التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ} (4)

{ الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ } أي : الذي وسع لهم الرزق ، ومهد لهم سبيله ، عن طريق الوفود التى تأتي إليهم من مشارق الأرض ومغاربها .

{ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } أي : والذي أوجد لهم الأمن بعد الخوف ، والسعة بعد الضيق ، ببركة هذا البيت الحرام .

وتنكير " جوع " و " خوف " للتعظيم ، أي : أطعمهم بدلا من جوع شديد ، وآمنهم بدلا من خوف عظيم ، كانوا معرضين لهما ، وذلك كله من فضله - سبحانه - عليهم ، ومن رحمته بهم ، حيث أتم عليهم نعمتين بهما تكمل السعادة ، ويجتمع السرور .

ومن الآيات التى تشبه هذه الآية قوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ . . . } وقوله - سبحانه - : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً . . . } وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ} (4)

وقوله : { الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ } أي : هو رب البيت ، وهو " الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ " أي : تفضل عليهم بالأمن والرخص{[30556]} ، فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، ولا يعبدوا من دونه صنمًا ولا ندا ولا وثنًا . ولهذا من استجاب لهذا الأمر جَمَع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة ، ومن عصاه سلبهما منه ، كما قال تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } [ النحل : 112 - 113 ]

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن عمرو العَدَني ، حدثنا قَبِيصة ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ويل أمكم قريش ، لإيلاف قريش " {[30557]} ثم قال :

حدثنا أبي ، حدثنا المؤَمَّل بن الفضل الحراني ، حدثنا عيسى - يعني ابن يونس - عن عُبَيد الله ابن أبي زياد ، عن شهر بن حوشب ، عن أسامة بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " { لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف } ، ويحكم يا معشر قريش ، اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع وآمنكم من خوف " .

هكذا رأيته عن أسامة بن زيد ، وصوابه عن أسماء بنت يزيد بن السكن ، أم سلمة الأنصارية ، رضي الله عنها{[30558]} فلعله وقع غلط في النسخة ، أو في أصل الرواية ، والله أعلم .

آخر تفسير سورة " لإيلاف قريش " .


[30556]:- (2) في أ : "والترخص".
[30557]:- (3) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (24/177 ، 178) من طريق قبيصة بن عقبة ، عن سفيان ، به.
[30558]:- (4) وكذا في رواية الإمام أحمد في المسند (6/460) عن علي بن يحيى ، عن عيسى بن يونس ، عن عبد الله بن أبي زياد ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ} (4)

ثم أمرهم بالعبادة بعد ، وأعلمهم أن الله تعالى هو الذي { أطعمهم } { وآمنهم } لا سفرهم ، المعنى : فليعبدوا الذي أطعمهم بدعوة إبراهيم حيث قال : { وارزقهم من الثمرات }{[1]} ، وآمنهم بدعوته حيث قال : { رب اجعل هذا البلد آمناً }{[2]} [ إبراهيم : 35 ] ولا يشتغلوا بالأسفار التي إنما هي طلب كسب وعرض دنيا ، وقال النقاش : كانت لهم أربع رحل ، وهذا قول مردود . وقال عكرمة : معنى الآية كما ألفوا هاتين الرحلتين لدنياهم { فليعبدوا رب هذا البيت } لآخرتهم ، وقال قتادة : إنما عددت عليهم الرحلتان ؛ لأنهم كانوا يأمنون الناس في سفرتهم ، والناس بغير بعضهم على بعض ، ولا يمكن قبيلاً من العرب أن يرحل آمناً ، كما تفعل قريش ، فالمعنى فليعبدوا الذي خصهم بهذه الحال فأطعمهم وآمنهم ، وقوله تعالى : { من جوع } معناه أن أهل مكة قاطنون بواد غير ذي زرع عرضة للجوع والجدب لولا لطف الله تعالى ، وأن جعلها بدعوة إبراهيم تجبى إليها ثمرات كل شيء ، وقوله تعالى : { من خوف } أي جعلهم لحرمة البيت مفضلين عند العرب يأمنون والناس خائفون ، ولولا فضل الله تعالى في ذلك لكانوا بمدارج المخاوف ، وقال ابن عباس والضحاك : { من خوف } معناه من الجذام فلا ترى بمكة مجذوماً .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ} (4)

وأجري وصف الرب بطريقة الموصول { الذي أطعمهم من جوع } لما يؤذن به من التعليل للأمر بعبادة رب البيت الحرام بعلة أخرى زيادة على نعمة تيسير التجارة لهم ، وذلك مما جعلهم أهل ثراء ، وهما نعمة إطعامهم وأمنهم . وهذا إشارة إلى ما يُسّر لهم من ورود سفن الحبشة في البحر إلى جدة تحمل الطعام ليبيعوه هناك . فكانت قريش يخرجون إلى جدة بالإِبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين . وكان أهل تبالة وجُرَش من بلاد اليمن المخصبة يحملون الطعام على الإِبل إلى مكة فيباع الطعام في مكة فكانوا في سعة من العيش بوفر الطعام في بلادهم ، وكذلك يسر لهم إقامة الأسواق حول مكة في أشهر الحج وهي سوق مجنَّة ، وسوق ذي المَجاز ، وسوق عُكاظ ، فتأتيهم فيها الأرزاق ويتسع العيش ، وإشارة إلى ما ألقي في نفوس العرب من حرمة مكة وأهلها فلا يريدهم أحد بتخويف .

وتلك دعوة إبراهيم عليه السلام إذ قال : { رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات } [ البقرة : 136 ] فلم يتخلف ذلك عنهم إلا حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته : « اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف » فأصابتهم مجاعة وقحط سبع سنين وذلك أوّل الهجرة .

و { مِن } الداخلة على { جوع } وعلى { خوف } معناها البدلية ، أي أطعمهم بدلاً من الجوع وآمنهم بدلاً من الخوف . ومعنى البدلية هو أن حالة بلادهم تقتضي أن يكون أهلها في جوع فإطعامُهم بدلٌ من الجوع الذي تقتضيه البلاد ، وأن حالتهم في قلة العدد وكونهم أهل حضر وليسوا أهل بأس ولا فروسية ولا شكَّة سلاح تقتضي أن يكونوا معرضين لغارات القبائل فجعل الله لهم الأمن في الحرم عوضاً عن الخوف الذي تقتضيه قلتهم قال تعالى : { أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم } [ العنكبوت : 67 ] .

وتنكير { جوع } و { خوف } للنوعية لا للتعظيم إذ لم يحلّ بهم جوع وخوف من قبلُ ، قال مساور بن هند في هجاء بني أسد :

زعمتم أن إخوتَكم قريـش *** لهــم إِلْفٌ وليس لكم إِلاَف

أولئك أُومِنوا جُوعاً وخَوفاً *** وقد جاعت بنو أسد وخافوا