التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ} (17)

وقوله { يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ . . } بيان لحالة هذا الجبار العنيد عند تعاطيه الصديد .

والتجرع : تكلف الجرع وهو بلع الماء ، وفعله - كسمع ومنع - .

ويسيغه : من السوغ وهو انحدار الشراب فى الحلق بسهولة وقبول . يقال : ساغ الشراب سوغا وسواغا ، إذا كان سهل المدخل .

أى : يتكلف بلع هذا الصديد مرة بعد أخرى لمرارته وقبحه ، ولا يقارب أن يسيغه فضلاً عن الإِساغة . بل يغص به فيشربه بعد عناء ومشقة جرعة عقب جرعة .

وقوله { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } معطوف على قوله { يتجرعه } لبيان حالة أخرى من أحوال شقائه وعذابه .

أى : وتأتيه الأسباب المؤدية للموت والهلاك من كل جهة من الجهات ، ومن كل موضع من مواضع بدنه ، وما هو بميت فيستريح من هذا الشقاء والعذاب ، ومن وراء كل ذلك عذاب غليظ أى : شاق شديد لا يقل فى ألمه عما هو فيه من نكال .

وشبيه بهذه الجملة قوله - تعالى - { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } وقوله - تعالى - { وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى . الذى يَصْلَى النار الكبرى . ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } وبذلك نرى الآيات الكريمة قد صورت لنا سوء عاقبة المكذبين للحق تصويراً مؤثراً ، تهتز له النفس ، وتوجل منه القلوب .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ} (17)

وقوله : { يتجرعه } أي : يتغصصه ويتكرهه ، أي : يشربه قهرا وقسرا ، لا يضعه في فيه{[15790]} حتى يضربه الملك بمطراق من حديد ، كما قال تعالى : { وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } [ الحج : 21 ] .

{ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ } أي : يزدرده لسوء لونه وطعمه وريحه ، وحرارته أو برده الذي لا يستطاع .

{ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ } أي : يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه .

قال ميمون بن مِهْرَان : من كل عظم ، وعرق ، وعصب .

وقال عكرمة : حتى من أطراف شعره .

وقال إبراهيم التيمي : من موضع كل شعرة ، أي : من جسده ، حتى من أطراف شعره .

وقال ابن جرير : { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ } أي : من أمامه وورائه ، وعن يمينه وشماله ، ومن فوقه{[15791]} ومن تحت أرجله{[15792]} ومن سائر أعضاء جسده .

وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ } قال : أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم ، وليس منها نوع إلا الموت يأتيه منه لو كان يموت ، ولكن لا يموت ؛ لأن الله تعالى قال : { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [ كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ] {[15793]} } [ فاطر : 36 ] .

ومعنى كلام ابن عباس ، رضي الله عنه : أنه ما من نوع من هذه الأنواع من [ هذا ]{[15794]} العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت ، ولكنه لا يموت ليخلد في دوام العذاب والنكال ؛ ولهذا قال : { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ }

وقوله : { وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي : وله من بعد هذا الحال عذاب آخر غليظ ، أي : مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله وأدهى وأمر . وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم : { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ } [ الصافات : 64 - 68 ] ، فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل زقوم ، وتارة في شرب حميم ، وتارة يردون إلى الجحيم{[15795]} عياذا بالله من ذلك ، وهكذا قال تعالى : { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 43 ، 44 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } [ الدخان : 43 - 50 ] ، وقال : { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ } [ الواقعة : 41 - 44 ] ، وقال تعالى : { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } [ ص : 55 - 58 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تنوع العذاب عليهم ، وتكراره وأنواعه وأشكاله ، مما لا يحصيه إلا الله ، عز وجل ، جزاء وفاقا ، { وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] .


[15790]:- في ت : "لا يضعه في فمه" وفي أ : "لا يضيعه في فمه".
[15791]:- في ت : "فوقهم".
[15792]:- في ت : "أرجلهم".
[15793]:- زيادة من أ.
[15794]:- زيادة من ت ، أ.
[15795]:- في ت : "جحيم".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ} (17)

وقوله : { يتجرعه ولا يكاد يسيغه } عبارة عن صعوبة أمره عليهم{[7037]} ، وروي أن الكافر يؤتى بالبشربة من شراب أهل النار فيتكرهها ، فإذا أدنيت منه شوت وجهه وسقطت فيها فروة رأسه فإذا شربها قطعت أمعاءه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا الخبر مفرق في آيات من كتاب الله{[7038]} .

وقوله : { ويأتيه الموت من كل مكان } ، أي من كل شعرة في بدنه ، قاله إبراهيم التيمي ، وقيل من جميع جهاته الست ، وقوله : { وما هو بميت } أي لا يراح بالموت ، وباقي الآية كأولها ، ووصف «العذاب بالغليظ » مبالغة فيه ، وقال الفضيل بن عياض : العذاب الغليظ حبس الأنفاس في الأجساد وقيل : إن الضمير في { ورائه } هنا هو للعذاب المتقدم .


[7037]:قوله تعالى: {ولا يكاد يسيغه} معناه عند الفراء: "فهو يسيغه" ، قال: "والعرب تجعل" "لا يكاد" فيما قد فعل، وفيما لم يفعل، فأما ما قد فهو بين هنا من ذلك، لأن الله عز و جل يقول لما جعله لهم طعاما: {إن شجرة الزقوم، طعام الأثيم، كالمهل يغلي في البطون}، فهذا أيضا عذاب في بطونهم يسيغونه، وأما ما دخلت فيه (كاد) وهو لم يفعل فكقولك: ما أتيته و لا كدت، وكقوله تعالى: {إذا أخرج يده لم يكد يراها} فهو لا يراها، لأنها لا ترى فيما هو دون هذا من الظلمات، وكيف بظلمات قد وصفت بأشد الوصف".
[7038]:منها قوله تعالى: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب}، وقوله تعالى: {وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم}.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ} (17)

التجرع : تكلف الجَرْع ، والجرع ؛ بلع الماء .

ومعنى { يُسيغه } يفعل سوغه في حلقه . والسوغ ؛ انحدار الشراب في الحلق بدون غصة ، وذلك إذا كان الشراب غير كريه الطعم ولا الريح ، يقال ساغ الشراب ، وشراب سائغ .

ومعنى { لا يكاد يسيغه } لا يقارب أن يسيغه فضلاً عن أن يسيغه بالفعل ، كما تقدم في قوله تعالى : { وما كادوا يفعلون } في سورة البقرة ( 71 ) .

وإتيان الموت : حلوله ، أي حلول آلامه وسكراته ، قال قيس بن الخطيم :

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة *** لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

بقرينة قوله : وما هو بميت } ، أي فيستريح .

والكلام على قوله : { ومن وراءه عذاب غليظ } مثل الكلام في قوله : { من ورائه جهنم } ، أي ينتظره عذاب آخر بعد العذاب الذي هو فيه .

والغليظ : حقيقته الخشن الجسم ، وهو مستعمل هنا في القوة والشدة بجامع الوفرة في كل ، أي عذاب ليس بأخف مما هو فيه . وتقدم عند قوله : { ونجيناهم من عذاب غليظ } في سورة هود ( 58 ) .