التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ ثَمَٰنِيَةَ أَزۡوَٰجٖۚ يَخۡلُقُكُمۡ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ خَلۡقٗا مِّنۢ بَعۡدِ خَلۡقٖ فِي ظُلُمَٰتٖ ثَلَٰثٖۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ} (6)

ثم ساق - سبحانه - أدلة أخرى على وحدانية فقال : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } .

أى خلقكم - سبحانه - من نفس واحدة هى نفس أبيكم آدم ثم خلق من هذه النفس الواحدة ، زوجها وهى أمكم حواء .

قال الشوكانى : والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثم . للدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم ، أدخل فى كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة ؛ لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة فى خلقه ، وخلق حواء على الصفة المذكورة لم تَجرِبه عادة لكونه - تعالى - لم يخلق أنثى من ضلع رجل غيرها .

وقال الجمل : فإن قلت كيف عطف بثم مع أن خلق حواء من آدم سابق على خلقنا منه ؟ أجيب بأن ثم هنا للترتيب فى الإِخبار لا فى الإِيجاد . أو المعطوف متعلق بمعنى واحدة ، فثم عاطفة عليه لا على خلقكم ، فمعناه : خلقكم من نفس واحدة أفردت بالإِيجاد ، ثم شفعت بزوجة . أو هو معطوف على خلقكم ، لكن المراد بخلقهم ، خلقهم يوم أخذ الميثاق فدفعة لا على هذا الخلق ، الذى هو فيه الآن بالتوالد والتناسل .

وقوله - تعالى - : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } بيان لبعض آخر من أفعاله - تعالى - الدالة على وحدانيته وقدرته . والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها وهى قوله : { خلقكم } : أى : وأنزل لكم من كل من الإِبل والبقر والغنم والمعز زوجين : ذكرا وأنثى يتم بهما التناسل وبقاء النوع .

قالوا : وعبر - سبحانه - عن الخلق بالإِنزال ، لما يروى أنه - تعالى - خلق هذه الأنواع فى الجنة ثم أنزلها ، فيكون الإِنزال على سبيل الحقيقة .

أو أن الكلام على سبيل المجاز ، لأن هذه الأنعام لا تعيش إلا عن طريق ما تأكلهن من نبات ، والنبات لا يخرج إلا بالماء النازل من السماء فكأن الأنعام نازلة من السماء ، لأن سبب سببها منزل منها . . أو أن " أنزل " هنا بمعنى أنشأ وأوجد . أو لأن الخلق إنما يكون بأمر من السماء .

وقوله - تعالى - { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } بيان لكيفية خلق ما خلقه الله من الأناسى والأنعام بتلك الطريقة العجيبة .

أى أنه - تعالى - يخلقكم - أيها الناس - بقدرته فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ، بأن يحولكم من نطفة إلى علقة إلى مضغة ، إلى عظام مكسورة باللحم ، ثم يحولكم بعد ذلك إلى خلق آخر ، وهذه المراحل كلها تتم وأنتم فى ظلمات بطون أمهاتكم ، وظلمات الأرحام التى بداخل البطون وظلمات الغشاء الذى بداخل الأرحام والبطون ، وذلك كله من أقوى الأدلة على قدرة الله - تعالى - ورعايته لخلقه .

وصدق الله إذ يقول : { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ . فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ . فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون } واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك لا إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُصْرَفُونَ } يعود إليه - سبحانه - باعتبار أفعاله السابقة . وتصرفون : من الصرف بمعنى الابتعاد عن الشئ إلى غيره .

أى : ذلكم العظيم الشأن الذى ذكرنا لكم بعض مظاهر قدرته ، هو الله ربكم الذى له ملك كل شئ ، والذى لا معبود بحق سواه ، فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره ؟ وكيف تزعمون أن له شريكا أو ولدا . . مع توفر الأدلة على بطلان ذلك .

والمتأمل فى هاتين الآيتين يراهما قد ذكرتا ألوانا من البراهين على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، كخلق السموات والأرض بالحق ، وتكوير الليل على النهار ، والنهار على الليل ، وتسخير الشمس والقمر لمنافع الناس ، وخلق الناس جميعا من نفس واحدة ، ورعايتهم بطلفه وإحسانه فى مراحل حياتهم ، وإيجاد الأنعام التى تنفعهم فى شئونهم المختلفة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ ثَمَٰنِيَةَ أَزۡوَٰجٖۚ يَخۡلُقُكُمۡ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ خَلۡقٗا مِّنۢ بَعۡدِ خَلۡقٖ فِي ظُلُمَٰتٖ ثَلَٰثٖۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ} (6)

{ خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها } استدلال آخر بما أوجده في العالم السفلي مبدوء به من خلق الإنسان لأنه أقرب وأكثر دلالة وأعجب ، وفيه على ما ذكره ثلاث دلالات : خلق آدم أولا من غير أب وأم ، ثم خلق حواء من قصيراه ، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما . و{ ثم } للعطف على محذوف هو صفة { نفس } مثل خلقها أو على معنى واحدة أي من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها فشفعها بها . أو على { خلقكم } لتفاوت ما بين الآيتين ، فإن الأولى عادة مستمرة دون الثانية . وقيل أخرج من ظهره ذريته كالذر ثم خلق منها حواء . { وأنزل لكم } وقضى أو قسم لكم ، فإن قضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتبت في اللوح المحفوظ ، أو أحدث لكم بأسباب نازلة كأشعة الكواكب والأمطار . { من الأنعام ثمانية أزواج } ذكر وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز . { يخلقكم في بطون أمهاتكم } بيان لكيفية ما ذكر من الأناسي والأنعام إظهارا لما فيها من عجائب القدرة ، غير أنه غلب أولي العقل أو خصهم بالخطاب لأنهم المقصودون . { خلقا من بعد خلق } حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف . { في ظلمات ثلاث } ظلمة البطن والرحم والمشيمة ، أو الصلب والرحم والبطن . { ذلكم } الذي هذه أفعاله . { الله ربكم } هو المستحق لعبادتكم والمالك . { له الملك لا إله إلا هو } إذ لا يشاركه في الخلق غيره . { فأني تصرفون } يعدل بكم عن عبادته إلى الإشراك .