ثم ساق - سبحانه - دليلا ثالثا من واقع خلق كل دابة ، وبديع صنعه فيما خلقه فقال : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ . . . } .
والدابة : اسم لكل حيوان ذى روح ، سواء أكان من العقلاء أم من غيرهم . وهذا اللفظ مأخوذ من الدبيب ، بمعنى المشى الخفيف .
وتطلق الدابة فى العرف على ذوات الأربع ، والمراد بها هنا ما هو أعم من ذلك .
قال بعض العلماء : " وهذه الحقيقة الضخمة التى يعرضها القرآن بهذه البساطة ، حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء ، قد تعنى وحدة العنصر الأساسى فى تركيب الأحياء جميعا ، وهو الماء ، وقد تعنى ما يحاول العلم الحديث أن يتبعه من أن الحياة خرجت من البحر ، ونشأت أصلا فى الماءن ثم تنوعت الأنواع وتفرعت الأجناس .
ولكنا نحن على طريقتنا فى عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل . . . . لا نزيد على هذه الإشارة شيئا ، مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية ، وهى أن الله - تعالى - خلق الأحياء كلها من الماء ، فهى ذات أصل واحد ، ثم هى - كما ترى العين - متنوعة الأشكال . . .
وقال الإمام الرازى : فإن قيل لماذا نكر الماء هنا ، وجاء معرفا فى قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } والجواب : إنما جاء هنا منكرا ، لأن المعنى ، أنه خلق كل دابة من نوع من الماء يختص بتلك الدابة ، وإنما جاء معرفا فى قوله { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء } لأن المقصود هناك ، كونهم مخلوقين من هذا الجنس ، وههنا بيان أن ذلك الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة .
وقوله - تعالى - : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ .
. . } تفصيل لهذه المخلوقات التى خلقت من الماء .
والضمير فى " منهم " يعود إلى " كل " باعتبار معناه ، وفيه تغليب العاقل على غيره .
أى : فمن هذه الدواب من يمشى على بطنه كالزواحف وما يشبهها ، " ومنهم من يمشى على رجلين " كالإنس والطير " ومنهم من يمشى على أربع " كالأنعام والوحوش " يخلق الله " - تعالى - " ما يشاء " خلقه من دواب وغيرها على وفق إرادته وحكمته " إن الله على كل شىء قدير " فلا يعجزه - سبحانه - خلق ما يريد خلقه ، ولا يمنعه من ذلك مانع ، بل كل شىء خاضع لقدرته - عز وجل .
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد ساقت ألوانا من الأدلة على قدرة الله - تعالى - . منها ما يتعلق بالكائن العلوى ، ومنها ما يتعلق بالزمان ، ومنها ما يتعلق بخلق أنواع الدواب على اختلاف أشكالها .
{ والله خلق كل دابة } حيوان يدب على الأرض . وقرأ حمزة والكسائي " خالق كل دابة " بالإضافة { من ماء } هو جزء مادته ، أو ماء مخصوص هو النطفة فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما يتولد عن النطفة ، وقيل { من ماء } متعلق ب { دابة } وليس بصلة ل{ خلق } . { فمنهم من يمشي على بطنه } كالحية وإنما سمي الزحف مشيا على الاستعارة أو المشاكلة . { ومنهم من يمشي على رجلين } كالإنس والطير . { ومنهم من يمشي على أربع } كالنعم والوحش ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب فإن اعتمادها إذا مشت على أربع ، وتذكير الضمير لتغليب العقلاء والتعبير عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة والترتيب لتقديم ما هو أعرف في القدرة . { يخلق الله ما يشاء } مما ذكر ومما لم يذكر بسيطا ومركبا على اختلاف الصور والأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته . { إن الله على كل شيء قدير } فيفعل ما يشاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه} يعني: الهوام. {ومنهم من يمشي على رجلين} الإنس والجن والطير.
{ومنهم من يمشي على أربع} قوائم، يعني: الدواب والأنعام والوحش والسباع. {يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء} من الخلق {قدير}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... وقوله:"خَلَقَ كُلّ دَابّةٍ مِن ماءٍ" يعني: من نطفة.
"فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ "كالحيّات وما أشبهها. وقيل إنما قيل: "فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ" والمشي لا يكون على البطن لأن المشي إنما يكون لما له قوائم، على التشبيه، وأنه لما خالط ما له قوائمُ ما لا قوائمَ له، جاز، كما قال: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ" كالطير، "وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أرْبَعٍ" كالبهائم.
فإن قال قائل: فكيف قيل: فمنهم من يمشي، و«مَن» للناس، وكلّ هذه الأجناس أو أكثرها لغيرهم؟ قيل: لأنه تفريق ما هو داخل في قوله: "وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَابّةٍ" وكان داخلاً في ذلك الناس وغيرهم، ثم قال: فمنهم لاجتماع الناس والبهائم وغيرهم في ذلك واختلاطهم، فكنى عن جميعهم كنايته عن بني آدم، ثم فسرهم ب«مَن»، إذ كان قد كنى عنهم كناية بني آدم خاصة. "يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ" يقول: يحدث الله ما يشاء من الخلق.
"إنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَديرٌ" يقول: إن الله على إحداث ذلك وخلقه وخلق ما يشاء من الأشياء غيره، ذو قدرة لا يتعذّر عليه شيء أراد.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يريد خلقَ كُلَّ حيوانٍ من ماء، يخرج من صُلْب الأب وتريبة الأمِّ. ثم أجزاءُ الماءِ متساويةٌ متماثِلة، ثم ينقسم إلى جوارح في الظاهر وجوارح في الباطن، فيختصُّ كلُّ عضو وينفرد كل شِلْوٍ بنوع من الهيئة والصورة، وضَرْبٍ من الشكل والبِنْيَةِ. ثم اختلاف هيئات الحيوانات في الريش والصوف والوبر والظفر والحافر والمخلب، ثم في القامة والمنظر، ثم انقسام ذلك إلى لحم وشحم وجِلْدٍ وعَظْمٍ وسِنِّ ومخِّ وعَصب وعِرْقٍ وشَعْرٍ.
فالنظرُ في هذا -مع العبرة به- يوجِبُ سجودَ البصيرةَ وقوة التحصيل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم نكر الماء في قوله: {مِّن مَّآء}؟ قلت: لأن المعنى أنه خلق كل دابة من نوع من الماء مختصّ بتلك الدابة، أو خلقها من ماء مخصوص وهو النطفة...فإن قلت: فما باله معرّفاً في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شيء حَي} [الأنبياء: 30]؟ قلت: قصد ثمة معنى آخر: وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينه وبينها وسائط...
فإن قلت: لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟ قلت: قدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو قوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع.
فإن قلت: لم سمي الزحف على البطن مشياً؟ قلت؛ على سبيل الاستعارة كما قالوا في الأمر المستمرّ: قد مشى هذا الأمر، ويقال: فلان لا يتمشى له أمر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر أولاً أحوال الخافقين دليلاً على وحدانيته، وفصل منها الآثار العلوية، فذكر ما يسقي الأرض، وطوى ذكر ما ينشأ عنه من النبات للعلم به، ذكر أحوال ما يتكون به من الحيوانات دليلاً ظاهراً على الإعادة، وبرهاناً قاهراً على المنكرين لها فقال: {والله} أي الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة {خلق كل دآبة} أي مما تقدم أنه يسبح له.
ولما ذكر أنواعاً من الحيوان، نكر بخلاف ما في الأنبياء فقال: {من ماء} أي دافق هو أعظم أجزاء مادته كما خلق النبات من ماء "هامر "كذلك، وفاوت بينه مع كون الكل من الماء الهامر الذي لا تفاوت فيه {فمنهم} أي الدواب.
ولما كان في سياق التعظيم، وكان قد آتى كل نفس من الإدراك ما تعرف به منافعها ومضارها، عبر عن الكل بأداة من يعقل وإن كانوا متفاوتين في التمييز فقال: {من يمشي على بطنه} أي من غير رجل؛ وقدم هذا لكونه أدل على القدرة، وسماه مشياً استعارة ومشاكلة {ومنهم من يمشي على رجلين} أي ليس غير {ومنهم من يمشي على أربع} أي من الأيدي والأرجل، وفي هذا تنبيه على من يمشي على أكثر من ذلك، وإليه الإشارة بقوله: {يخلق الله} وعبر باسم الجلالة إعلاماً بتناهي العظمة؛ وقال: {ما يشاء} دلالة على أنه فعله بقدرته واختياره، لا مدخل لشيء غير ذلك فيه إلا بتقدير العزيز العليم.
ولما كانت هذه الأدلة ناظرة إلى البعث أتم نظر، وكانوا منكرين له، أكد قوله: {إن الله} أي الذي الكمال المطلق {على كل شيء} من ذلك وغيره {قدير}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة، حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء، قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعا، وهو الماء، وقد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أن الحياة خرجت من البحر ونشأت أصلا في الماء. ثم تنوعت الأنواع، وتفرعت الأجناس.
ولكننا نحن على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل.. لا نزيد على هذه الإشارة شيئا. مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية. وهي أن الله خلق الأحياء كلها من الماء. فهي ذات أصل واحد. ثم هي -كما ترى العين- متنوعة الأشكال...
كل أولئك وفق سنة الله ومشيئته، لا عن فلتة ولا مصادفة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتنكير {ماء} لإرادة النوعية تنبيهاً على اختلاف صفات الماء لكل نوع من الدواب إذ المقصود تنبيه الناس إلى اختلاف النطف للزيادة في الاعتبار. وهذا بخلاف قوله: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} [الأنبياء: 30] إذ قُصد ثمة إلى أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من جنس الماء وهو جنس واحد اختلفت أنواعه، فتعريف الجنس هناك إشارة إلى ما يعرفه الناس إجمالاً ويعهدونه من أن الحيوان كله مخلوق من نطف أصوله.
والمشي: هو انتقال الموصوف بالمشي من حيز مكاني إلى حيز مكاني آخر، والناس تفهم أن المشي ما كان بالقدمين، لكن يوضح لنا سبحانه أن المشي أنواع: فمن الدواب من يمشي على بطنه. ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع.
وربنا- سبحانه وتعالى – بسط لنا هذه المسألة بسطا يتناسب وإعجاز القرآن وإيجازه، فلم يذكر مثلا أن من الدواب من له أربع وأربعون مثلا، وفي تنوع طرق المشي في الدواب عجائب تدلنا على قدرته تعالى وبديع خلقه. لذلك قال بعدها: {يخلق الله ما يشاء} لأن الآية لم تستقص كل ألوان المشي، إنما تعطينا نماذج، وتحت {يخلق الله ما يشاء} تندرج مثلا (أم أربعة وأربعين) وغيرها من الدواب، والآية دليل على طلاقة قدرته سبحانه.