الزمخشري: الفتنة هنا: كفرهم، والمعنى: ثم لم تكن عاقبة فتنتهم في كفرهم الذي لزموه أعمارهم، وافتخروا به، وقاتلوا عليه إلا جحوده والتبرؤ منه، وقال الضحاك: الفتنة هنا: إنكارهم، وقال قتادة: عذرهم. والأقوال كثيرة.
[4866]:- من الآية (40) من سورة (طه).
[4867]:- من الآية (34) من سورة (ص).
[4868]:- البيت بتمامه: أقامت بها حتى ذوى العود في الثرى ولفّ الثريا في ملاءته الفجر وهو من قصيدة له معروفة، ومطلعها: ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى ولا زال منهلا بجرعائك القطر
[4869]:- في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: (فيلقى العبد فيقول: أي فل، ألم أكرمك وأسوّدك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول له ويقول هو مثل ذلك بعينه، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، قال: فيقال: هاهنا إذا، ثم يقال له: الآن نبعث شاهدا عليك، ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليّ؟ فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي سخط الله عليه). ومعنى (فل) بضم الفاء وسكون اللام يا فلان، وهو ترخيم على غير القياس كما قاله النووي، وقيل: ليس ترخيما بل هي لغة بمعنى فلان لأنه لا يقال إلا بسكون اللام، ولو كان ترخيما لفتحوها أو ضموها- ومعنى (تربع) أي: تأخذ ربع الغنيمة.