التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّا بَلَوۡنَٰهُمۡ كَمَا بَلَوۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ إِذۡ أَقۡسَمُواْ لَيَصۡرِمُنَّهَا مُصۡبِحِينَ} (17)

وبمناسبة الحديث السابق الذى فيه إشارة إلى المال والبنين ، اللذين كانا من أسباب بطر هؤلاء الكافرين وطغيانهم . . ساق القرآن بعد ذلك قصة أصحاب الجنة ، لتكون موعظة وعبرة كل عاقل ، فقال تعالى :

{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة . . . } .

قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : هذا مثل ضربة الله - تعالى - لكفار قريش ، فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة ، وأعطاهم من النعم الجسيمة ، وهو بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم إليهم ، فقابلوه بالتكذيب والمحاربة . .

وقد ذكر بعض السلف : أن أصحاب الجنة هؤلاء ، كانوا من أهل اليمن ، كانوا من قرية يقال لها : " ضَرَوان " على ستة أميال من صنعاء . . وكان أبوهم قد ترك لهم هذه الجنة ، وكانوا من أهل الكتاب ، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة ، فكان ما استغله منها يرد فيها ما يحتاج إليه ، ويدخر لعياله قوت سنتهم ، ويتصدق بالفاضل .

فلما مات وورثه أولاده ، قالوا : لقد كان أبونا أحمق ، إذ كان يصرف من هذه الجنة شيئا للفقراء ، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك لنا ، فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم ، فقد أذهب الله ما بأيديهم بالكلية : أذهب رأس المال ، والربح . . فلم يبق لهم شئ . .

وقوله - سبحانه - : { بَلَوْنَاهُمْ } أي : اختبرناهم وامتحناهم ، مأخوذ من البلوى ، التي تطلق على الاختبار ، والابتلاء قد يكون بالخير وقد يكون بالشر ، كما قال - تعالى - : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } والمراد بالابتلاء هنا : الابتلاء بالشر بعد جحودهم لنعمة الخير .

أي : إنا امتحنا مشركي قريش بالقحط والجوع . حتى أكلوا الجيف ، بسبب كفرهم بنعمنا ، وتكذيبهم لرسولنا صلى الله عليه وسلم ، كما ابتلينا من قبلهم أصحاب الجنة ، بأن دمرناها تدميرا ، بسبب بخلهم وامتناعهم عن أداء حقوق الله منها . .

ويبدو أن قصة أصحاب الجنة ، كانت معروفة لأهل مكة ، ولذا ضرب الله - تعالى - المثل بها . حتى يعتبروا ويتعظوا . .

ووجه المشابهة بين حال أهل مكة ، وحال أصحاب الجنة . . يتمثل في أن كلا الطرفين قد منحه الله - تعالى - نعمة عظيمة ، ولكنه قابلها بالجحود وعدم الشكر .

و { إذ } في قوله : { إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِين . . } تعليلية .

والضمير في { أَقْسَمُواْ } يعود لمعظمهم ، لأن الآيات الآتية بعد ذلك ، تدل على أن أوسطهم قد نهاهم عما اعتزموه من حرمان المساكين ، ومن مخالفة ما يأمرهم شرع الله - تعالى - به . .

قال - تعالى - : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ . . } .

وقوله : { لَيَصْرِمُنَّهَا } من الصرم وهو القطع . يقال : صرم فلان زرعه - من باب ضرب - إذا جَزّه وقطعه ، ومنه قولهم : انصرم حبل المودة بين فلان وفلان ، إذا انقطع .

وقوله : { مُصْبِحِينَ } أي : داخلين في وقت الصباح المبكر .

أي : إنا امتحنا أهل مكة بالبأساء والضراء ، كما امتحنا أصحاب البستان الذين كانوا قبلهم ، لأنهم أقسموا بالأيمان المغلظة ، ليقطعن ثمار هذا البستان في وقت الصباح المبكر .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّا بَلَوۡنَٰهُمۡ كَمَا بَلَوۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ إِذۡ أَقۡسَمُواْ لَيَصۡرِمُنَّهَا مُصۡبِحِينَ} (17)

{ إنا بلوناهم } بلونا أهل مكة ، شرفها الله تعالى ، بالقحط كما بلونا أصحاب الجنة ، يريد البستان الذي كان دون صنعاء بفرسخين ، وكان لرجل صالح وكان ينادي الفقراء وقت الصرام ، ويترك لهم ما أخطأه المنجل وألقته الريح أو بعد من البساط الذي يبسط تحت النخلة ، فيجتمع لهم شيء كثير . فلما مات قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعله أبونا ضاق علينا الأمر ، فحلفوا ليصرمنها وقت الصباح خفية عن المساكين ، كما قال { إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين } ليقطعنها داخلين في الصباح .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّا بَلَوۡنَٰهُمۡ كَمَا بَلَوۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ إِذۡ أَقۡسَمُواْ لَيَصۡرِمُنَّهَا مُصۡبِحِينَ} (17)

وقوله تعالى : { إنا بلوناهم } يريد قريشاً ، أي امتحناهم ، و { أصحاب الجنة } فيما ذكر قوم إخوة كان لأبيهم جنة وحرث مغل فكان يمسك منه قوته ، ويتصدق على المساكين بباقيه ، وقيل بل كان يحمل المساكين معه في وقت حصاده وجذه{[11247]} ، فيجذيهم منه{[11248]} فمات الشيخ ، فقال ولده : نحن جماعة وفعل أبينا كان خطأ ، فلنذهب إلى جنتنا ولا يدخلها علينا مسكين ، ولا نعطي منها شيئاً ، قال : فبيتوا أمرهم وعزمهم على هذا ، فبعث الله عليها بالليل طائفاً من نار أو غير ذلك ، فاحترقت ، فقيل : أصبحت سوداء ، وقيل : بيضاء كالزرع اليابس المحصود ، فلما أصبحوا إلى جنتهم لم يروها فحسبوا أنهم قد أخطؤوا الطريق ، ثم تبينوها فعلموا أن الله تعالى أصابهم فيها ، فتابوا حينئذ وأنابوا وكانوا مؤمنين من أهل الكتاب ، فشبه الله تعالى قريشاً بهم ، في أنهم امتحنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وهداه ، كما امتحن أولئك بفعل أبيهم وبأوامر شرعهم ، فكما حل بأولئك العقاب في جنتهم ، كذلك يحل بهؤلاء في جميع دنياهم وفي حياتهم ، ثم التوبة معرضة لمن بقي منهم كما تاب أولئك .

وقال كثير من المفسرين : السنون السبع التي أصابت قريشاً هي بمثابة ما أصاب أولئك في جنتهم . وقوله تعالى : { ليصرمنها } أي ليجدنها ، وصرام النخل : جد ثمره وكذلك في كل شجرة ، و { مصبحين } معناه : إذا دخلوا في الصباح .


[11247]:جد الشيء: قطعه عند الحصاد.
[11248]:أي: يكافئهم منه، يقال: جزى فلانا حقه، أي أعطاه.