ثم نهى - سبحانه - عن إيتاء الأموال للسفهاء ، لدفع توهم إيجاب أن يؤتى كل مال لمالكه ولو كان سفيها فقال تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء . . . } .
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ( 5 )
والسفهاء جمع سفيه . والسفه - كما يقول الراغب - : خفة في البدن ، ومنه قيل : زمام سفيه أى كثير الأضطراب ، وثوب سفيه ردئ النسج ، واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل ، ويكون في الأمور الدنيوية والأخروية ، قال - تعالى - في السفه الدنيوي : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ } وقال في السفه الأخروي { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً } والمراد من السفهاء هنا : ضعفاء العقول والأفكار الذين لا يحسنون التصرف .
والمراد من قوله { قِيَاماً } ما به القيام والتعيش . يقال فلان قيام أهله : أي يقيم شأنهم ويصلهم . وهو المفعول الثاني لجعل . أما المفعول الأول لجعل فمحذوف ويرجع إلى ضمير الأموال .
وقرأ نافع وابن عامر { التي جَعَلَ الله لَكُمْ قيماً } على أنه مصدر مثل الحول والعوض .
وقرأ ابن عمر { قواما } - بكسر القاف وبواو وألف -
الأول : أنه مصدر قاومت قواما مثل لاوذت لواذا فصحت الواو في المصدر كما صحت في الفعل .
والثاني : أنه اسم لما يقوم به الأمر وليس بمصدر .
هذا ، وقد اختلف المفسرون في تعيين المخاطبين بقوله - تعالى - { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ } كما اختلفوا في المراد من السفهاء على أقوال أشهرها :
أن المخاطبين بهذه الآية هم أولياء اليتامى ، وأن المراد من السفهاء هم اليتامى الذين لم يحسنوا التصرف في أموالهم لصغرهم أو لضعف عقولهم ، واضطراب أفكارهم . وأن المراد بالأموال فى قوله { أَمْوَالَكُمُ } هي أموال هؤلاء اليتامى لا أموال الأولياء .
فيكون المقصود من الاية الكريمة نهى الأولياء عن إيتاء السفهاء من اليتامى أموالهم التي جعلها الله مناط تعيشهم ، خشية إساءة التصرف فيها لخفة أحلامهم .
وإنما أضيفت الأموال في الآية الكريمة إلى ضمير المخاطبين وهم الأولياء ، مع أن هذه الأموال في الحقيقة لليتامى :
للتنبيه إلى أن أموال اليتامى كأنها عين أموالهم ، مبالغة في حملهم على وجوب حفظها وصيانتها من أى إتلاف أو إضرار بها .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : والدليل على أن الخطاب في الآية الكريمة للأولياء قوله - تعالى - بعد ذلك { وارزقوهم فِيهَا واكسوهم } وأيضا فعلى هذا القول يحسن تعليق هذه الآية بما قبلها فكأنه - تعالى - يقول إنى وإن كنت أمرتكم بإيتاء اليتامى أموالهم . فإنما قلت ذلك إذا كانوا عاقلين بالغين متمكنين من حفظ أموالهم ، فأما إذا كانوا غير بالغين أو غير عقلاء ، أو إن كانوا بالغين عقلاء إلا أنهم كانوا سفهاء مسرفين ، فلا تدفعوا إليهم أموالهم وأمسكوها لأجلهم إلى أن يزول عنهم السفه . والمقصود من كل ذلك الاحتياط في حفظ أموال الضعفاء والعاجزين .
وقيل : إن الخطاب في الآية الكريمة للأباء ، والمراد من السفهاء الأولاد الذين لا يستقلون بحفظ المال وإصلاحه ، بل إذا أعطى لهم أفسدوه وأتلفوه .
وعلى هذا الرأى تكون إضافة الأموال الى المخاطبين على سبيل الحقيقة .
ويكون المعنى : لا تؤتوا أيها الأباء أموالكم لأولادكم السفهاء ؛ لأن فى إعطائكم إياهم لهم إفسادا لهم مع أن فيها قوام حياتكم وصلاح أحوالكم .
والذى نراه أن الخطاب في الآية الكريمة لجميع المكلفين حاكمين ومحكومين ليأخذ كل من يصلح لهذا الحكم حظه من الامتثال . وأن المراد بالسفهاء كل من لا يحسن المحافظة على ماله لصغره ، أو لضعف عقله ، أو لسوء تصرفاته سواءً أكان من اليتامى أم من غيرهم ؛ لأن التعميم في الخطاب وفي الألفاظ - عند عدم وجود المخصص - أولى ، لأنه أوفر معنى ، وأوسع تشريعا .
وفي إضافة الأموال إلى جميع المخاطبين المكلفين من المسلمين إشارة بديعة إلى أن المال المتداول بينهم هو حق لمالكية المختصين به في ظاهر الأمر ، ولكنه عند التأمل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء ؛ لأن وضعه في المواضع التي أمر الله بها منفعة للأمة كلها ، وفي وضعه في المواضع التي نهى الله عنها مضمرة بالأمة كلها ، وتعاليم الإسلام التي تجعل المسلمين جميعا أمة واحدة متكافلة متراحمة تعتبر مصلحة كل فرد من أفرادها عين مصلحة الآخرين .
وبعد أن نهى - سبحانه - عن إيتاء المال للسفهاء ، أمر بثلاثة أشياء ، أولها وثانيها قوله - تعالى - { وارزقوهم فِيهَا واكسوهم } .
أي اجعلوا هذه الأموال مكانا لرزقهم وكسوتهم ، بأن تتجروا فيها حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من أصل لئلا يفنيه الإِنفاق منه .
وإنما قال : { وارزقوهم فِيهَا } ولم يقل " منها " ؛ لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم ، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويستثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال .
أما الأمر الثالث فهو قوله - تعالى - : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } .
والقول المعروف هو كل ما تسكن إليه النفس لموافقته للشرع والعقول السليمة ، كأن يكلموهم كلاما لينا تطيب به نفوسهم ، وكأن يعدوهم عدة حسنة بأن يقولوا لهم : إذا صلحتم ورشدتم سلمنا أموالكم . وكأن ينصحوهم بما يصلحهم ويبعدهم عن السفه وسوء التصرف .
وفى أمره - سبحانه - للمخاطبين بأن يقولوا لهؤلاء السفهاء قولا معروفا ، بعد أمره لهم برزقهم وكسوتهم ، إشعار بأن من الواجب عليهم أن يقدموا إليهم الرزق والكسوة مصحوبين بوجه طلق ، وبقول جميل بعيد عن المن والأذى ، فقد جرت عادة من تحت يده المال أن يستثقل إخراجه لمن سأله إياه .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة : وجوب المحافظة على الأموال وعدمت تضييعها .
قال صاحب الكشاف : وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن . ولأن أترك مالا يحاسبنى الله عليه ، خير من أن أحتاج إلى الناس . وعن سفيان - وكانت له بضاعة يقبلها - : لولاها لتمندل بى بنو العباس - أي لولاها لأتخذوني كالمنديل يسخروننى لمصالحهم - وقيل لأبى الزناد : لم تحب الدراهم وهى تدنيك من الدنيا ؟ فقال : لئن أدنتنى من الدنيا فقد صانتنى عنها .
وكانوا يقولون : اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه . وربما رأوا رجلا في جنازة ، فقالوا له : اذهب إلى دكانك .
وقال بعض العلماء : ولنقف عند قوله - تعالى - { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً } لنعلم ما يوحى به من تكافل الأمة ومسئولية بعضها عن بعض . ومن أن المال الذى في يد بعض الأفراد " قوام للجميع " ينتفعون به في المشروعات العامة ، ويفرجون به أزماتهم وضائقاتهم الخاصة عن طريق الزكاة ، وعن طريق التعاون وتبادل المنافع . وهذا هو الوضع المال في نظر الشريعة الإِسلامية ، فليس لأحد أن يقول : مالى مالى . هو مالى وحدى لا ينتفع به سواى ، ليس أحد أن يقول هذا أو ذاك . فالمال مال الجميع ، والمال مال الله ، ينتفع به الجميع عن الطريق الذى شعره الله في سد الحاجات ودفع الملمات . وهو ملك لصاحبه يتصرف فيه لا كما يشاء ويهوى بل كما رسم الله وبين في كتابه ، حتى إذا ما أخل بذلك فأسرف وبذر أو ضن وقتر حجر عليه .
كذلك من الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة : وجوب الحجر على السفهاء ، لأن الله - تعالى - قد أمر بذلك . ووجوب إقامة الوصى والولى والكفيل على الأيتام الصغار ومن فى حكمهم ممن لا يحسنون التصرف .
ينهى تعالى عن تَمْكين السفهاء من التصرّف في الأموال التي جعلها الله للناس قياما ، أي : تقوم{[6600]} بها معايشهم من التجارات وغيرها . ومن هاهنا يُؤْخَذُ الحجر على السفهاء ، وهم أقسام : فتارة يكون الحَجْرُ للصغر ؛ فإن الصغير مسلوب العبارة . وتارة يكون الحجرُ للجنون ، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين ، وتارة يكون الحجر للفَلَس ، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاقَ ماله عن وفائها ، فإذا سأل{[6601]} الغُرَماء الحاكم الحَجْرَ عليه حَجَرَ عليه .
وقد قال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ } قال : هم بَنُوك والنساء ، وكذا قال ابن مسعود ، والحكم بن عُتَيبة{[6602]} والحسن ، والضحاك : هم النساء والصبيان .
وقال سعيد بن جُبَير : هم اليتامى . وقال مجاهد وعكرمة وقتادة : هم النساء .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عَمّار ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وإن النساء السُّفَهاء إلا التي أطاعت قَيِّمَها " .
ورواه ابن مَرْدُويه مطولا{[6603]} .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن مسلم بن إبراهيم ، حدثنا حَرْب بن سُرَيج{[6604]} عن معاوية بن قرة{[6605]} عن أبي هريرة { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ } قال : الخدم ، وهم شياطين الإنس وهم الخدم .
وقوله : { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس يقول [ تعالى ]{[6606]} لا تَعْمَد إلى مالك وما خَوَّلك الله ، وجعله معيشة ، فتعطيَه امرأتك أو بَنيكَ ، ثم تنظر{[6607]} إلى ما في أيديهم ، ولكن أمْسكْ مالك وأصلحْه ، وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسْوتهم ومؤنتهم ورزقهم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن فرَاس ، عن الشعبي ، عن أبي بُرْدة ، عن أبي موسى قال : ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم : رجل كانت له امرأة سَيّئة الخُلُق فلم يُطَلقها ، ورجل أعطى ماله سفيها ، وقد قال : { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ } ورجل كان له على رجل دين فلم يُشْهِد عليه .
وقال مجاهد : { وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا } يعني في البر والصلة .
وهذه الآية الكريمة انتظمت الإحسان إلى العائلة ، ومَنْ تحت الحَجْر بالفعل ، من الإنفاق في الكساوي والإنفاق{[6608]} والكلام الطيب ، وتحسين الأخلاق .
وقوله { ولا تؤتوا السفهاء } الآية ، اختلف المتأولون في المراد ب { السفهاء } ، فقال ابن مسعود والسدي والضحاك والحسن وغيرهم : نزلت في ولد الرجل الصغار وامرأته ، وقال سعيد بن جبير : نزلت في المحجورين «السفهاء » وقال مجاهد : نزلت في النساء خاصة ، وروي عن عبد الله بن عمر أنه مرت به امرأة لها شارة فقال لها { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } الآية ، وقال أبو موسى الأشعري والطبري وغيرهما : نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه كان من كان ، وقول من خصها بالنساء يضعف من جهة الجمع ، فإن العرب إنما تجمع فعيلة على فعائل أو فعيلات ، وقوله { أموالكم } يريد أموال المخاطبين ، هذا قول أبي موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة ، وقال سعيد بن جبير : يريد أموال «السفهاء » ، وأضافها إلى المخاطبين تغبيطاً بالأموال ، أي هي لهم إذا احتاجوا ، كأموالكم لكم التي تقي أعراضكم ، وتصونكم وتعظم أقدراكم ، ومن مثل هذ{ ولا تقتلوا أنفسكم }{[3856]} وما جرى مجراه ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والنخعي و «اللاتي » والأموال : جمع لما لا يعقل ، فالأصوب فيه قراءة الجماعة ، و { قيماً } جمع قيمة كديمة وديم ، وخطأ ذلك أبو علي وقال : هي مصدر كقيام وقوام وأصلها قوم ، ولكن شذت في الرد إلى الياء كما شذ قولهم : جياد في جميع جواد ، وكما قالت بنو ضبة : طويل وطيال ، ونحو هذا ، وقوماً وقواماً وقياماً ، معناها : ثباتاً في صلاح الحال ، ودواماً في ذلك ، وقرأ نافع وابن عامر { قيماً } بغير ألف ، وروي أن أبا عمرو فتح القاف من قوله : قواماً ، وقياماً - كان أصله قواماً ، فردت كسرة القاف الواو ياء للتناسب ، ذكرها ابن مجاهد ولم ينسبها ، وهي قراءة أبي عمرو والحسن ، وقرأ الباقون { قياماً } وقرأت طائفة «قواماً » وقوله : { وارزقوهم فيها واكسوهم } قيل : معناه : فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجه وبنيه الأصاغر ، وقيل : في المحجورين من أموالهم ، و { معروفاً } قيل : معناه : ادعوا لهم : بارك الله فيكم وحاطكم وصنع لكم ، وقيل : معناه عدوهم وعداً حسناً ، أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم ، ومعنى اللفظ كل كلام تعرفه النفوس وتأنس إليه ويقتضيه الشرع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تؤتوا السفهاء}، يعني الجهال بموضع الحق في الأموال، {أموالكم التي جعل الله لكم قياما}: قواما لمعاشكم، ولكن {وارزقوهم فيها}، يقول: أعطوهم منها {واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا}، يعني العدَة الحسنة أني سأفعل، وكنت أنت القائم على مالك.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في السفهاء الذين نهى الله جلّ ثناؤه عباده أن يؤتوهم أموالهم؛
فقال بعضهم: هم النساء والصبيان... عن الحسن قال: السفهاء: ابنك السفيه وامرأتك السفيهة... عن قتادة: أمر الله بهذا المال أن يخزن فيحسن خزانته، ولا يملكه المرأة السفيهة والغلام السفيه.
وقال آخرون: بل السفهاء: الصبيان خاصة...
وقال آخرون: بل عنى بذلك السفهاء من ولد الرجل... لا تعط ولدك السفيه مالك فيفسده الذي هو قوامك بعد الله تعالى.
عن ابن عباس يقول: لا تسلط السفيه من ولدك... نزل ذلك في السفهاء، وليسوا اليتامى من ذلك في شيء.
والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا أن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله: {وَلا تؤْتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمُ} فلم يخصص سفيها دون سفيه، فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيها ماله صبيا صغيرا كان أو رجلاً كبيرا ذكرا كان أو أنثى، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله، هو المستحقّ الحجر بتضييعه ماله وفساده وإفساده وسوء تدبيره ذلك.
وإنما قلنا ما قلنا من أن المعنيّ بقوله: {وَلا تُؤْتُوا السّفَهاءَ} هو من وصفنا دون غيره، لأن الله جلّ ثناؤه قال في الآية التي تتلوها: {وَابْتَلُوا اليَتَامى حتى إذَا بَلَغُوا النّكاحَ فإنْ آنَسْتمْ مِنْهمْ رُشْدا فادْفَعوا إلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ} فأمر أولياء اليتامى بدفع أموالهم إليهم إذا بلغوا النكاح وأونس منهم الرشد، وقد يدخل في اليتامى الذكور والإناث، فلم يخصص بالأمر بدفع ما لهم من الأموال الذكور دون الإناث، ولا الإناث دون الذكور. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذين أمر أولياؤهم بدفعهم أموالهم إليهم، وأجيز للمسلمين مبايعتهم، ومعاملتهم غير الذين أمر أولياؤهم بمنعهم أموالهم، وحظر على المسلمين مداينتهم ومعاملتهم، فإذ كان ذلك كذلك، فبين أن السفهاء الذين نهى الله المؤمنين أن يؤتوهم أموالهم، هم المستحقون الحجر، والمستوجبون أن يولى عليهم أموالهم، وهم من وصفنا صفتهم قبل، وأن من عدا ذلك، فغير سفيه، لأن الحجر لا يستحقه من قد بلغ، وأونس رشده. وأما قول من قال: عنى بالسفهاء النساء خاصة، فإنه جعل اللغة على غير وجهها، وذلك أن العرب لا تكاد تجمع فعيلاً على فعلاء، إلا في جمع الذكور، أو الذكور والإناث، وأما إذا أرادوا جمع الإناث خاصة لا ذكران معهم، جمعوه على فعائل وفعيلات، مثل غريبة تجمع غرائب وغريبات¹ فأما الغرباء فجمع غريب.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {أمْوَالَكُمْ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياما وَارْزُقُوهُم فِيها وَاكْسُوهُمْ}؛
فقال بعضهم: عنى بذلك: لا تؤتوا السفهاء من النساء والصبيان -على ما ذكرنا من اختلاف من حكينا قوله قبل- أيها الرشداء أموالكم التي تملكونها، فتسلطوهم عليها فيفسدوها ويضيعوها، ولكن ارزقوهم أنتم منها، إن كانوا ممن تلزمكم نفقته، واكسوهم، وقولوا لهم قولاً معروفا. وقد يدخل في قوله: {وَلا تُؤْتُوا السفَهاءَ أمْوَالَكُمُ} أموال المنهيين عن أن يؤتوهم ذلك، وأموال السفهاء، لأن قوله: {أمْوَالَكمْ} غير مخصوص منها بعض الأموال دون بعض، ولا تمنع العرب أن تخاطب قوما خطابا، فيخرّج الكلام بعضه خبر عنهم وبعضه عن غيب، وذلك نحو أن يقولوا: أكلتم يا فلان أموالكم بالباطل فيخاطب الواحد خطاب الجمع بمعنى: أنك وأصحابك، أو وقومك أكلتم أموالكم، فكذلك قوله: {وَلا تُؤتُوا السّفَهاءَ} معناه: لا تؤتوا أيها الناس سفهاءكم أموالكم التي بعضها لكم وبعضها لهم، فتضيعوها. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره قد عمّ بالنهي عن إيتاء السفهاء الأموال كلها، ولم يخصص منها شيئا دون شيء، كان بينا بذلك أن معنى قوله: {الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكمْ قِياما} إنما هو: التي جعل الله لكم ولهم قياما، ولكن السفهاء دخل ذكرهم في ذكر المخاطبين بقوله: «لكم».
وأما قوله: {الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياما} فإن قياما وقيما وقواما في معنى واحد، وإنما القيام أصله القوام، غير أن القاف التي قبل الواو لما كانت مكسورة، جعلت الواو ياء لكسرة ما قبلها، كما يقال: صمت صياما، وحلت حيالاً، ويقال منه: فلان قوّام أهل بيته، وقيام أهل بيته.
{قِياما}: التي هي قوامك بعد الله.
عن ابن عباس، قوله: {وَلا تُؤتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمْ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكمْ قِياما} يقول الله سبحانه: لا تعمد إلى مالك وما خوّلك الله وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم.
{قِياما} بمعنى: قوامكم في معايشكم.
وأما قوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيها واكْسُوهُمْ} فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله¹ فأما الذين قالوا: إنما عنى الله جلّ ثناؤه بقوله: {وَلا تُؤتوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمْ} أولياء السفهاء، لا أموال السفهاء، فإنهم قالوا: معنى ذلك: وارزقوا أيها الناس سفهاءكم من نسائكم وأولادكم من أموالكم طعامهم، وما لا بدّ لهم منه من مؤنهم وكسوتهم. {وَارْزُقُوهُمْ}: أنفقوا عليهم.
وأما الذين قالوا: إنما عنى بقوله: {وَلا تُؤتُوا السَفهاءَ أمْوالَكُمُ} أموال السفهاء أن لا يؤتيهموها أولياؤهم، فإنهم قالوا: معنى قوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ}: وارزقوا أيها الولاة ولاة أموال سفهاءكم من أموالهم، طعامهم وما لا بدّ لهم من مؤنهم وكسوتهم.
وأما الذي نراه صوابا في قوله: {وَلا تُؤتُوا السفَهاءَ أمْوَالَكُمْ} من التأويل، فقد ذكرناه، ودللنا على صحة ما قلنا في ذلك بما أغنى عن إعادته.
فتأويل قوله: {وَارْزقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ} على التأويل الذي قلنا في قوله: {وَلا تؤتُوا السفَهاءَ أمْوَالَكمُ} وأنفقوا على سفهائكم من أولادكم ونسائكم الذين تجب عليكم نفقتهم من طعامهم وكسوتهم في أموالكم، ولا تسلطوهم على أموالكم فيهلكوها، وعلى سفهائكم منهم ممن لا تجب عليكم نفقته، ومن غيرهم الذين تلون أنتم أمورهم من أموالهم فيما لا بدّ لهم من مؤنهم في طعامهم وشرابهم وكسوتهم، لأن ذلك هو الواجب من الحكم في قول جميع الحجة، لا خلاف بينهم في ذلك مع دلالة ظاهر التنزيل على ما قلنا في ذلك.
{وَقُولوا لَهمْ قَوْلاً مَعْرُوفا}: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: عِدْهُمْ عِدَةً جميلة من البر والصلة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ادعوا لهم. وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصحة، هو أن معنى قوله: {وَقولوا لَهمْ قَوْلاً معْرُوفا}: أي قولوا يا معشر ولاة السفهاء قولاً معروفا للسفهاء، إنْ صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم وخلينا بينكم وبينها، فاتقوا الله في أنفسكم وأموالكم. وما أشبه ذلك من القول الذي فيه حثّ على طاعة الله ونهي عن معصيته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
السفيه -في الحقيقة- من يعمل عمل الجهال، كان جاهلا في الحقيقة أو لا؛ لما قد يلقب العالم به؛ إذا ضيع الحدود، وتعاطى الأفعال الذميمة؛ وعلى ذلك ما جاء من الكتاب بتسفيه علماء أهل الكتاب. ثم قد يسمى الجهال به؛ لما أن الجهل هو السبب الباعث على فعل السفه؛ فقوله -تعالى -: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) يحتمل ذلك الوجهين.
وأي الأمرين كان، ففيه التحذير للمعنى الذي بين من قوله: (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا): فإما إذا كانت قيامًا للمعاش أو للمعاد أو لهما، وطريق الإنفاق في الوجهين والإمساك لهما التدبر، ومراعاة الشرع، وتعاهد الأسباب، والوجهان جميعًا يمنعان الوفاء بما جعلت له الأموال؛ فحذر من أنعم بها عن تضييع ذلك بالتسليم إلى من ذكر، مع ما يكون في ذلك أن اتباع من يستحق أن يكون متبوعًا لمن حقه أن يجعل تابعًا، وذلك خارج عن حد الحكمة، وما يحمده العقل. وقد ذكرت عن الحسن أنه صرف الآية إلى الكفار، فكأنه تأول في القيام القيام بأمر الدين، والكفار لا يجوز الاستعانة بهم ولا جعل المال عندهم، مع ما كره العلماء تسليط الكفرة على العقود لجهلهم بحق شرع الإسلام فيها، فمثله دفع الأموال إليهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{السفهاء}: المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها. والخطاب للأولياء: وأضاف الأموال إليهم لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم، كما قال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 79]، {فمَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25] الدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله: {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم}، {جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} أي تقومون بها وتنتعشون، ولو ضيعتموها لضعتم فكأنها في أنفسها قيامكم وانتعاشكم.
{وارزقوهم فِيهَا} واجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتجروا فيها وتتربحوا، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فلا يأكلها الإنفاق. وقيل: هو أمر لكل أحد أن لا يخرج ماله إلى أحد من السفهاء، قريب أو أجنبي، رجل أو امرأة، يعلم أنه يضعه فيما لا ينبغي ويفسده.
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو كأنه تعالى يقول: إني وإن كنت أمرتكم بإيتاء اليتامى أموالهم وبدفع صدقات النساء إليهن، فإنما قلت ذلك إذا كانوا عاقلين بالغين متمكنين من حفظ أموالهم، فأما إذا كانوا غير بالغين، أو غير عقلاء، أو إن كانوا بالغين عقلاء إلا أنهم كانوا سفهاء مسرفين، فلا تدفعوا إليهم أموالهم وأمسكوها لأجلهم إلى أن يزول عنهم السفه، والمقصود من كل ذلك الاحتياط في حفظ أموال الضعفاء والعاجزين.
المسألة الأولى: في الآية قولان: الأول: أنها خطاب الأولياء فكأنه تعالى قال: أيها الأولياء لا تؤتوا الذين يكونون تحت ولايتكم وكانوا سفهاء أموالهم. والدليل على أنه خطاب الأولياء قوله: {وارزقوهم فيها واكسوهم} وأيضا فعلى هذا القول يحسن تعلق الآية بما قبلها كما قررناه.
وإنما قال: {فيها} ولم يقل: منها لئلا يكون ذلك أمرا بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال.
وثانيها: قوله: {واكسوهم} والمراد ظاهر.
وثالثها: قوله: {وقولوا لهم قولا معروفا}.
واعلم أنه تعالى إنما أمر بذلك لأن القول الجميل يؤثر في القلب فيزيل السفه، أما خلاف القول المعروف فإنه يزيد السفيه سفها ونقصانا.
المسألة الخامسة: قوله تعالى: {التي جعل الله لكم قياما} معناه أنه لا يحصل قيامكم ولا معاشكم إلا بهذا المال، فلما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة، يعني كان هذا المال نفس قيامكم وابتغاء معاشكم، قال القفال رحمه الله: القول المعروف هو أنه إن كان المولى عليه صبيا، فالولي يعرفه أن المال ماله وهو خازن له، وأنه إذا زال صباه فإنه يرد المال إليه، ونظير هذه الآية قوله: {فأما اليتيم فلا تقهر} معناه لا تعاشره بالتسلط عليه، وكذا قوله: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا}، وإن كان المولى عليه سفيها وعظه ونصحه وحثه على الصلاة، ورغبه في ترك التبذير والإسراف، وعرفه أن عاقبة التبذير الفقر والاحتياج إلى الخلق إلى ما يشبه هذا النوع من الكلام، وهذا الوجه أحسن من سائر الوجوه التي حكيناها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمر بدفع أموال اليتامى والنساء إليهم، ونهى عن أكل شيء منها تزهيداً في المال واستهانة به، وكان في النساء والمحاجير من الأيتام وغيرهم سفهاء، وأمر بالاقتصاد في المعيشة حذراً من الظلم والحاجة، نهى عن التبذير، وقد حث سبحانه على حسن رعاية المال في غير آية من كتابه لأنه "نعم المال الصالح للرجل الصالح "رواه أحمد وابن منيع عن عمرو بن العاص رفعه؛ لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل ما يهمه من الدنيا، وما لم يتمكن من تحصيل ما يهمه من الدنيا لا يمكنه أمر الآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة ما يكفيه من المال -لأنه لا يتمكن في هذه الدار التي مبناها على الأسباب من جلب المنافع ودفع المضار إلا به، فمن أراده لهذا الغرض كان من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرين، ومن أراد لنفسه كان من أعظم المعوقات عن سعادة الآخرة فقال تعالى: {ولا تؤتوا} أيها الأزواج والأولياء {السفهاء} أي من محاجيركم ونسائكم وغيرهم {أموالكم} أي الأموال التي خلقها الله لعباده سواء كانت مختصة بكم أو بهم، ولكم بها علقة بولاية أو غيرها، فإنه يجب عليكم حفظها {التي جعل الله} أي الذي له الإحاطة بالعلم الشامل والقدرة التامة {لكم قياما} أي ملاكاً وعماداً تقوم بها أحوالكم، فيكون ذلك سبباً لضياعها، فضياعها سبب لضياعكم، فهو من تسمية السبب باسم المسبب للمبالغة، في سببيته {وارزقوهم} متجرين {فيها} وعبر بالظرف إشارة إلى الاقتصاد واستثمار الأموال حتى لا تزال موضعاً للفضل، حتى تكون النفقة والكسوة من الربح لا من رأس المال {واكسوهم} أي فإن ذلك ليس من المنهيّ عنه، بل هو من معالي الأخلاق ومحاسن الأعمال {وقولوا لهم} أي مع ذلك {قولاً معروفاً} أي في الشرع والعقل كالعدة الحسنة ونحوها، وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته من قول أو عمل وليس مخالفاً للشرع فهو معروف، فإن ذلك ربما كان أنفع في كثير من الإعطاء وأقطع للشر؛ والحجر على السفيه مندرج في هذه الآية، لأن ترك الحجر عليه من الإيتاء المنهي عنه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
السفهاء: جمع سفيه من السفه والسفاهة، وتقدم في تفسير سورة البقرة أن السفه هو الاضطراب في الرأي والفكر أو الأخلاق. وأصله الاضطراب في المحسوسات. وقال الراغب: السفه خفة في البدن، ومنه قيل زمام سفيه: كثير الاضطراب، وثوب سفيه رديء النسج. واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل وفي الأمور الدنيوية والأخروية. ثم جعل السفه في الأمور الدنيوية هو المراد من لفظ السفهاء، ومثل للسفه في الأمور الأخروية بقوله تعالى: (وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا) [الجن: 4]. فالسفهاء هنا هم المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ويسيئون التصرف بإنمائها وتثميرها- (قياما) تقوم بها أمور معايشكم فتحول دون وقوعكم في الفقر، وقرأها نافع وابن عامر (قيما) وهو بمعنى قياما كما يأتي. قال الراغب: القيام والقوام اسم لما يقوم به الشيء، أي يثبت كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به. وذكر الآية وفسرت في الكشاف بقوله: أي تقومون بها وتنتعشون، ولو ضيعتموه لضعتم قال: وقرئ قيما بمعنى قياما كما جاء عوذا بمعنى عياذا.
(وارزقوهم) من الرزق وهو العطاء من الأشياء الحسية والمعنوية. ويطلق على النصيب من الشيء وقد يخص الطعام، قيل: وهو الظاهر هنا لمقابلته بالكسرة، كما قال في آية المرضعات: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) [البقرة: 233] وقد يُقال: إنه أعم في الموضعين.
المعنى: اختلف مفسرو السلف في المراد بالسفهاء هنا. فقيل: هم اليتامى والنساء. وقيل: النساء خاصة. وقيل: الأولاد الصغار للمخاطبين. وقيل: هي عامة في كل سفيه من صغير وكبير وذكر وأنثى...
أمرنا الله تعالى في الآيات السابقة بإيتاء اليتامى أموالهم وبإيتاء النساء صدقاتهن أي مهورهن وأتى في قوله: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله قياما) بشرط للإيتاء يعم الأمرين السابقين، أي أعطوا كل يتيم ماله إذا بلغ وكل امرأة صداقها إلا إذا كان أحدهما سفيها لا يحسن التصرف في ماله؛ فحينئذ يمتنع أن تعطوه إياه لئلا يضيعه؛ ويجب أن تحفظوه له أو يرشد. وإنما قال (أموالكم) ولم يقل أموالهم مع أن الخطاب للأولياء والمال للسفهاء الذين في ولايتهم للتنبيه على أمور:
(أحدها): أنه إذا ضاع هذا المال ولم يبق للسفيه من ماله ما ينفق منه عليه وجب على وليه أن ينفق عليه من مال نفسه، فبذلك تكون إضاعة مال السفيه مفضية إلى إضاعة شيء من مال الولي، فكأن ماله عين ماله.
(ثانيها) أن هؤلاء السفهاء إذا رشدوا وأموالهم محفوظة لهم وتصرفوا فيها تصرف الراشدين وأنفقوا منها في الوجوه الشرعية من المصالح العامة والخاصة فإنه يصيب هؤلاء الأولياء حظ منها.
(ثالثها) التكافل في الأمة واعتبار مصلحة كل فرد من أفرادها عين مصلحة الآخرين، كما قلناه في آيات أخرى.
وذهب الجلال إلى أنه أضاف الأموال إليهم لأنها في أيديهم كأنه قال: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم التي في أيديكم وهو غير ظاهر. وما قال من قال: إن السفهاء هنا هم أولاد المخاطبين الصغار إلا لحيرته في هذه الكاف في قوله: (أموالكم) وعدم ظهور النكتة له في إيثار ضمير الخطاب على ضمير الغيبة "وقوله لكم".
أقول: وأجاب الرازي بجوابين للزمخشري: أحدهما أنه أضاف المال إليهم لا لأنهم ملكوه، بل أنهم ملكوا التصرف فيه، قال: ويكفي لحسن الإضافة أدنى سبب. وهو الذي جرى عليه الجلال. ثانيهما قوله: إنما حسنت هذه الإضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص، ونظيره قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) [التوبة: 128] وقوله: (فما ملكت أيمانكم) [النساء: 25] وقوله: (فاقتلوا أنفسكم) [البقرة: 54] وقوله: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم) [البقرة: 85] ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه وإنما كان بعضهم يقتل بعضا وكان الكل من نوع واحد، فكذا ههنا المال شيء واحد ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج إليه، فلأجل هذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم اه.
أقول: وهذا أوسع مما قاله الأستاذ الإمام في الأمر الثالث، وهو غير ظاهر في النوع كما هو ظاهر في قوم المخاطبين الذين اتحدت مصالحهم بمصالحهم. وكذلك لا يظهر في النظائر والشواهد التي أوردها، فإن الذين أمروا بقتل أنفسهم أي قتل بعضهم بعضا لم يؤمروا بذلك لاشتراكهم في النوع، وهو كونهم من البشر، وإنما أمروا بذلك لأنهم أمة لها ملة ترتبط بها مصالحهم فخالفوها فاستحقوا العقاب لتكافلهم باشتراكهم في الذنب وعدم التناهي عنه؛ ولو أنهم قتلوا قوما آخرين من نوع البشر لما كانوا ممتثلين للأمر، ولما قيل لهم: "ثم انتم هؤلاء تقتلون أنفسكم "والراجح في قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) [التوبة: 128] أنه خطاب للعرب الذين هم قوم الرسول لله وإن كانت البعثة عامة كما بينا ذلك في موضع آخر: ومن قال إنه خطاب لجميع الناس فوجهه أنهم مشتركون في تكليفهم اتباعه وفي كونه رسولا إليهم.
فلا بد في إقامة الوحدة النوعية أو القومية أو الأهلية مقام الوحدة الشخصية من اشتراك أفراد النوع أو القوم أو الأهل في المعنى الذي سيق الكلام لأجله كما بينه الأستاذ الإمام في توجيه إسناد ما فعله بنو إسرائيل في زمن موسى عليه السلام إلى أبنائهم الذين كانوا في زمن محمد (صلى الله عليه وسلم) لتأثير أعمال السلف في الخلف بالوراثة والقدوة ولو جعلت الوحدة في الآية التي نفسرها بين الأولياء والسفهاء وحدة القرابة والكفالة التي هي أخص من الوحدة الأمية والقومية التي قال بها الأستاذ الإمام لكان المعنى أظهر، كما أن ما قاله هو أظهر مما قاله الإمام الرازي. وذلك أن الاشتراك في المصلحة والمنفعة بين الأولياء والسفهاء في الأموال مطرد تظهر فيه الوحدة دائما، ولكن الأستاذ الإمام جعلها من قبيل وحدة الأمة وتكافلها إلحاقا لها بنظائرها الكثيرة في القرآن.
وقد علم من تفسير المفردات معنى جعل الأموال قياما للناس تقوم وتثبت بها منافعهم ومرافقهم ولا يمكن أن يوجد في الكلام ما يقوم مقام هذه الكلمة ويبلغ ما تصل إليه من البلاغة في الحث على الاقتصاد وبيان فائدته ومنفعته، والتنفير عن الإشراف والتبذير الذي هو شأن السفهاء وبيان غائلته وسوء مغبته، فكأنه قال: إن منافعكم ومرافقكم الخاصة ومصالحكم العامة لا تزال قائمة ثابتة مادامت أموالكم في أيدي الراشدين المقتصدين منكم الذين يحسنون تثميرها وتوفيرها ولا يتجاوزون حدود المصلحة في إنفاق ما ينفقونه منها، فإذا وقعت في أيدي السفهاء المسرفين الذين يتجاوزون الحدود المشروعة والمعقولة يتداعى ما كان من تلك المنافع سالما ويسقط ما كان من تلك المصالح قائما، فهذا الدين هو دين الاقتصاد والاعتدال في الأموال كالأمور كلها. ولذلك وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) [الفرقان: 67] فهذه الآيات شارحة للفظ "قياما "في الآية التي نفسرها وقد نهانا القرآن عن التبذير حتى في مقام الإنفاق والتصدق المؤكد وجعل المبذر كالشيطان مبالغا في الكفر، وبين سوء عاقبة المتوسع في النفقة إلى حد الإسراف كما في سورة الإسراء الآيات 26-29.
وفي الأحاديث النبوية مثل ذلك، فمنها" ما عال من اقتصد "رواه أحمد عن ابن مسعود. وهو حديث حسن-" الاقتصاد نصف المعيشة وحسن الخلق نصف الدين "رواه الخطيب عن أنس، والطبراني والبيهقي عن ابن عمر بلفظ:"الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة والتودد إلى الناس نصف العقل وحسن السؤال نصف العلم "وغيرهم بألفاظ أخرى-: من فقه الرجل رفقه في معيشته" رواه أحمد والطبراني عن أبي الدرداء وهو حديث حسن. – "ومن اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله" الخ رواه البزار عن أبي طلحة وسنده ضعيف.
ومن الأحاديث في فضل الغنى حديث سعد المتفق عليه "إنك ان تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" وحديثه عند مسلم "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي" وحديث حكيم بن حزام في الصحيحين "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى" الخ وحديث عمرو بن العاص عند أحمد بسند صحيح "نعمّا المال الصالح للمرء الصالح" وحديث أنس عند مسلم والبيهقي "كاد الفقر أن يكون كفرا".
فماذا جرى لنا نحن المسلمين بعد هذه الوصايا والحكم حتى صرنا أشد الأمم إسرافا وتبذيرا وإضاعة للأموال وجهلا بطرق الاقتصاد فيها وتثميرها وإقامة مصالح الأمة بها في هذا الزمن الذي لم يسبق له نظير في أزمنة التاريخ من حيث توقف قيام مصالح الأمم ومرافقها وعظمة شأنها على المال حتى أن الأمم الجاهلة بطرق الاقتصاد التي ليس في أيديها مال كثير قد صارت مستذلة ومستعبدة للأمم الغنية بالبراعة في الكسب والإحسان في الاقتصاد؟
وماذا جرى لتلك الأمم التي يقول لها كتابها الديني كما في إنجيل متى" 19: 23 إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السموات * وأقول لكم إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت السموات "ويقول كما في 6: 24 منه" لا تقدرون أن تخدموا الله والمال *25- لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم "الخ وفي 10: 9 منه:"لا تقتنوا ذهبا ولا فضة "- ماذا جرى لها في دينها حتى صارت أبرع الخلق في فنون الثروة والاقتصاد وأبعدها عن الإسراف والتبذير وسادت بالغنى والثروة على جميع أمم الأرض؟؟ ألا وهي أمم الإفرنجة.
وكيف جاز أن يسمى ما نحن عليه مدنية إسلامية مع مخالفتنا للقرآن في هذا الأمر الذي هو قوام المدنية، كما خالفه جماهيرنا في أكثر ما أرشد إليه؟ وكيف جاز أن تسمى مدنيتهم مدنية مسيحية مع بناء تعاليم المسيح على المبالغة في الزهد وبغض المال، كما هو صريح في هذه الأناجيل التي بين أيدي القوم يدعون اتباعها ويدعون إليها غيرهم وهم لها مخالفون، وعنها معرضون!!!
أما السبب فيما نحن عليه من سوء الحال في دنيانا ومخالفة نص كتابنا فهو ظاهر معروف عند الباحثين، وهو أننا أخذنا بالتقليد الذي حرمه الله علينا وتركنا هداية القرآن ونبذناها وراء ظهورنا وأخذنا في الأخلاق والآداب التي هي روح حياة الأمم بأقوال فلان وفلان من الجاهلين، الذين لبسوا علينا بلباس الصالحين، فنفثوا في الأمة سموم المبالغة في التزهيد والحث على إنفاق جميع ما تصل إليه اليد، وإنما كان يريد أكثرهم إنفاق كسب الكاسبين عليهم وهم كسالى لا يكسبون،...
حتى صار المعروف المقرر عند جميع شعوب المسلمين إدرار المال والرزق على علماء الدين، وشيوخ الطريق" الصالحين"، فهم يأكلون مال الأمة بدينهم ويرون أن لهم الفضل عليها بقبوله منها، وإن قال النبي (صلى الله عليه وسلم) في حديث الصحيحين "اليد العليا خير من اليد السفلى".
الأستاذ الإمام: في هذه الجملة من الآية تحريض على حفظ المال وتعريف بقيمته فلا يجوز للمسلم أن يبذر أمواله. وكان السلف من أشد الناس محافظة على ما في أيديهم وأعرف الناس بتحصيل المال من وجوه الحلال، فأين من هذا ما نسمعه من خطباء مساجدنا من تزهيد الناس وغل أيديهم وإغرائهم بالكسل والخمول حتى صار المسلم يعدل عن الكسب الشريف إلى الكسب المرذول من الغش والحيلة والخداع. ذلك أن الإنسان ميال بطبعه إلى الراحة، فعندما يسمع من الخطباء والعلماء والمعروفين بالصلحاء عبارات التزهيد في الدنيا فإنه يرضي بها ميله إلى الراحة ثم إنه لا بد له من الكسب فيختار أقله سعيا وأخفه مؤنة وهو أخسه وأبعده عن الشرف. على أن هذا التزهيد في الدنيا من هؤلاء لم يأت بما يساق لأجله من الترغيب في الآخرة والاستعداد لها بل إن خطباءنا ووعاظنا قد زهدوا الناس في الدنيا وقطعوهم عن الآخرة فخسروا الدنيا والآخرة. وذلك هو الخسران المبين، وما ذلك إلا لجهلهم وعدم عملهم بما يعظون به غيرهم والواجب على المسلم العارف بالإسلام أن يبين للناس الجمع بين الدنيا والآخرة.
قال تعالى: (وارزقوهم فيها واكسوهم) أما من فسروا السفهاء بأولاد المخاطبين ونسائهم معا أو بأحدها وجعلوا إضافة أموال المخاطبين إليهم على حقيقتها، فقالوا في معنى هذه الجملة: إذا امتنع عليكم أيها الناس أن تعطوا أموالكم ولدانكم ونساءكم خشية أن يبذروها ويتلفوها وهي قيامكم وعليها مدار معاشكم، فعليكم أن تتولوا أنتم إصلاحها وتثميرها والإنفاق عليهم منها في طعامهم وكسوتهم، فهي في وجوب إنفاق الرجل على زوجه وأولاده القاصرين الذين لا يحسنون الكسب، وروي نحوه عن ابن عباس. ومن قالوا إن الكلام في السفهاء عامة وفي حفظ الأولياء لأموالهم قالوا: إن معناها يا أيها الأولياء الذين عهد إليكم حفظ أموال السفهاء وتثميرها حتى كأنها- بهذا التصرف وبارتباط مصالح أصحابها بمصالحكم وبتكامل الأمة والعشيرة ووحدتها- أموالكم يجب عليكم أن تنفقوا على السفهاء فتقدموا لهم كفايتهم من الطعام والثياب وغير ذلك. ومن قالوا إن لفظ السفهاء عام في أولاد المخاطبين ونسائهم واليتامى وغيرهم ولفظ أموالكم عام فيما هو للمخاطبين وهم جميع المكلفين وما هو للسفهاء، وهو الذي اختاره ابن جرير- وقلنا إنه أحسن الأقوال- جعلوا معناها شاملا للمعنيين السابقين في الإنفاق على من تجب على الرجل نفقته من مال نفسه والإنفاق على من يتولى أمره من السفهاء ممن لا تجب عليه نفقته من ماله أي مال نفسه.
وإنما قال" وارزقوهم فيها "ولم يقل منها لأن المراد كما قال في الكشاف اجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فلا يأكلها الإنفاق اه. أي إن ما ينفق من أصله وصلبه ينقص رويدا رويدا حتى يهذب كله. وتبع الكشاف فيما قال الإمام الرازي والأستاذ الإمام.
وقال الأستاذ الإمام: الرزق يعم وجوه الإنفاق كلها كالأكل والمبيت والزواج والكسوة وإنما قال" واكسوهم "فخص الكسوة بالذكر لأن الناس يتساهلون فيها أحيانا وتخصيص" الجلال "- أي وغيره ممن نقل هو عنهم- الرزق بالإطعام لا يصح ا ه وقال الرازي: إن الرزق من العباد هو الإجراء الموظف لوقت معلوم، يقال فلان رزق عياله أي أجرى عليهم اه يعني أن كل النفقات المرتبة في أوقات معينة تسمى رزقا وهو معنى اصطلاحي أخص من المعنى اللغوي. والغرض من هذا وذاك هو جعلهم الرزق هنا شاملا لأنواع النفقات الواجبة بالنص، حتى لا يقول قائل إن الواجب هو الطعام والكسوة دون الإيواء والتربية والتعليم وغير ذلك.
وفد فسر بعضهم قوله تعالى: (وقولوا لهم قولا معروفا) بتعليمهم ما يجب علمه وما يجب العمل به، نقله الرازي عن الزجاج، وقيل هو الوعد الجميل للسفيه بإعطائه ماله عند الرشد. وقيل بل وعده بزيادة الإدرار عليه والتوسعة عند زيادة ربح المال وغلته. وقيل هو الدعاء. وفصل القفال فقال: إن كان المولى عليه صبيا (أي صغيرا ولو أنثى) فالولي يعرفه أن المال ماله وهو خازن له، وأنه إذا زال صباه فإنه يرد المال عليه وإذا كان المولى عليه سفيها وعظه ونصحه وحثه على الصلاة ورغبه في ترك التبذير والإسراف، وعرفه أن عاقبته الفقر والاحتياج إلى الخلق إلى ما يشبه هذا النوع من الكلام. قال الرازي وهذا الوجه أحسن من سائر الوجوه. وقال الأستاذ الإمام: المعروف هنا يشمل تطييب القلوب بإفهام السفيه أن المال ماله لا فضل لأحد في الإنفاق منه عليه ليسهل عليه الحجر، ويشمل النصح والإرشاد وتعليم ما ينبغي أن يعلمه السفيه وما يعده للرشد، فإن السفه كثيرا ما يكون عارضا للشخص لا فطريا، فإذا عولج بالنصح والتأديب حسنت حاله؛ فهذا هو القول المعروف الذي أمر الله أولياء السفهاء به زيادة على حفظ أموالهم وتثميرها والإنفاق عليهم منها.
أقول: فأين مكان هذه الوصايا والأوامر الإلهية من الأولياء والأوصياء الذين نعرفهم في هذا الزمان يأكلون أموال السفهاء ويمدونهم في سفههم ويحولون بينهم وبين أسباب الرشد ليبقوا متمتعين بالتصرف في أموالهم؟
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن هذا المال، ولو أنه مال اليتامى، إلا أنه -قبل هذا- مال الجماعة، أعطاها الله إياه لتقوم به؛ وهي متكافلة في الانتفاع بهذا المال على أحسن الوجوه. فالجماعة هي المالكة ابتداء للمال العام، واليتامى أو مورثوهم إنما يملكون هذا المال لاستثماره -بإذن من الجماعة- ويظلون ينتفعون به وينفعون الجماعة معهم، ما داموا قادرين على تكثيره وتثميره؛ راشدين في تصريفه وتدبيره -والملكية الفردية بحقوقها وقيودها قائمة في هذا الإطار- أما السفهاء من اليتامى ذوي المال، الذين لا يحسنون تدبير المال وتثميره، فلا يسلم لهم، ولا يحق لهم التصرف فيه والقيام عليه -وإن بقيت لهم ملكيتهم الفردية فيه لا تنزع منهم- إنما يعود التصرف في مال الجماعة إلى من يحسن التصرف فيه من الجماعة. مع مراعاة درجة القرابة لليتيم، تحقيقا للتكافل العائلي، الذي هو قاعدة التكافل العام بين الأسرة الكبرى! وللسفيه حق الرزق والكسوة في ماله مع حسن معاملته:
(ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما، وارزقوهم فيها واكسوهم، وقولوا لهم قولا معروفا)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على قوله: {وآتوا النساء صدقاتهن} [النساء: 4] لدفع توهّم إيجاب أن يؤتى كلّ مال لمالكه من أجل تقدّم الأمر بإتيان الأموال مالكيها مرّتين في قوله: {وآتوا اليتامى أموالهم وآتوا النساء صدقاتهن} [النساء: 2، 4]. أو عطف على قوله: {وآتوا اليتامى} وما بينهما اعتراض.
والمقصود بيان الحال التي يمنع فيها السفيه من ماله، والحال التي يؤتى فيها مالَه، وقد يقال كان مقتضى الظاهر على هذا الوجه أن يقدّم هنالك حكم منع تسليم مال اليتامى لأنّه أسبق في الحصول، فيتّجه لمخالفة هذا المقتضى أن نقول قدّم حكم التسليم، لأنّ الناس أحرص على ضدّه، فلو ابتدأ بالنهي عن تسليم الأموال للسفهاء لاتّخذه الظالمون حجّة لهم، وتظاهروا بأنّهم إنّما يمنعون الأيتام أموالهم خشية من استمرار السفه فيهم، كما يفعله الآن كثير من الأوصياء والمقدّمين غير الأتقياء، إذ يتصدّون للمعارضة في بيّنات ثبوت الرشد لمجرّد الشغب وإملال المحاجير من طلب حقوقهم.
والخطاب في قوله: {ولا تؤتوا السفهاء} كمثل الخطاب في {وآتوا اليتامى وآتوا النساء} هو لعموم الناس المخاطبين بقوله: {يا أيها الناس اتّقوا ربكم} [الحج: 1] ليأخذ كل من يصلح لهذا الحكم حظّه من الامتثال.
والسفهاء يجوز أن يراد به اليتامى، لأنّ الصغر هو حالة السفه الغالبة، فيكون مقابلاً لقوله: {وآتوا اليتامى} لبيان الفرق بين الإيتاء بمعنى الحفظ والإيتاء بمعنى التمكين، ويكون العدول عن التعبير عنهم باليتامى إلى التعبير هنا بالسفهاء لبيان علّة المنع. ويجوز أن يراد به مطلق من ثبت له السفه، سواء كان عن صغر أم عن اختلال تصرّف، فتكون الآية قد تعرّضت للحجر على السفيه الكبير استطراداً للمناسبة، وهذا هو الأظهر لأنّه أوفر معنى وأوسع تشريعاً. وتقدّم بيان معاني السفه عند قوله تعالى: {إلا من سفه نفسه} في سورة البقرة (130).
والمراد بالأموال أموال المحاجير المملوكة لهم، ألا ترى إلى قوله: {وارزقوهم فيها} وأضيفت الأموال إلى ضمير المخاطبين ب (يا أيّها الناس) إشارة بديعة إلى أنّ المال الرائج بين الناس هو حقّ لمالكيه المختصّين به في ظاهر الأمر، ولكنّه عند التأمّل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء لأنّ في حصوله منفعة للأمّة كلّها، لأنّ ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالصالحة، فمن تلك الأموال يُنفق أربابها ويستأجرون ويشترون ويتصدّقون ثم تورث عنهم إذا ماتوا فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير وذو الكفاف، ومتى قلَّت الأموال من أيدي الناس تقاربوا في الحاجة والخصاصة، فأصبحوا في ضنك وبؤس، واحتاجوا إلى قبيلة أو أمّة أخرى وذلك من أسباب ابتزاز عزّهم، وامتلاك بلادهم، وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم، فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جميع المخاطبين ليكون لهم الحقّ في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثروة العامة.
وهذه إشارة لا أحسب أنّ حكيماً من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها. وقد أبْعَدَ جماعة جعلوا الإضافة لأدنى ملابسة، لأنّ الأموال في يد الأولياء، وجعلوا الخطاب للأولياء خاصّة. وجماعة جعلوا الإضافة للمخاطبين لأنّ الأموال من نوع أموالهم، وإن لم تكن أموالهم حقيقة، وإليه مال الزمخشري. وجماعة جعلوا الإضافة لأنّ السفهاء من نوع المخاطبين فكأنّ أموالَهم أموالُهم وإليه مال فخر الدين. وقارب ابن العرب إذ قال: « لأنّ الأموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد وتخرج من ملك إلى ملك» وبما ذكرته من البيان كان لكلمته هذه شأن. وأبعَدَ فريق آخرون فجعلوا الإضافة حقيقية أي لا تؤتوا يا أصحاب الأموال أموالكم لمن يضيعها من أولادكم ونسائكم، وهذا أبعد الوجوه، ولا إخال الحامل على هذا التقدير إلاّ الحيرة في وجه الجمع بين كون الممنوعين من الأموال السفهاء، وبين إضافة تلك الأموال إلى ضمير المخاطبين، وإنّما وصفته بالبعد لأنّ قائله جعله هو المقصود من الآية ولو جعله وجهاً جائزاً يقوم من لفظ الآية لكان له وجه وجيه بناء على ما تقرّر في المقدّمة التاسعة.
وأجرى على الأموال صفة تزيد إضافتها إلى المخاطبين وضوحاً وهي قوله: {التي جعل اللَّه لكم قياماً} فجاء في الصفة بموصول إيماء إلى تعليل النهي، وإيضاحاً لمعنى الإضافة، فإنّ (قيما) مصدر على وزن فِعَل بمعنى فِعَال: مثل عِوذَ بمعنى عياذ، وهو من الواوي وقياسُه قِوَم، إلاّ أنّه أعلّ بالياء شذوذاً كما شذّ جياد في جمع جَواد وكما شذّ طيال في لغة ضَبَّةَ في جمع طويل، قصدوا قلب الواو ألفاً بعد الكسرة كما فعلوه في قيام ونحوه، إلاّ أنّ ذلك في وزن فِعال مطّرد، وفي غيره شاذّ لكثرة فِعال في المصادر، وقلّة فِعَل فيها، وقيم من غير الغالب. كذا قرأه نافع، وابن عامر: « قيما» بوزن فِعَل، وقرأه الجمهور « قياماً»، والقيام ما به يتقوّم المعاش وهو واوي أيضاً وعلى القراءتيْن فالإخبار عن الأموال به إخبار بالمصدر للمبالغة،
والمعنى أنّها تقويم عظيم لأحوال الناس. وقيل: قيما جمع قِيمة أي التي جعلها الله قيماً أي أثماناً للأشياء، وليس فيه إيذان بالمعنى الجليل المتقدّم.
ومعنى قوله: {وارزقوهم فيها واكسوهم} واقع موقع الاحتراس أي لا تؤتوهم الأموال إيتاء تصرّف مطلق، ولكن آتوهم إيّاها بمقدار انتفاعهم من نفقة وكسوة، ولذلك قال فقهاؤنا: تسلّم للمحجور نفقته وكِسْوته إذا أمن عليها بحسب حاله وماله، وعدل عن تعدية {ارزقوهم واكسوهم} ب (مِن) إلى تعديتها ب (في) الدالّة على الظرفية المجازية، على طريقة الاستعمال في أمثاله، حين لا يقصد التبعيض الموهم للإنقاص من ذات الشيء، بل يراد أنّ في جملة الشيء ما يحصل به الفعل: تارة من عينه، وتارة من ثمنه، وتارة من نتاجه، وأنّ ذلك يحصل مكرّراً مستمرّاً...
وهذا معنى بديع في الاستعمال لم يسبق إليه المفسّرون هنا، فأهمل معظمهم التنبيه على وجه العدول إلى (في)، واهتدى إليه صاحب « الكشاف» بعض الاهتداء فقال: أي اجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتّجروا فيها وتتربَّحوا حتّى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال. فقوله: « لا من صلب المال» مستدرك، ولو كان كما قال لاقتضى نهياً عن الإنفاق من صلب المال.
وإنّما قال: {وقولوا لهم قولاً معروفاً} ليسلم إعطاؤهم النفقة والكسوة من الأذى، فإنّ شأن من يُخرج المال من يده أن يستثقل سائل المال، وذلك سواء في العطايا التي من مال المعطي، والتي من مال المعطَى، ولأنّ جانب السفيه ملموز بالهون، لقلّة تدبيره، فلعلّ ذلك يحمل ولّيه على القلق من معاشرة اليتيم فيسمعه ما يكره مع أنّ نقصان عقله خلل في الخلقة، فلا ينبغي أن يشتم عليه، ولأنّ السفيه غالباً يستنكر منعَ ما يطلبُه من واسع المطالب، فقد يظهر عليه، أو يصدر منه كلمات مكروهة لوليّه، فأمر الله لأجل ذلك كلّه الأولياء بأن لا يبتدئوا محاجيرهم بسَيّىء الكلام، ولا يجيبوهم بما يسوء، بل يعظون المحاجير، ويعلّمونهم طرق الرشاد ما استطاعوا، ويذكّرونهم بأنّ المال مالهم، وحفظه حفظ لمصالحهم، فإنّ في ذلك خيراً كثيراً، وهو بقاء الكرامة بين الأولياء ومواليهم، ورجاء انتفاع الموالي بتلك المواعظ في إصلاح حالهم. وقد شمل القَول المعروف كلّ قول له موقع في حال مقاله. وخرج عنه كلّ قول منكر لا يشهد العقل ولا الخُلُق بمصادفته المحزّ، فالمعروف قد يكون ممّا يكرهه السفيه إذا كان فيه صلاح نفسه.