ثم تمضى السورة بعد ذلك في الكشف عن الأقوال المنكرة ، والأفعال القبيحة التي كانت تصدر عن المنافقين فتقول . { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ . . . إِلَى الله رَاغِبُونَ } .
قال الإِمام الرازى : اعلم أن المقصود من هذا ، شرح نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم ، وهو طعنهم في الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء ، ويقولون إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته ، وينسبونه إلى أنه لا يراعى العدل .
هذا ، وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآتين روايات منها :
ما أخرجه البخارى والنسائى " عن أبى سعيد الخردى - رضى الله عنه - قال : بينما النبى - صلى الله عليه وسلم - يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمى فقال : اعدل يا رسول الله ، فقال : " ويلك ! ومن يعدل إذا لم أعدل " ؟ فقال عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - : ائذن لى فأضرب عنقه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " دعه فإن له أصحاب يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصايمه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم في الرمية . . " " .
قال أبو سعيد ، فنزلت فيهم : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات . . } .
وروى ابن مردويه " عن ابن مسعود - رضى الله عنه - قال : " لما قسم النبى - صلى الله عليه وسلم - غنائم حين سمعت رجلا يقول : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله . فأتيت النبى - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك فقال : " رحمة الله على موسى ، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر " ونزل { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } .
وقوله : { يَلْمِزُكَ } أى : يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات وغيرها من الأموال ، مأخوذ من اللمز وهو العيب . يقال لمزه وهمزه يلمزه ويهمزه إذا عابه وطعن عليه ، ومنه قوله - تعالى - : { ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } وقيل : اللمز ما كان يحضره الملموز ، والهمز ما كان في غيابه .
والمعنى : ومن هؤلاء المنافقين - يا محمد - من يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات والغنائم ، زاعمين أنك لست عادلا في قسمتك .
وقوله : { فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ . . . } بيان لفساد لمزهم وطعنهم ، وأن الدافع إليه إنما هو الطمع والشره في حطام الدنيا ، وليس الغضب من أجل إحقاق الحق : أو من أجل نشر العدالة بين الناس .
أى : أن هؤلاء المنافقين إن أعطيتهم . يا محمد . من تلك الصدقات ، رضوا عنك ، وحكموا على هذا العطاء بأنه عدل حتى ولو كان ظلماً ، وإن لم تعطهم منهم سخطوا عليك ، واتهموك بأنك غير عادل ، حتى ولو كان عدم عطائهم هو الحق بعينه ، فهم لا يقولون ما يقولونه فيك غضبا للعدل ، ولا حماسة للحق ، ولا غيرة على الدين . . وإنما يقولون ما يقولون من أجل مطامعهم الشخصية ، ومنافعهم الذاتية .
يقول تعالى : { وَمِنْهمْ } أي ومن المنافقين { مَنْ يَلْمِزُكَ } أي : يعيب عليك { فِي } قَسْم { الصَّدَقَاتِ } إذا فرقتها ، ويتهمك في ذلك ، وهم المتهمون{[13553]} المأبونون ، وهم مع هذا لا ينكرون للدين ، وإنما ينكرون لحظ أنفسهم ؛ ولهذا إن { أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } أي : يغضبون لأنفسهم .
قال ابن جُرَيْج : أخبرني داود بن أبي عاصم قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة ، فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت . قال : ووراءه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل ؟ فنزلت هذه الآية .
وقال قتادة في قوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } يقول : ومنهم من يطعن عليك في الصدقات . وذُكر لنا أن رجلا من [ أهل ]{[13554]} البادية حديثَ عهد بأعرابية ، أتى رسول{[13555]} الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة ، فقال : يا محمد ، والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ، ما عدلت . فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " ويلك فمن ذا يعدل عليك بعدي " . ثم قال نبي الله : " احذروا هذا وأشباهه ، فإن في أمتي أشباه هذا ، يقرءون القرآن لا يجاوز{[13556]} تَرَاقيَهم ، فإذا خرجوا فاقتلوهم ، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم " . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه ، إنما أنا خازن " .
وهذا الذي ذكره قتادة شبيه بما رواه الشيخان من حديث الزهري ، عن أبي سلمة{[13557]} عن أبي سعيد في قصة ذي الخُوَيصرة - واسمه حُرْقوص - لما اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم حنين ، فقال له : اعدل ، فإنك لم تعدل . فقال : " لقد خِبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدل " . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رآه مقفيا{[13558]} إنه يخرج من ضِئْضِئ هذا قوم يحقرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين مُرُوق السهم من الرَّمِيَّة ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء " وذكر بقية الحديث{[13559]}
{ ومنهم من يَلزُمك } يعيبك . وقرأ يعقوب " يُلمِزُك " بالضم وابن كثير " يلامزك " . { في الصدقات } في قسمها . { فإن أُعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } قيل إنها نزلت في أبي الجواظ المنافق فقال : ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أنه يعدل . وقيل في ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فاستعطف قلوب أهل مكة بتوفير الغنائم عليهم فقال : اعدل يا رسول الله فقال : " ويلك إن لم أعدل فمن يعدل " . و{ إذا } للمفاجأة نائب مناب الفاء الجزائية .
وقوله تعالى : { ومنهم من يلمزك } الآية ، الضمير في قوله { ومنهم } عائد على المنافقين ، وأسند الطبري إلى أبي سعيد الخدري أنه قال : جاء ابن ذي الخويصرة التميمي{[5716]} رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً فقال : اعدل يا محمد الحديث المشهور بطوله ، وفيه قال أبو سعيد : فنزلت في ذلك { ومنهم من يلمزك في الصدقات }{[5717]} ، وروى داود بن أبي عاصم أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصدقة فقسمها ووراءه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل فنزلت الآية{[5718]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذه نزعة منافق ، وكذلك روي من غير ما طريق أن الآية نزلت بسبب كلام المنافقين إذ لم يعطوا بحسب شطط آمالهم ، و { يلمزك } معناه يعيبك ويأخذ منك في الغيبة ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة*** وأن أغيب فأنت الهامز اللمز{[5719]}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** في ظل عصري باطلي ولمزي{[5720]}
والهمز أيضاً في نحو ذلك ومنه قوله تعالى { ويل لكل همزة لمزة }{[5721]} وقيل لبعض العرب : أتهمز الفأرة فقال : إنها تهمزها الهرة قال أبو علي : فجعل الأكل همزاً ، وهذه استعارة كما استعار حسان بن ثابت الغرث في قوله : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
****** *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل{[5722]}
تركيباً على استعارة الأكل في الغيبة .
قال القاضي أبو محمد : ولم يجعل الأعرابي الهمز الأكل ، وإنما أراد ضربها إياها بالناب والظفر ، وقرأ جمهور الناس «يلمِزك » بكسر الميم ، وقرأ ابن كثير فيما روى عنه حماد بن سلمة «يلمُزك » بضم الميم ، وهي قراءة أهل مكة وقراءة الحسن وأبي رجاء وغيرهم ، وقرأ الأعمش «يُلمّزك »{[5723]} ، وروى أيضاً حماد بن سلمة عن ابن كثير «يلامزك » ، وهي مفاعلة من واحد لأنه فعل لم يقع من النبي صلى الله عليه وسلم .
عرف المنافقون بالشحّ كما قال الله تعالى : { أشحة عليكم } [ الأحزاب : 19 ] وقال { أشحة على الخير } [ الأحزاب : 19 ] ومن شحّهم أنّهم يودّون أنّ الصدقات توزع عليهم فإذا رأوها تُوزّع على غيرهم طعنوا في إعطائها بمطاعن يُلقونها في أحاديثهم ، ويظهرون أنّهم يغارون على مستحقّيها ، ويشمئزّون من صرفها في غير أهلها ، وإنّما يرومون بذلك أن تقصر عليهم .
روي أنّ أبا الجَوَّاظ ، من المنافقين ، طَعَن في أن أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أموالِ الصدقات بعضَ ضعفاء الأعراب رعاء الغنم ، إعانة لهم ، وتأليفاً لقلوبهم ، فقال : ما هذا بالعدل أن يضع صدقاتكم في رعاء الغنم ، وقد أمر أن يقسمها في الفقراء والمساكين ، وقد روي أنّه شافه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم .
وعن أبي سعيد الخدري : أنّها نزلت في ذي الخويصرة التميمي الذي قال للنبيء صلى الله عليه وسلم اعدل ، وكان ذلك في قسمة ذهب جاء من اليمن سنة تسع ، فلعل السبب تكرّر ، وقد كان ذو الخويصرة من المنافقين من الأعراب .
واللّمز القدح والتعييب ، مضارعه من باب يضرب ، وبه قرأ الجمهور ، ومن باب ينصرُ ، وبه قرأ يعقوب وحده .
وأدخلت { في } على الصدقات ، وإنّما اللمز في توزيعها لا في ذواتها : لأنّ الاستعمال يدلّ على المراد ، فهذا من إسناد الحكم إلى الأعيان والمراد أحوالها .
ثم إنّ قوله : { فإن أعطوا منها رضوا } يحتمل : أنّ المراد ظاهر الضمير أن يعود على المذكور ، أي إن أعطي اللامزون ، أي إنّ الطاعنين يطمعون أن يأخذوا من أموال الصدقات بوجه هدية وإعانة ، فيكون ذلك من بلوغهم الغاية في الحرص والطمع ، ويحتمل أنّ الضمير راجع إلى ما رجع إليه ضمير { منهم } أي : فإن أعطي المنافقون رضي اللاَّمزون ، وإن أعطي غيرهم سخطوا ، فالمعنى أنّهم يرومون أن لا تقسم الصدقات إلاّ على فقرائهم ولذلك كره أبو الجَواظ أن يعطى الأعراب من الصدقات .
ولم يُذكر متعلّق { رضوا } ، لأنّ المراد صاروا راضين ، أي عنك .
ودلّت { إذا } الفجائية على أنّ سخطهم أمر يفاجىء العاقل حين يشهده لأنّه يكون في غير مظنّة سخط ، وشأن الأمور المفاجئة أن تكون غريبة في بابها .