قال أبو حيان - رحمه الله - : لما ذكر - تعالى - فى الآية السابقة ، أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا ، بين بعد ذلك علة إهلاكهم ، وهى مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتمادى على الفساد - فقال ، سبحانه - : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا . . } .
وقوله - سبحانه - : { أمرنا } من الأمر الذى هو ضد النهى ، والمأمور به هو الإِيمان والعمل الصالح ، والشكر لله رب العالمين ، وحذف لظهوره والعلم به .
وقوله { مترفيها } جمع مترف ، وهو المتنعم الذى لا يمنع من تنعمه ، بل يترك يفعل ما يشاء . يقال : ترف فلان - كفرح - أى : تنعم ، وفلان أترفته النعمة ، أى : أطغته وأبطرته لأنه لم يستعملها فى وجوهها المشروعة .
والمراد بهم ، أصحاب الجاه والغنى والسلطان ، الذين أحاطت بهم النعم من كل جانب ، ولكنهم استعملوها فى الفسوق والعصيان ، لا فى الخير والإِحسان .
والمعنى : وإذا قرب وقت إرادتنا إهلاك أهل قرية ، أمرنا مترفيها ، وأهل الغنى والسلطان فيها بالإِيمان والعمل الصالح ، والمداومة على طاعتنا وشكرنا ، فلم يستجيبوا لأمرنا ، بل فسقوا فيها ، وعاثوا فى الأرض فسادا .
وهذا الأمر إنما هو على لسان الرسول المبعوث إلى أهل تلك القرية ، وعلى ألسنة المصلحين المتبعين لهذا الرسول والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر .
وقال - سبحانه - : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً . . . } مع أن الهلاك لأهلها ، للإِشارة إلى أن هذا الهلاك لن يصيب أهلها فقط ، بل سيصيبهم ويصيب معهم مساكنهم وأموالهم وكل ما احتوته تلك القرية ، بحيث تصير هى وسكانها أثرا بعد عين .
وخص مترفيها بالذكر مع أن الأمر بالطاعة للجميع ، لأن هؤلاء المترفين هم الأئمة والقادة ، فإذا ما استجابوا للأمر استجاب غيرهم تبعا لهم فى معظم الأحيان ، ولأنهم فى أعم الأحوال هم الأسرع إلى ارتكاب ما نهى الله عنه ، وإلى الانغماس فى المتع والشهوات .
والحكمة من هذا الأمر ، هو الإِعذار والإِنذار ، والتخويف والوعيد .
كما قال - تعالى - : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل . . } وهذا التفسير للآية الكريمة ، سار عليه جمهور المفسرين .
ولصاحب الكشاف رأى يخالف ذلك ، فهو يرى أن الأمر فى الآية الكريمة مجاز عن إمدادهم بالنعم الكثيرة التى أبطرتهم .
قال - رحمه الله - : قوله - تعالى - : { وإذا أردنا } وإذا دنا وقت إهلاك قوم ، ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم { ففسقوا } أى : أمرناهم بالفسق ففعلوا .
والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا ، وهذا لا يكون ، فبقى أن يكون مجازا ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبا ، فجعلوها ذريعة إلى المعاصى واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ، ويتمكنوا من الإِحسان والبر ، كما خلقهم أصحاء أقوياء ، وأقدرهم على الخير والشر ، وطلب منهم إيثار الطاعة ، على المعصية ، فآثروا الفسوق ، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمرهم .
ومن المفسرين من يرى أن قوله - تعالى - : { أمرنا } بمعنى كثّرنا - بتشديد الثاء - وقرئ { أمّرنا } بتشديد الميم ، أى : كثرنا مترفيها وجعلناهم أمراء مسلطين . .
ولكن هذه القراءة . وقراءة { آمرنا } بمعنى " كثرنا " أيضا ، ليستا من القراءات السبعة أو العشرة ، وإنما هما من القراءات الشاذة .
قال الإِمام ابن جرير : وأولى القراءات فى ذلك عندى بالصواب ، قراءة من قرأ { أمرنا } بقصر الألف وتخفيف الميم - لإِجماع الحجة من القراء بتصويبها دون غيرها وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة ، فأولى التأويلات به من تأوله : أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها . فحق عليهم القول ، لأن الأغلب من معنى { أمرنا } الأمر الذى هو خلاف النهى دون غيره .
وتوجيه معانى كلام الله - جل ثناؤه - إلى الأشهر الأعرف من معانيه ، أولى ما وجد إليه سبيل من غيره . . .
ويبدو لنا أن الرأى الأول الذى سار عليه جمهور المفسرين ، وعلى رأسهم الإِمام ابن جرير ، أولى بالقبول ، لأسباب منها :
ان القرآن الكريم يؤيده فى كثير من آياته ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء . . } فقوله - تعالى - : { قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء } دليل واضح على أن قوله - سبحانه - : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا . . } معناه : أمرناهم بالطاعة ففسقوا ، وليس معناه أمرناهم بالفسق ففسقوا لأنه - سبحانه - لا يأمر لا بالفسق ولا بالفحشاء .
ومنها : أن الأسلوب العربى السليم يؤيده لأنك إذا قلت : أمرته فعصانى كان المعنى المتبارد والظاهر من هذه الجملة ، أمرته بالطاعة فعصانى ، وليس معناه . أمرته بالعصيان فعصانى .
ومنها : أن حمل الكلام على الحقيقة - كما سار جمهور المفسرين - أولى من حمله على المجاز - كما ذهب صاحب الكشاف - .
وقوله - سبحانه - : { فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } بيان لما نزل بهذه القرية وأهلها من عذاب محاها من الوجود ، إذ التدمير هو الإِهلاك مع طمس الأثر ، وهدم البناء .
أى : أمرنا مترفيها بطاعتنا وشكرنا ، فعصوا أمرنا وفسقوا فيها ، فثبت وتحقق عليها عذابنا ، فأهلكناها إهلاكا استأصل شأفتها ، وأزال آثارها .
وأكد - سبحانه - فعل التدمير بمصدره ، للمبالغة فى إبراز شدة الهلاك الواقع على تلك القرية الظالم أهلها .
قال الآلوسى ما ملخصه : والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه ، وإهلاك جميعهم ، لصدور الفسق منهم جميعا ، فإن غير المترف يتبع المترف عادة .
وقيل : هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال - تعالى - : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً . . . } " وقد صح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أنها قالت : قلت ، يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث " .
{ وإذا أردنا أن نُهلك قرية } وإذا تعلقت إرادتنا بإهلاك قوم لإنفاذ قضائنا السابق ، أو دنا وقته المقدر كقولهم : إذا أراد المريض أن يموت ازداد مرضه شدة . { أمرنا مُترفيها } متنعميها بالطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم ، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده ، فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة والتمرد في العصيان ، فيدل على الطاعة من طريق المقابلة ، وقيل أمرناهم بالفسق لقوله : { ففسقوا فيها } كقولك أمرته فقرأ ، فإنه لا يفهم منه إلا الأمر بالقراءة على أن الأمر مجاز من الحمل عليه ، أو التسبب له بأن صب عليهم من النعم ما أبطرهم وأفضى بهم إلى الفسوق ، ويحتمل أن لا يكون له مفعول منوي كقولهم : أمرته فعصاني . وقيل معناه كثرنا يقال : أمرت الشيء وآمرته فأمر إذا كثرته ، وفي الحديث " خير المال سكة مأبورة ، ومهرة مأمورة " ، أي كثيرة النتاج . وهو أيضا مجاز من معنى الطلب ، ويؤيده قراءة يعقوب " آمرنا " ورواية { أمرنا } عن أبي عمرو ، ويحتمل أن يكون منقولا من أمر بالضم أمارة أي جعلناهم أمراء ، وتخصيص المترفين لأن غيرهم يتبعهم ولأنهم أسرع إلى الحماقة وأقدر على الفجور . { فحقّ عليها القول } يعني كلمة العذاب السابقة بحلوله ، أو بظهور معاصيهم أو بانهماكهم في المعاصي . { فدمّرناها تدميرا } أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريب ديارهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.