ثم ساق القرآن بعد ذلك لوناً عجيباً من ألوان ضلال اليهود وهو مجاهرتهم بالعداوة لأمين الوحي جبريل - عليه السلام - فقال - تعالى - :
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ . . . }
هاتان الآيتان تكشفان عن رذيلة غريبة حقاً من رذائل اليهود وهي عداوتهم لملك من ملائكة الله ، لا يأكل مما يأكلون ، ولا يشرب مما يشربون وإنما هو من الملائكة المقربين ، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وإذا فليس هناك مقتض لعداوته ، فلماذا هذا التصريح منهم ببغضه وكراهيته ؟
لقد سمعوا أن جبريل - عليه السلام - ينزل بالوحي من عند الله على محمد صلى الله عليه وسلم وهم يحسدونه على النبوة ، فلج بهم الحقد والغيظ إلى أن أعلنوا عن عدائهم لجبريل - أيضاً - وهذه حماقة وجهالة منهم ، لأن جبريل - عليه السلام - نزل بالخير لهم في دينهم وفي دنياهم . ولكن الحقد والحسد إذا استوليا على النفوس جعلالها لا تفرق بين الخير والشر .
ومعنى الآيتين الكريمتين ، قل - يا محمد - لهؤلاء اليهود الذين أعلنوا عداءهم لجبريل أنه لا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وإنما نزل على قلبك بأمر الله ليكون مؤيداً لما نزل قبله من الكتب السماوية وليكون هداية إلى طريق السعادة وبشارة للمؤمنين بالجنة ، وقل لهم كذلك من كان معادياً لله أو لملك من ملائكته أو لرسول من رسله ، فقد كفر وباء بغضب من الله ، ومن غضب الله عليه ، فجزاؤه الخزي وسوء المصير .
قال الإِمام ابن جرير : ( أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً ، على أن هذه نزلت جواباً ليهود من بني إسرائيل ، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ، وميكائيل ولي لهم ) .
وروى البخاري في صحيحه - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : " سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف - أي يجني ثمارها - فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ، فيم أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : أخبرني بهن جبريل آنفاً . قال : جبريل ؟ قال : نعم قال ذكل عدو اليهود من الملائكة - فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ . . . } الآية ثم قال : أما أول أشراط الساعة ، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ! وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سببق ماء المرأة نزعت فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله . يا رسول الله : إن اليهود قوم بهت ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني ، فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أي رجل فيكم عبد الله ؟ قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا : قال " أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام ؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك ؟ فخرج عبد الله فقال : " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فقالوا : شرنا وابن شرنا ، وانتقصوه ، قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله " .
وأخرج الإِمام أحمد عن ابن عباس : " أن اليهود بعد أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة أجابهم عنها ، قالوا صدقت فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك . قال : وليى جبريل ، لم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه ، قالوا : فعندما نفارقك ، ولو كان وليك سواه من الملائكة لتابعناك وصدقناك ، قال : فما يمنعكم أن تصدقوه ؟ قالوا : إنه عدونا ، فأنزل الله - تعالى - قوله : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ . . . } الآيات .
وفي حديث للإِمام أحمد والترمذي والنسائي " قال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن سألوه عن أشياء أجابهم عنها إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها ، إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخير ، فأخبرنا من صاحبك ؟ قال جبريل - عليه السلام - قالوا : جبريل ذلك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا ، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان . فأنزل الله - تعالى - : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } الآية .
فيؤخذ من هذه الأحاديث وما في معناها أن اليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يجاهرون بعداوتهم لجبريل - عليه السلام - وأن هذه المجاهرة بالعداوة ، قد تكررت منهم في مواقف متعددة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وأن الذي حملهم على ذلك هو حسدهم له ، وغيظهم من جبريل ، لأنه ينزل بالوحي عليه .
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : " ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من عند الله ، ومع ذلك يبغضونه ، وهذا أحط درجات الانحطاط في العقل والعقيدة ، ولا شك أن الاضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تضافر آرائهم على الخطأ والأوهام " .
وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ { قُلْ } كي يرد على اليهود ، تثبيت له ، وتطمين لنفسه وتوبيخ لهم على معاداتهم لأمين الوحي ، وهو جبريل - عليه السلام - .
وقوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } شرط عام قصد الإِتيان به ليعلموا أن الله - تعالى - لا يعبأ بهم ولا بغيرهم ممن يعادي جبريل ، إن وجد معاد آخر له سواهم .
وقوله تعالى : { على قَلْبِكَ } زيادة تقرير للتنزيل ، ببيان محل الوحي ، وإشارة إلى أن السبب في تمكنه صلى الله عليه وسلم من تلاوة القرآن الكريم ، وإبلاغه للناس ، ثباته في قلبه .
وقوله تعالى : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله } معناه : فلا موجب لعداوته . لأنه نزل القرآن على قلبك يا محمد بإذن الله وأمره . وإذاً فعداوته عداوة لله في الحقيقة والواقع ، ومن هنا يتبين أن هذه الجملة تعليل لجواب الشرط وقائمة مقامه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف استقام قوله تعالى : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ } جزاء للشرط ؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : إن عادي جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته ، حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب التي بين يديه ، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم .
والثاني : إن عاداه أحد فالسبب في عداواته أنه نزل عليك القرآن مصدقاً لكتابهم ، وموافقاً له ، وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم ، ولذلك يحرفونه ويجحدون موافقته له . كقولك : " إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه " .
وقوله - تعالى - : { بِإِذْنِ الله } أي بأمره ، وهو توبيخ لهم على عداوتهم لجبريل ، الذي أنزل بالقرآن بإذن الله ، لا من تلقاء نفسه ، وهذه حجة أولى عليهم .
وقوله تعالى : { مُصَدِّقاً } حال من الضمير العائد على القرآن الكريم ، ف قوله { نَزَّلَهُ } أي أنزله حالة كونه مؤيداً للكتب السماوية التي قبله ومن بينها التوراة ، وهذه حجة ثانية عليهم .
ثم عززهما بثالثة ورابعة - فقال تعالى : { وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي هذا القرآن الذي نزل مصدقاً لكتبكم ، هو هاد إلى طريق الفلاح والنجاح ، والعقال لا يرفض الهداية التي تأتيه وتنقذه مما هو فيه من ضلالات ولو كان الواسطة في مجيئها عدواً له ، وهو - أيضاً - مبشر للمؤمنين برضا الله تعالى - عنهم في الدنيا والآخرة ، أما الضالون فقد أنذرهم بسوء العقبى فعليكم أن تتبعوا طريق الإِيمان لتكونوا من المفلحين وبذلك يكون القرآن قد أقام حججاً متعددة على حماقتهم وعنادهم وجحودهم للحق بعد ما تبين . وتكون الآية الكريمة قد مدحت القرآن بخمس صفات .
أولها : أنه منزل من عند الله وبإذنه .
وثانيها : أنه منزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم .
وثالثها : أنهن مصدق لما نزل قبله من الكتب السماوية .
{ قل من كان عدوا لجبريل } نزل في عبد الله بن صوريا ، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن ينزل عليه بالوحي ، فقال جبريل ، فقال : ذاك عدونا عادانا مرارا وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر ، فبعثنا من يقتله فرآه ببابل فدفع عنه جبريل . وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه وإلا فيم تقتلونه ؟ وقيل : دخل عمر رضي الله تعالى عنه مدارس اليهود يوما ، فسألهم عن جبريل فقالوا : ذاك عدونا يطلع محمدا على أسرارنا وإنه صاحب كل خسف وعذاب ، وميكائيل صاحب الخصب والسلام ، فقال : وما منزلتهما من الله ؟ قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وبينهما عداوة ، فقال ؛ لئن كانا كما تقولون فليسا بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير ، ومن كان عدو أحدهما فهو عدو الله . ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقال عليه الصلاة والسلام " لقد وافقك ربك يا عمر " . وفي جبريل ثمان لغات قرئ بهن أربع في : المشهور " جبرئيل " كسلسبيل قراءة حمزة والكسائي ، و{ جبريل } بكسر الراء وحذف الهمزة قراءة ابن كثير ، و " جبرئيل " كجحمرش قراءة عاصم برواية أبي بكر ، و{ جبريل } كقنديل قراءة الباقين . وأربع في الشواذ : " جبرائيل " كجبراعيل ، و " جبريل " وجبرين ومنع صرفه للعجمة ، والتعريف ، ومعناه عبد الله . { فإنه نزله } البارز الأول لجبريل ، والثاني للقرآن ، وإضماره غير مذكور يدل على فخامة شأنه كأنه لتعينه وفرط شهرته لم يحتج إلى سبق ذكره . { على قلبك } فإنه القابل الأول للوحي ، ومحل الفهم والحفظ ، وكان حقه على قلبي لكنه جاء على حكاية كلام الله تعالى كأنه قال : قل ما تكلمت به . { بإذن الله } بأمره ، أو تيسيره حال من فاعله نزله . { مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين } أحوال من مفعوله ، والظاهر أن جواب الشرط { فإنه نزله } ، والمعنى من عادى منهم جبريل فقد خلع ربقه الإنصاف ، أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياه لنزوله عليك بالوحي ، لأنه نزول كتابا مصدقا للكتب المتقدمة ، فحذف الجواب وأقيم علته مقامه ، أو من عاداه فالسبب في عداوته أنه نزله عليك . وقيل محذوف مثل : فليمت غيظا ، أو فهو عدو لي وأنا عدو له كما قال :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل، إذْ زعموا أن جبريل عدوّ لهم، وأن ميكائيل وليّ لهم. ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك؛
فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوّته... عن ابن عباس أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهنّ لا يعلمهن إلا نبيّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَلُوا عَمّا شِئْتُمْ، وَلَكِنْ اجْعَلُوا لِي ذِمّةَ اللّهِ وَمَا أخَذَ يَعْقُوبُ على بَنِيهِ لَئِنْ أنا حَدّثْتُكُمْ شَيْئا فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتابِعُنّي على الإسْلامِ». فقالوا: ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَلُونِي عَمّا شِئْتُمْ» فقالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن؛ أخبرنا أيّ الطعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل، وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبيّ الأميّ في النوم ومَنْ وليه من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ عَهْدُ اللّهِ لَئِنْ أنا أنْبَأْتُكُمْ لَتُتابعُنّي». فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق، فقال: «نَشَدْتُكُمْ بالّذِي أنْزَلَ التّوْرَاةَ على مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ إسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضا شَدِيدا، فَطالَ سَقَمُه مِنْه، فَنَذَرَ نَذْرا؛ لَئِنْ عافاه الله مِنْ سَقَمِهِ، لَيُحَرّمَنّ أحَبّ الطّعامِ والشرَابِ إلَيْهِ، وكانَ أحَبّ الطّعامِ إلَيْهِ لَحْمُ الإبِلِ؟ وأحَبّ الشّرَابِ إلَيْهِ ألْبانها» فقالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشْهِد الله عَلَيْكُمْ وأنْشُدُكُمْ بِاللّهِ الّذِي لا إلَه إلاّ هُوَ الّذِي أنْزَلَ التّوْرَاةَ على مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ ماءَ الرّجُلِ أبْيَضُ غَلِيظٌ، وأنّ مَاءَ المَرأةِ أصْفَرُ رَقِيقٌ، فَأيّهُما عَلاَ كَانَ لَهُ الوَلَدُ وَالشّبَهُ بإذْنِ اللّهِ، فَاذَا عَلاَ مَاءُ الرّجُلِ مَاءَ المَرْأَةِ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرا بِإذْنِ اللّهِ، وَإِذَا عَلاَ مَاءُ الْمَرَأَةِ مَاءَ الرّجُلِ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى بِإذْنِ اللّهِ؟». قالوا: اللهم نعم قال: «اللّهُمّ اشْهَدْ». قال: «وَأنْشُدُكُمْ بالّذِي أنْزَلَ التّوْرَاةَ على مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ هَذَا النّبِيّ الأمي تَنامُ عَيْنَاهُ وَلاَ يَنامُ قَلْبُهُ؟». قالوا: اللهم نعم قال: «اللّهُمّ اشهَدْ». قالوا: أنت الاَن تحدثنا مَنْ وليك من الملائكة؟ فعندها نتابعك أو نفارقك. قال: «فَإنّ وَلِيّي جِبْرِيلُ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللّهُ نَبِيّا قَطّ إِلاّ وَهُوَ وَلِيّهُ». قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك. قال: «فَمَا يَمْنَعُكُمْ أنْ تُصَدّقُوهُ؟» قالوا: إنه عدوّنا. فأنزل الله عزّ وجل:"مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ على قَلْبِكَ بِإذْنِ اللّهِ" إلى قوله: "كأنّهُمْ لا يَعْلَمُونَ". فعندها باءوا بغضب على غضب... عن ابن جريج، قال: حدثني القاسم بن أبي بزة: أن يهود سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم مَنْ صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي، فقال: «جِبْرِيل». قالوا: فإنه لنا عدوّ ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال. فَنَزَلَ: {مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ} الآية.
وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهم في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم...عن الشعبي، قال: نزل عمر الرّوْحَاء، فرأى رجالاً يبتدرون أحجارا يصلّون إليها، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا. فكره ذلك وقال: إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بوادٍ فصلى ثم ارتحل فتركه. ثم أنشأ يحدثهم فقال: كنت أشهد اليهود يوم مِدْرَاسهم فأعجب من التوراة كيف تصدّق الفرقان ومن الفرقان كيف يصدّق التوراة، فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحبّ إلينا منك قلت: ولم ذلك؟ قالوا: إنك تغشانا وتأتينا. قال: قلت إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدّق التوراة ومن التوراة كيف تصدّق الفرقان قال: ومَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا ابن الخطاب ذاك صاحبكم فالحق به قال: فقلت لهم عند ذلك: أنشدكم بالله الذي لا إلَه إلا هو وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه، أتعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا. قال: فقال عالمهم وكبيرهم: إنه قد عظّم عليكم فأجيبوه قالوا: أنت عالمنا وسيدنا فأجبه أنت. قال: أما إذْ أنشدتنا به، فإنا نعلم أنه رسول الله. قال: قلت: ويحكم إذا هلكتم. قالوا: إنا لم نهلك. قال: قلت: كيف ذاك وأنتم تعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا تتبعونه، ولا تصدقونه؟ قالوا: إن لنا عدوّا من الملائكة وسِلْما من الملائكة، وإنه قُرِنَ به عدوّنا من الملائكة. قال: قلت: ومن عدوّكم ومن سِلْمُكم؟ قالوا: عدوّنا جبريل وسلمنا ميكائيل. قال: قلت: وفيم عاديتم جبريل وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا. قال: قلت: وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يمينه والاَخر عن يساره، قال: قلت: فوالله الذي لا إلَه إلا هو إنهما والذي بينهما لعدوّ لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدوّ ميكائيل، ولا لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل. قال: ثم قمت فاتبعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلحقته وهو خارج من مَخْرَفة لبني فلان فقال لي: «يَا ابْنَ الخَطّابِ أَلاَ أُقْرِئُكَ آياتٍ نَزَلْنَ؟» فقرأ علي: "قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجبْرِيلَ فَإنّهُ نَزّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإذْنِ اللّهِ مُصَدّقا لَمَا بَيْنَ يَدَيْهِ "حتى قرأ الآيات. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله والذي بعثك بالحقّ لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر...
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإذْنِ اللّهِ}: قل يا محمد لمعاشر اليهود من بني إسرائيل الذين زعموا أن جبريل لهم عدوّ من أجل أنه صاحب سطوات وعذاب وعقوبات لا صاحب وحي وتنزيل ورحمة، فأبوا اتباعك وجحدوا نبوّتك، وأنكروا ما جئتهم به من آياتي وبينات حكمي من أجل أن جبريل وليك وصاحب وحيي إليك، وزعموا أنه عدوّ لهم: من يكن من الناس لجبريل عدوّا ومنكرا أن يكون صاحب وحي الله إلى أنبيائه وصاحب رحمته فإني له وليّ وخليل، ومقرّ بأنه صاحب وحي إلى أنبيائه ورسله، وأنه هو الذي ينزل وحي الله على قلبي من عند ربي بإذن ربي له بذلك يربط به على قلبي ويشدّ فؤادي... وكذلك يفعل بالمرسلين والأنبياء من قبلك.
وإنما قال جل ثناؤه: {فَإنّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} وهو يعني بذلك قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمر محمدا في أول الآية أن يخبر اليهود بذلك عن نفسه، ولم يقل: فإنه نزّله على قلبي. ولو قيل «على قلبي» كان صوابا من القول...
{مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ القرآن}: فإن جبريل نزّل القرآن على قلبك يا محمد مصدقا لما بين يدي القرآن، يعني بذلك مصدقا لما سلف من كتب الله أمامه، ونزلت على رسله الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه إياها موافقة معانيه معانيها في الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم. وما جاء به من عند الله، وهي تصدّقُه...
{وَهُدًى} ودليل وبرهان. وإنما سماه الله جل ثناؤه «هُدًى» لاهتداء المؤمن به، واهتداؤه به اتخاذه إياه هاديا يتبعه وقائدا ينقاد لأمره ونهيه وحلاله وحرامه. والهادي من كل شيء ما تقدم أمامه، ومن ذلك قيل لأوائل الخيل: هَوَادِيها، وهو ما تقدم أمامها، وكذلك قيل للعنق: الهادي، لتقدمها أمام سائر الجسد.
["وبشرى"] وأما البشرى فإنها البشارة. أخبر الله عباده المؤمنين جل ثناؤه أن القرآن لهم بشرى منه لأنه أعلمهم بما أعدّ لهم من الكرامة عنده في جناته، وما هم إليه صائرون في معادهم من ثوابه. وذلك هو البشرى التي بشر الله بها المؤمنين في كتابه، لأن البشارة في كلام العرب هي إعلام الرجل بما لم يكن به عالما مما يسره من الخير قبل أن يسمعه من غيره أو يعلمه من قبل غيره. وقد روي في ذلك عن قتادة قول قريب المعنى مما قلناه.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {هُدًى وبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} لأن المؤمن إذا سمع القرآن حفظه ووعاه وانتفع به واطمأن إليه وصدّق بموعود الله الذي وعد فيه، وكان على يقين من ذلك.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
زعمت اليهود أن جبريل لا يأتي بالخير، وأنهم لا يحبونه، ولو كان ميكائيل لكانوا آمنوا به، فأكذبهم الحقُّ سبحانه فقال: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ} لأنه لا يأتي بالخير، فأي خير أعظم مما نزل به من القرآن؟!...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف استقام قوله: «فإنه نزله» جزاء للشرط؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتاباً مصدّقاً للكتب بين يديه، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم.
والثاني: إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدّقاً لكتابهم وموافقاً له، وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم، ولذلك كانوا يحرفونه ويجحدون موافقته له، كقولك: إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه، أُفرد الملكان بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر، وهو مما ذكر أنّ التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات.
اعلم أن هذا النوع أيضا من أنواع قبائح اليهود ومنكرات أقوالهم وأفعالهم، واعلم أن الأقرب أن يكون سبب عداوتهم له أنه كان ينزل القرآن على محمد عليه السلام لأن قوله: {من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} مشعر بأن هذا التنزيل لا ينبغي أن يكون سببا للعداوة لأنه إنما فعل ذلك بأمر الله فلا ينبغي أن يكون سببا للعداوة، وتقرير هذا من وجوه:
أولها: أن الذي نزله جبريل من القرآن بشارة المطيعين بالثواب وإنذار العصاة بالعقاب والأمر بالمحاربة والمقاتلة لما لم يكن ذلك باختياره بل بأمر الله الذي يعترفون أنه لا محيص عن أمره ولا سبيل إلى مخالفته، فعداوة من هذا سبيله توجب عداوة الله وعداوة الله كفر، فيلزم أن عداوة من هذا سبيله كفر.
وثانيها: أن الله تعالى لو أمر ميكائيل بإنزال مثل هذا الكتاب فإما أن يقال: إنه كان يتمرد أو يأبى عن قبول أمر الله وذلك غير لائق بالملائكة المعصومين، أو كان يقبله ويأتي به على وفق أمر الله فحينئذ يتوجه على ميكائيل ما ذكروه على جبريل عليهما السلام فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة؟
وثالثها: أن إنزال القرآن على محمد كما شق على اليهود، فإنزال التوراة على موسى شق على قوم آخرين، فإن اقتضت نفرة بعض الناس لإنزال القرآن قبحه فلتقتض نفرة أولئك المتقدمين إنزال التوراة على موسى عليه السلام قبحه ومعلوم أن كل ذلك باطل فثبت بهذه الوجوه فساد ما قالوه.
وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه لا على قلبه، إلا أنه خص القلب بالذكر لأجل أن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظا حتى أداه إلى أمته، فلما كان سبب تمكنه من الأداء ثباته في قلبه حفظا جاز أن يقال: نزله على قلبك وإن كان في الحقيقة نزله عليه لا على قلبه. كيف استقام قوله: {فإنه نزله} جزاء للشرط؟
الأول: أنه سبحانه وتعالى بين أن هذه العداوة فاسدة لأنه ما أتى إلا أنه أمر بإنزال كتاب فيه الهداية والبشارة فأنزله، فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذورا، ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يجب أن يكون مشكورا فكيف تليق به العداوة.
والثاني: أنه تعالى بين أن اليهود إن كانوا يعادونه فيحق لهم ذاك، لأنه نزل عليك الكتاب برهانا على نبوتك، ومصداقا لصدقك وهم يكرهون ذلك فكيف لا يبغضون من أكد عليهم الأمر الذي يكرهونه.
أما قوله تعالى: {وهدى} فالمراد به أن القرآن مشتمل على أمرين.
(أحدهما): بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأعمال الجوارح وهو من هذا الوجه هدى.
(وثانيهما): بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه وهو من هذا الوجه بشرى، ولما كان الأول مقدما على الثاني في الوجود لا جرم قدم الله لفظ الهدى على لفظ البشرى،
فإن قيل: ولم خص كونه هدى وبشرى بالمؤمنين مع أنه كذلك بالنسبة إلى الكل؟
الأول: أنه تعالى إنما خصهم بذلك، لأنهم هم الذين اهتدوا بالكتاب فهو كقوله تعالى: {هدى للمتقين}.
والثاني: أنه لا يكون بشرى إلا للمؤمنين، وذلك لأن البشرى عبارة عن الخبر الدال على حصول الخير العظيم وهذا لا يحصل إلا في حق المؤمنين، فلهذا خصهم الله به.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{على قلبك}: أتى بلفظ على، لأن القرآن مستعل على القلب، إذ القلب سامع له ومطيع، يمتثل ما أمر به، ويجتنب ما نهى عنه. وكانت أبلغ من إلى، لأن إلى تدل على الانتهاء فقط، وعلى تدل على الاستعلاء. وما استعلى على الشيء يضمن الانتهاء إليه.
وخص القلب، ولم يأت عليك، لأن القلب هو محل العقل والعلم وتلقي الواردات، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها، وخزانته التي يحفظ فيها، أو لأنه سلطان الجسد. وفي الحديث: « إن في الجسد مضغة» ثم قال أخيراً: « ألا وهي القلب» أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه، أو لأنه بيت الله، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقاً للمحل على الحال به، أو عن الجملة الإنسانية، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} أو يكون إطلاقاً لبعض الشيء على كله، أقوال سبعة.
وما: في "لما "موصولة، وعنى بها الكتب التي أنزل الله على الأمم قبل إنزاله، أو التوراة والإنجيل.
{وهدى وبشرى}: معطوفان على مصدّقاً، فهما حالان، فيكون من وضع المصدر موضع اسم الفاعل كأنه قال: وهادياً ومبشراً، أو من باب المبالغة، كأنه لما حصل به الهدى والبشرى، جعل نفس الهدى والبشرى.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر عداوتهم لأخص البشر واجتراءهم عليه بالتكذيب والقتل، وختم ذلك بعداوتهم لأكمل الخلق وأخصهم حسداً لنزول هذا الذكر عليه عبارة ثم إشارة بما رمزه إلى نصبهم لقتله وأنهى ذلك بأنه لا محيص لهم من العذاب، لأنه بصير بأعمالهم الموجبة له ذكر ما هو من دقيق أعمالهم في عراقتهم في الكفر بعداوتهم لخواص الملائكة الذين هم خير محض لا حامل أصلاً على بغضهم إلا الكفر، وبدئ بذكر المنزل للقرآن، لأن عداوتهم للمنزل عليه لأجل ما نزل عليه عداوة لمنزله، لأنه سبب ما كانت العداوة لأجله،فقال آمراً له صلى الله عليه وسلم إعلاماً بما أبصره من خفي مكرهم القاضي بضرهم: {قل}... أو يقال -وهو أحسن وأبين وأمتن: و لما أمره صلى الله عليه وسلم بما دل على كذبهم في ادعائهم خلوص الآخرة لهم وأخبر بأنه لا بد من عذابهم أمره بدليل آخر على كلا الأمرين، فعلى تقدير كونه دليلاً على الأول يكون مسوقاً على {قل} الأولى بغير عاطف إشعار بأن كلاًّ من الدليلين كاف فيما سيق له: على تقدير كونه دليلاً على الثاني الذي خصه يكون جواباً لمن كأنه قال: لم لا يزحزحهم التعمير عن العذاب؟ {قل} أي لهؤلاء الذين ادعوا أن دار الملك خالصة لهم وهم يعادون خواص جنده...
{من} وهي اسم مبهم يشمل الذوات العاقلة آحاداً وجموعاً واستغراقاً- قاله الحرالي.
{كان عدواً لجبريل} أي فإنه لا يضر إلا نفسه، لأنه لا يبلغ ضره بوجه من الوجوه ولعداوته بعداوته له لله الذي خصه بقربه واختياره لرسالته، فكفر حينئذ هذا المعادي له بجميع كتب الله ورسله...
وجبريل، قال الحرالي: يقال هو اسم عبودية، لأن إيل اسم من أسماء الله عز وجل في الملأ الأعلى وهو يد بسط لروح الله في القلوب بما يحييها الله به من روح أمره إرجاعاً إليه في هذه الدار قبل إرجاع روح الحياة بيد القبض من عزرائيل عليه السلام...
ثم علل هذا الخبر المحذوف بما أرشد إليه فقال: {فإنه} أي جبريل {نزله} أي القرآن الذي كفروا به، لحسدهم للذي أنزل عليه بعد ما كانوا يستفتحون به الآتي بما ينفعهم، الداعي إلى ما يصلحهم فيرفعهم...
ولما كان المراد تحقيق أنه كلام الله وأنه أمر بإبلاغه جمع بين {قل} وبين {على قلبك} أي وهو أكمل القلوب، دون أن يقال: على قلبي -المطابق لقل؛ وأداة الاستعلاء دالة على أن المنزل تمكن في القلب فصارت مجامعه مغمورة به، فكان مظهراً له
{بإذن الله} الملك الأعظم الذي له الأمر كله. فليس لأحد إنكار ما أذن فيه. والنازل به لم يتعد شيئاً مما أمر به والإذن رفع المنع وإيتاء المكنة كوناً وخلقاً ما لم يمنعه حكم تصريف- قاله الحرالي... والبين حد فاصل في حس أو معنى -قاله الحرالي...
{وهدى} إلى كل خير، لأنه بيان ما وقع التكليف به من أفعال القلوب والجوارح...
{وبشرى} أي ببيان الثواب {للمؤمنين} أي الذين لهم الإيمان وصف لازم، فلا يفرقون بين كتب الله ولا بين رسله، بل حيثما قادهم الحق انقادوا؛ فلا يدخل في ذلك الذين آمنوا بألسنتهم (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89] ولا من علم الله منه ذلك ولو كان قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم- الله أعلم بما كانوا عاملين؛ فلو أنهم مؤمنون لما عادوا من نزل به بشرى لهم ولكنهم كفرة فهم في العذاب، والآخرة ليست لهم بل عليهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} أي قل لهم أيها الرسول حكاية عن الله تعالى: من كان عدوا لجبريل فإن شأن جبريل كذا – فهو إذا عدو لوحي الله الذي يشمل التوراة وغيرها ولهداية الله تعالى لخلقه وبشراه للمؤمنين، على ما يأتي في بيان ذلك.
قال شيخنا في تقييد تنزيله بإذن الله: وإذا كان يناجى روحك ويخاطب قلبك بإذن الله، لا افتياتا من نفسه، فعداوته لا يصح أن تصد عن الإيمان بك، وليس للعاقل أن يتخذها تعلة وينتحلها عذرا، فإن القرآن من عند الله لا من عنده.
فقوله {بإذن الله} حجة أولى عليهم،
ثم قال {مصدقا لما بين يديه} أي حال كونه موافقا للكتب التي تقدمته في الأصول التي تدعو إليها من التوحيد واتباع الحق والعمل الصالح ومطابقا لما فيها من البشارات بالنبي الذي يجئ من أبناء إسماعيل، كأنه يقول: فآمنوا به لهذه المطابقة والموافقة، لا لأن جبريل واسطة في تبليغه وتنزيله. وهذه حجة ثانية
ثم عزرهما بثالثة وهي قوله {وهدى} أي نزله هاديا من الضلالات والبدع التي طرأت على الأديان، فألقت أهلها في حضيض الهوان. والعاقل لا يرفض الهداية التي تأتيه، وتنقذه من ضلال هو فيه، لأن الواسطة في مجيئها كان عدوا له من قبل، فإن هذا الرفض من عمل الغبي الجاهل الذي لا يعرف الخير بذاته وإنما يعرفه بمن كان سببا في حصوله.
ثم أيد الحجج الثلاث برابعة فقال {وبشرى للمؤمنين} أي إذا كنتم تعادون جبريل لأنه أنذر بخراب بيت المقدس فهو إنما أنذر المفسدين. وقد أنزل هذا القرآن عليّ بشرى للمؤمنين فما لكم أن تتركوا هذه البشرى إن كنتم من أهل الإيمان، لأن الذي نزل بها قد نزل بإنذار أهل الفساد والطغيان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي السياق بتلقين جديد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم يتحداهم به، ويعلن الحقيقة التي يتضمنها على رؤوس الأشهاد: (قل: من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله، مصدقا لما بين يديه، وهدى وبشرى للمؤمنين. من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال، فإن الله عدو للكافرين).. وفي قصة هذا التحدي نطلع على سمة أخرى من سمات يهود. سمة عجيبة حقا.. لقد بلغ هؤلاء القوم من الحنق والغيظ من أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده مبلغا يتجاوز كل حد، وقادهم هذا إلى تناقض لا يستقيم في عقل.. لقد سمعوا أن جبريل ينزل بالوحي من عند الله على محمد صلى الله عليه وسلم ولما كان عداؤهم لمحمد قد بلغ مرتبة الحقد والحنق فقد لج بهم الضغن أن يخترعوا قصة واهية وحجة فارغة، فيزعموا أن جبريل عدوهم، لأنه ينزل بالهلاك والدمار والعذاب؛ وأن هذا هو الذي يمنعهم من الإيمان بمحمد من جراء صاحبه جبريل! ولو كان الذي ينزل إليه بالوحي هو ميكائيل لآمنوا، فميكائيل يتنزل بالرخاء والمطر والخصب!
إنها الحماقة المضحكة، ولكن الغيظ والحقد يسوقان إلى كل حماقة. وإلا فما بالهم يعادون جبريل؟ وجبريل لم يكن بشرا يعمل معهم أو ضدهم، ولم يكن يعمل بتصميم من عنده وتدبير؟ إنما هو عبد الله يفعل ما يأمره ولا يعصى الله ما أمره!...
(مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين).. والقرآن يصدق في عمومه ما سبقه من الكتب السماوية، فأساس دين الله واحد في جميع الكتب السماوية وجميع الديانات الإلهية.. وهو هدى وبشرى للقلوب المؤمنة، التي تتفتح له وتستجيب.. وهذه حقيقة ينبغي إبرازها..
إن نصوص القرآن لتسكب في قلب المؤمن من الإيناس، وتفتح له من أبواب المعرفة، وتفيض فيه من الإيحاءات والمشاعر ما لا يكون بغير الإيمان. ومن ثم يجد فيه الهدى، كما يستروح فيه البشرى. وكذلك نجد القرآن يكرر هذه الحقيقة في مناسبات شتى.. (هدى للمتقين).. (هدى لقوم يؤمنون).. (هدى لقوم يوقنون).. (شفاء ورحمة للمؤمنين). فالهدى ثمرة الإيمان والتقوى واليقين.. وبنو إسرائيل لم يكونوا يؤمنون أو يتقون أو يوقنون!...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإنه مع قبول الروايات التي انتهى المفسر السلفي فيها إلى إجماعهم من أن اليهود كانوا يعدون جبريل عدوا، فإنا نرى من المعاني القرآنية والإشارات البيانية أنهم كانوا يجعلونه عدوا؛ لأنه نزل بالقرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لسفه عقولهم وفساد تفكيرهم، فرد الله عليهم بأنه هو الذي نزل القرآن بإذن الله، فلا محل لعداوته، فعادوا من أنزله، ولكن سوء ظنهم جعلهم يحملون جبريل عليه السلام التبعة، وإذا كان نزول القرآن سببا للعداوة، فاتخذوا الله عدوا، ولا غرابة في ذلك ممن اتخذوا العجل وليا لهم...
ويكون المعنى الذي يفهم من الآية: لقد اتخذتم جبريل عدوا لما انتحلتم من كذب بأنه ينزل بالهلاك أو نحو ذلك، إنما اتخذتموه عدوا؛ لأنه ينزل بالقرآن على قلب النبي عليه السلام وإذا كان نزول القرآن هو السبب فإنه يكون الله هو العدو ويكون قوله تعالى:
{من كان عدوا لجبريل} شرطا، ويكون قوله تعالى: {فإنه نزله على قلبك بإذن الله} تعليلا لجواب الشرط المحذوف إذ تقديره، فإنه عدو لله تعالى؛ لأنه الذي نزله على قلبك بإذنه...
إن عداوتهم لجبريل عليه السلام تؤكد ماديتهم.. فهم يقيسون الأمر على البشر.. إن الذي يجلس على يمين السيد ومن يجلس على يساره يتنافسان على المنزلة عنده.. ولكن هذا في دنيا البشر.. ولكن عند الملائكة لا شيء من هذا.. الله عنده ما يجعله يعطي لمن يريد المنزلة العالية دون أن ينقص من الآخر..
ثم إن الله سبحانه وتعالى اسمه الحق.. وما ينزل به جبريل حق وما ينزل به ميكائيل حق.. والحق لا يخاصم الحق.. وقال لهم عمر أنتم أشد كفرا من الحمير.. ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكد الرسول يراه حتى قال له وافقك ربك يا عمر.. وتنزل قول الله تبارك وتعالى: {قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين} فقال عمر يا رسول الله.. إني بعد ذلك في إيماني لأصلب من الجبل. إذن فقولهم ميكائيل حبيبنا وجبريل عدونا من الماديات، والله تبارك وتعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم.. إنهم يعادون جبريل لأنه نزل على قلبك بإذن الله.. ومادام نزل من عند الله على قلبك.. فلا شأن لهم بهذا.. وهو مصدق لما بين يديهم من التوراة.. وهو هدى وبشرى للمؤمنين.. فأي عنصر من هذه العناصر تنكرونه على جبريل.. إن عداوتكم لجبريل عداوة لله سبحانه وتعالى...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لقد جاءت هذه الآية توبيخاً لليهود على هذه العقلية الطفولية التي يحملونها، لأنَّ جبريل إذا كان عدوّاً لهم، فما دخله بما ينزل به من عند اللّه مما يكون مصدقاً لما بين أيديهم من الكتب ومتضمناً للهدى والبشرى للمسلمين الذين يسلمون قلوبهم ووجوههم للّه؟ وهل يكون حال هذا المنطق إلاَّ كمنطق الإنسان الذي يرفض الرسالة التي تحقّق له الربح والسعادة والنجاح بحجة أنَّ الناقل لها غير محبوب له، أو غير مرغوب لديه.. إنه منطق الطفولة الغبية الذي لا يعتمد على أساس فكري، بل يخضع للانفعالات الساذجة.
ثُمَّ أكّد اللّه أنَّ العداوة للّه وللملائكة ومنهم جبريل وميكال، وللرسل، تستوجب الكفر في مدلولها السلبي في رفض الالتزام بالأسس التي يقوم عليها الإيمان، وتؤدي بالتالي إلى عداوة اللّه لهم متمثّلةً في سخطه وعقابه. أمّا بالنسبة إلى عداوة اللّه فواضح، وأمّا بالنسبة إلى عداوة الأنبياء والملائكة، فلأنهم لا يمثّلون أنفسهم في ما يدعون إليه أو يفيضون فيه، بل ينطلقون في سلوكهم من موقع علاقتهم باللّه وقربهم منه، ما يجعل من عداوتهم عداوة للّه وحده...