وبعد أن ذكر القرآن الكفار ومآلهم ، عطف على ذلك ذكر المؤمنين وما يفوزون به من نعيم في حياتهم الباقية ، كما هي سنة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد فقال - تعالى - :
{ وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا . . . }
البشارة : الخبر السار فهو أخص من الخبر ، سمى بذلك لأن أثره يظهر على البشرة وهي ظاهر جلد الإِنسان ، والمأمور بالتبشير هو النبي صلى الله عليه وسلم أو كل من يتأتى منه تفخيماً لأمره ، وتعظيماً لشأنه .
والصلاحات : جمع صالحة وهي الفعلة الحسنة ، وهي من الصفات التي جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل .
والجنات : جمع جنة ، وهي كل بستان ذي شجر متكاثف ، ملتف الأغصان ، يظل ما تحته ويستره ، من الجن وهو ستر الشيء عن الحاسة ، ثم صارت الجنة اسماً شرعياً لدار النعيم في الآخرة ، وهي سبع درجات : جنة الفردوس ، وجنة عدن ، وجنة النعيم ، ودار الخلد ، وجنة المأوى ، ودار السلام ، وعليون . . . وتتفاوت منازل المؤمنين في كل درجة بتفاوت الأعمال الصالحة . والأنهار جمع نهر - بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح - وهو الأخدود الذي يجري فيه الماء على الأرض ، وهو مشتق من مادة نهر الدالة على الانشقاق والاتساع ، ويكون كبيراً أو صغيراً . وأسند إليه الجرى في الآية مع أن الذي يجري في الحقيقة هو الماء ، أخذاً بفن معروف بين البلغاء ، وهو إسناد الفعل إلى مكانه ، توسعاً في أساليب البيان .
وقوله : " من تحتها " وارد على طريقة الإِيجاز بحذف كلمة " أشجار " اعتماداً على تبادرها إلى الذهن ، والمعنى : تجري من تحت أشجارها الأنهار . ثم بين - سبحانه - أحوال هؤلاء المؤمنين الصالحين فقال : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } أي : إن سكان الجنة كلما رزقوا في الجنة ثمرة من ثمراتها ، وجدوها مثل الذي رزقوه فيها من قبل ، في بلوغه الغاية من حسن المنظر ولذة الطعم .
وفي هذا إِشارة إلى أن ثمار الجنة متماثلة في حسن منظرها ، ولذة طعمها بحيث لا تفضل ثمرة في ذلك على أخرى ، فجميع ثمرها يسر له القلب ، ويستحليه الذوق ، وإن اختلفت المناظر والطعوم .
ثم قال - تعالى { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } أي : يشبه بعضه بعضاً في الصورة والرائحة ، ويختلف في اللذة والطعم ، أو في المزية والحسن ، وعن ابن عباس : " ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي " ؛ وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها في معنى أن كل ثمر يشابه ما قبله في حسن المنظر ولذة الطعم مشابهة لا يفضل فيها ثمر الدنيا ، فإنه يتفاوت في مناظره حسناً ، وفي طعومه لذة .
ويرى بعض العلماء حمل قوله - تعالى - : { قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } على تقدير : من قبل دخول الجنة ، أي هذا الذي رزقناه في الدنيا ، وإلى هذا الرأي مال صاحب الكشاف فقد قال : " فإن قلت : كيف قيل .
" هذا الذي رزقنا من قبل ؟ وكيف تكون ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات الذي رزقوه في الدنيا ؟ قلت : معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل وشبهه ، بدليل قوله : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : { وَأُتُواْ بِهِ } ؟ قلت : إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً ، لأن قوله : { هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين . فإن قلت : لأي غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة ؟ قلت : لأن الإِنسان بالمألوف آنس ؛ وإلى المعهود أميل ، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عن طبعه ، وعافته نفسه "
ثم قال - تعالى - : { وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
الأزواج : جمع زوج وهي المرأة يختص بها الرجل ، والضمير في " فيها " يعود إلى الجنات . والمعنى : أن لهؤلاء المؤمنين نساء مختصات بهم ، مطهرات غاية التطهير من كل دنس وقذر ، حسى ومعنى ، لا كنساء الدنيا ، وهم في هذه الجنات باقون على الدوام ، لأن النعيم إنما يتم باطمئنان صاحبه على أنه دائم ، أما إذا كان محتملا للزوال فإن صاحبه يبقى منغص البال ، إذ سيذكر أنه سيفقده في يوم من الأيام ، فجملة { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } جيء بها على سبيل الاحتراس من وهم الانقطاع .
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به{[1386]} وبرسله من العذاب والنكال ، عَطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به{[1387]} وبرسله ، الذين صَدَّقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة ، وهذا معنى تسمية القرآن " مثاني " على أصح أقوال{[1388]} العلماء ، كما سنبسطه في موضعه ، وهو أن يذكر الإيمان ويتبعه بذكر الكفر ، أو عكسه ، أو حال السعداء ثم الأشقياء ، أو عكسه . وحاصله ذكر الشيء ومقابله . وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه ، كما سنوضحه إن شاء الله ؛ فلهذا قال تعالى : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار ، كما وصف النار بأن وقودها الناس والحجارة ، ومعنى { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : من تحت أشجارها وغرفها ، وقد جاء في الحديث : أن أنهارها تجري من{[1389]} غير أخدود ، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف ، ولا منافاة بينهما ، وطينها المسك الأذفر ، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر ، نسأل الله من فضله [ وكرمه ]{[1390]} إنه هو البر الرحيم .
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على الربيع بن سليمان : حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن ثوبان ، عن عطاء بن قرّة ، عن عبد الله بن ضمرة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنهار الجنة تُفَجَّر من تحت تلال - أو من تحت جبال – المسك »{[1391]} .
وقال أيضا : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، قال : قال عبد الله : أنهار الجنة تفجر من جبل مسك .
وقوله تعالى : { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مُرّة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } قال : إنهم أتوا بالثمرة في الجنة ، فلما نظروا إليها قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل في [ دار ]{[1392]} الدنيا .
وهكذا قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ونصره ابن جرير .
وقال عكرمة : { قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } قال : معناه : مثل الذي كان بالأمس ، وكذا قال الربيع بن أنس . وقال مجاهد : يقولون : ما أشبهه به .
قال ابن جرير : وقال آخرون : بل تأويل ذلك هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا{[1393]} لشدة مشابهة بعضه بعضًا ، لقوله تعالى : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قال سُنَيْد بن داود : حدثنا شيخ من أهل المِصِّيصة ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : يؤتى أحدهم بالصحفة{[1394]} من الشيء ، فيأكل منها ثم يؤتى{[1395]} بأخرى فيقول : هذا الذي أوتينا به من قبل . فتقول الملائكة : كُلْ ، فاللون واحد ، والطعم مختلف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عامر{[1396]} بن يَسَاف ، عن يحيى بن أبي كثير قال : عشب الجنة الزعفران ، وكثبانها المسك ، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها{[1397]} ثم يؤتون بمثلها ، فيقول لهم أهل الجنة : هذا الذي أتيتمونا آنفا به ، فيقول لهم الولدان : كلوا ، فإن اللون واحد ، والطعم مختلف . وهو قول الله تعالى : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا }
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قال : يشبه بعضه بعضًا ، ويختلف في الطعم .
وقال ابن أبي حاتم : ورُوي عن مجاهد ، والربيع بن أنس ، والسدي نحو ذلك .
وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مُرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة ، في قوله تعالى : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } يعني : في اللون والمرأى ، وليس يشتبه{[1398]} في الطعم .
وقال عكرمة : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قال : يشبه ثمر الدنيا ، غير أن ثمر الجنة أطيب .
وقال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي ظِبْيان ، عن ابن عباس ، لا يشبه شَيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء ، وفي رواية : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء . رواه ابن جرير ، من رواية الثوري ، وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش ، به .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قال : يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا : التفاح بالتفاح ، والرمان بالرمان ، قالوا في الجنة : هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا ، وأتوا به متشابها ، يعرفونه وليس هو مثله في الطعم .
وقوله تعالى : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : مطهرة من القذر والأذى .
وقال مجاهد : من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد .
وقال قتادة : مطهرة من الأذى والمأثم . وفي رواية عنه : لا حيض ولا كلف . وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك .
وقال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، قال : المطهرة التي لا تحيض . قال : وكذلك خلقت حواء ، عليها السلام ، حتى عصت ، فلما عصت قال الله تعالى : إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة . وهذا غريب .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثني جعفر بن محمد بن حرب ، وأحمد بن محمد الجُوري{[1399]} قالا حدثنا محمد بن عبيد الكندي ، حدثنا عبد الرزاق بن عمر البَزيعيّ ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن شعبة ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } قال : «من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق »{[1400]} .
هذا حديث غريب . وقد رواه الحاكم في مستدركه ، عن محمد بن يعقوب ، عن الحسن بن علي بن عفان ، عن محمد بن عبيد ، به ، وقال : صحيح على شرط الشيخين .
وهذا الذي ادعاه فيه نظر ؛ فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي{[1401]} هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان البُسْتي : لا يجوز الاحتجاج به{[1402]} .
قلت : والأظهر أن هذا من كلام قتادة ، كما تقدم ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } هذا{[1403]} هو تمام السعادة ، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء ، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام ، والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم ، إنه جواد كريم ، بر رحيم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أما قوله تعالى:"وَبَشّرْ" فإنه يعني: أخبرهم. والبشارة أصلها: الخبر بما يسر المخبر به، إذا كان سابقا به كل مخبر سواه. وهذا أمر من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبماء جاء به من عند ربه، وصدقوا إيمانهم ذلك وإقرارهم بأعمالهم الصالحة، فقال له: يا محمد بَشّرْ من صدقك أنك رسولي وأن ما جئت به من الهدى والنور فمن عندي، وحقق تصديقه ذلك قولاً بأداء الصالح من الأعمال التي افترضتها عليه وأوجبتها في كتابي على لسانك عليه، أن له جنات تجري من تحتها الأنهار خاصة، دون من كذّب بك وأنكر ما جئت به من الهدى من عندي وعاندك، ودون من أظهر تصديقك وأقرّ بأن ما جئته به فمن عندي قولاً، وجحده اعتقادا ولم يحققه عملاً. فإن لأولئك النار التي وقودها الناس والحجارة معدة عندي.
والجنات جمع جنة، والجنة: البستان. وإنما عنى جل ذكر بذكر الجنة ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها دون أرضها، فلذلك قال عزّ ذكره: "تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ "لأنه معلوم أنه إنما أرَادَ جل ثناؤه الخبر عن ماء أنهارها أنه جار تحت أشجارها وغروسها وثمارها، لا أنه جار تحت أرضها لأن الماء إذا كان جاريا تحت الأرض، فلا حظّ فيها لعيون من فوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه...
على أن الذي توصف به أنهار الجنة أنها جارية في غير أخاديد... عن مسروق، قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القِلال، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وماؤها يجري في غير أخدود...
فإذا كان الأمر كذلك في أن أنهارها جارية في غير أخاديد، فلا شك أن الذي أريد بالجنات أشجار الجنات وغروسها وثمارها دون أرضها، إذ كانت أنهارها تجري فوق أرضها وتحت غروسها وأشجارها، على ما ذكره مسروق. وذلك أولى بصفة الجنة من أن تكون أنهارها جارية تحت أرضها. وإنما رغب الله جل ثناؤه بهذه الآية عباده في الإيمان وحضهم على عبادته، بما أخبرهم أنه أعدّه لأهل طاعته والإيمان به عنده، كما حذرهم في الآية التي قبلها بما أخبر من إعداده ما أعدّ لأهل الكفر به الجاعلين معه الاَلهة والأنداد من عقابه عن إشراك غيره معه، والتعرّض لعقوبته بركوب معصيته وترك طاعته...
"كُلمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا قالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وأتُوا بِهِ مُتَشَابِها ": كُلّما رُزِقُوا مِنْهَا من الجنات، والهاء راجعة على «الجنات»، وإنما المعنيّ أشجارها، فكأنه قال: كلما رزقوا من أشجار البساتين التي أعدّها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات في جناته من ثمرة من ثمارها رزقا قالوا: هذا الذي رُزِقْنا من قبل...
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "هَذَا الّذِي رزِقْنا مِنْ قَبْلُ"
فقال بعضهم: تأويل ذلك: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا.
وقال آخرون: بل تأويل ذلك: هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا، لشدة مشابهة بعض ذلك في اللون والطعم بعضا. ومن علة قائلي هذا القول أن ثمار الجنة كلما نزع منها شيء عاد مكانه آخر مثله. قالوا: فإنما اشتبهت عند أهل الجنة، لأن التي عادت نظيرة التي نزعت فأكلت في كل معانيها. قالوا: ولذلك قال الله جل ثناؤه: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها لاشتباه جميعه في كل معانيه
وقال بعضهم: بل قالوا: هَذَا الّذِي رزِقْنا مِنْ قَبْلُ لمشابهته الذي قبله في اللون وإن خالفه في الطعم.
والذي يدل على صحته ظاهر الآية ويحقق صحته، قول القائلين إن معنى ذلك: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا. وذلك أن الله جل ثناؤه قال: "كُلّما رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا" فأخبر جل ثناؤه أن من قيل أهل الجنة كلما رزقوا من ثمر الجنة رزقا أن يقولوا: "هذا الذي رُزقنا من قبل". ولم يخصص بأن ذلك من قيلهم في بعض ذلك دون بعض. فإذْ كان قد أخبر جل ذكره عنهم أن ذلك من قيلهم في كل ما رزقوا من ثمرها، فلا شك أن ذلك من قيلهم في أول رزق رزقوه من ثمارها أتوا به بعد دخولهم الجنة واستقرارهم فيها، الذي لم يتقدمه عندهم من ثمارها ثمرة. فإذْ كان لا شك أن ذلك من قيلهم في أوله، كما هو من قيلهم في وسطه وما يتلوه، فمعلوم أنه محال أن يكون من قيلهم لأوّل رزق رزقوه من ثمار الجنة: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ هذا من ثمار الجنة. وكيف يجوز أن يقولوا لأوّل رزق رزقوه من ثمارها ولما يتقدمه عندهم غيره...
"وأتُوا بِهِ مُتَشابِها": والهاء في قوله: "وأتُوا بِهِ مُتَشابِها" عائدة على الرزق، فتأويله: وأُتوا بالذي رزقوا من ثمارها متشابها.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل المتشابه في ذلك:
فقال بعضهم: تشابهه أن كله خيار لا رذل فيه.
وقال بعضهم: تشابهه في اللون وهو مختلف في الطعم. وقال بعضهم: تشابه في اللون والطعم وقال بعضهم: تشابهه تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون وإن اختلف طعومهما... يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب... وقال بعضهم: لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا الأسماء.
وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية، تأويل من قال: وأُوتُوا بِهِ مُتَشابِها في اللون والمنظر، والطعمُ مختلفٌ. يعني بذلك اشتباه ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون، مختلفا في الطعم والذوق لما قدمنا من العلة في تأويل قوله: "كُلما رُزِقُوا مِنْعها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا قالُوا هَذَا الّذِي رِزِقنا مِنْ قَبْلُ" وأن معناه: كلما رزقوا من الجنان من ثمرة من ثمارها رزقا قالُوا: هَذَا الّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْل هذا في الدنيا. فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك من أجل أنهم أُتوا بما أتوا به من ذلك في الجنة متشابها، يعني بذلك تشابه ما أتوا به في الجنة منه والذي كانوا رزقوه في الدنيا في اللون والمرأى والمنظر وإن اختلفا في الطعم والذوق فتباينا، فلم يكن لشيء مما في الجنة من ذلك نظير في الدنيا...
"وَلَهُمْ فِيهَا أزْواجٌ مُطَهّرَةٌ": والهاء والميم اللتان في «لهم» عائدتان على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والهاء والألف اللتان في «فيها» عائدتان على الجنات. وتأويل ذلك: وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات فيها أزواج مطهرة. والأزواج جمع زوج، وهي امرأة الرجل، يقال: فلانة زوج فلان وزوجته.
وأما قوله: "مُطَهّرَةٌ" فإن تأويله أنهن طهرن من كل أذى وقَذًى وريبة، مما يكون في نساء أهل الدنيا من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبصاق والمنيّ، وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والمكاره...
عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أما أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ فإنهن لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنخمن...
[و] عن ابن عباس قوله: "أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ" يقول: مطهرة من القذر والأذى...
"وَهُمْ فيها خالدُونَ": والذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنات خالدون، فالهاء والميم من قوله وَهُمْ عائدة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والهاء والألف في «فيها» على الجنات، وخلودهم فيها: دوام بقائهم فيها على ما أعطاهم الله فيها من الحَبْرَة والنعيم المقيم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
من عادته عز وجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب، ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط، لاكتساب ما يزلف، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف. فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب، قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة من فعل الطاعات وترك المعاصي، وحموها من الإحباط بالكفر والكبائر بالثواب...
فإن قلت: من المأمور بقوله تعالى: {وَبَشِّرِ}؟ قلت: يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون كل أحد. كما قال عليه الصلاة والسلام:"بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة" لم يأمر بذلك واحداً بعينه. وإنما كل أحد مأمور به، وهذا الوجه أحسن وأجزل؛ لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به.
والبشارة: الإخبار مما يظهر سرور المخبر به. ومن ثم قال العلماء: إذا قال لعبيده: أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حرّ، فبشروه فرادى، عتق أوّلهم، لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين. ولو قال مكان «بشرني» أخبرني «عتقوا جميعاً، لأنهم جميعاً أخبروه. ومنه: البشرة لظاهر الجلد. وتباشير الصبح: ما ظهر من أوائل ضوئه. وأما {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزَأ به وتألمه واغتمامه.
فإن قلت: ما معنى جمع الجنة وتنكيرها؟ قلت: الجنة اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين، لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان.
فإن قلت: كيف صورة جري الأنهار من تحتها؟ قلت: كما ترى الأشجار النابتة على شواطئ الأنهار الجارية. وعن مسروق: أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود. وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجاره مظللة، والأنهار في خلالها مطردة. ولولا أن الماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى، وأن الجنان والرياض وإن كانت آنق شيء وأحسنه لا تروق النواظر ولا تبهج الأنفس ولا تجلب الأريحية والنشاط حتى يجري فيها الماء، وإلا كان الأنس الأعظم فائتاً، والسرور الأوفر مفقوداً، وكانت كتماثيل لا أرواح فيها، وصور لا حياة لها، لما جاء الله تعالى بذكر الجنات مشفوعاً بذكر الأنهار الجارية من تحتها مسوقين على قرن واحد كالشيئين لا بد لأحدهما من صاحبه، ولما قدّمه على سائر نعوتها. والنهر: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر. يقال لبردى: نهر دمشق، وللنيل: نهر مصر. واللغة العالية «النهَر» بفتح الهاء.
فإن قلت: لأي غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة، وما بال ثمر الجنة لم يكن أجناساً أخر؟ قلت: لأنّ الإنسان بالمألوف آنس، وإلى المعهود أميل، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدّم معه ألف، ورأى فيه مزية ظاهرة، وفضيلة بينة، وتفاوتاً بينه وبين ما عهد بليغاً، أفرط ابتهاجه واغتباطه، وطال استعجابه واستغرابه، وتبين كنه النعمة فيه، وتحقق مقدار الغبطة به. ولو كان جنساً لم يعهده وإن كان فائقاً، حسب أنّ ذلك الجنس لا يكون إلا كذلك، فلا يتبين موقع النعمة حق التبين. فحين أبصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها في الحجم، وأن الكبرى لا تفضل عن حدّ البطيخة الصغيرة، ثم يبصرون رمّانة الجنة تشبع السكن. والنبقة من نبق الدنيا في حجم الفلكة، ثم يرون نبق الجنة كقلال هجر، كما رأوا ظل الشجرة من شجر الدنيا وقدر امتداده، ثم يرون الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعه، كان ذلك أبين للفضل، وأظهر للمزية، وأجلب للسرور، وأزيد في التعجب من أن يفاجئوا ذلك الرمان وذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما. وترديدهم هذا القول ونطقهم به عند كل ثمرة يرزقونها، دليل على تناهي الأمر وتمادي الحال في ظهور المزية وتمام الفضيلة، وعلى أنّ ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملي تعجبهم، ويستدعي تبجحهم في كل أوان...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{جنات} جمع جنة، وهي بستان الشجر والنخيل... وسميت جنة لأنها تجن من دخلها أي تستره، ومنه المجن والجنن، وجن الليل.
"وأتُوا بِهِ مُتَشابِها": قال ابن عباس: «ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء، وأما الذوات فمتباينة»...
وقال بعض المفسرين: «المعنى هذا الذي وعدنا به في الدنيا فكأنهم قد رزقوه في الدنيا إذ وعد الله منتجز».
أما قوله {ولهم فيها أزواج مطهرة} فالمراد طهارة أبدانهن من الحيض والاستحاضة وجميع الأقذار وطهارة أزواجهن من جميع الخصال الذميمة، ولاسيما ما يختص بالنساء، وإنما حملنا اللفظ على الكل لاشتراك القسمين في قدر مشترك.
قال أهل الإشارة. وهذا يدل على أنه لابد من التنبه لمسائل.
أحدها: أن المرأة إذا حاضت فالله تعالى منعك عن مباشرتها قال الله تعالى {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} فإذا منعك عن مقاربتها لما عليها من النجاسة التي هي معذورة فيها، فإذا كانت الأزواج اللواتي في الجنة مطهرات فلأن يمنعك عنهن حال كونك ملوثا بنجاسات المعاصي مع أنك غير معذور فيها كان أولى.
وثانيها: أن من قضى شهوته من الحلال فإنه يمنع الدخول في المسجد الذي يدخل فيه كل بر وفاجر، فمن قضى شهوته من الحرام كيف يمكن من دخول الجنة التي لا يسكنها إلا المطهرون ولذلك فإن آدم لما أتى بالزلة أخرج منها.
وثالثها: من كان على ثوبه ذرة من النجاسة لا تصح صلاته عند الشافعي رضي الله عنه، فمن كان على قلبه من نجاسات المعاصي أعظم من الدنيا كيف تقبل صلاته...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
فتأمل جلالة المبشر ومنزلته وصدقه، وعظمته وعظمة من أرسله إليك بهذه البشارة، وقدر ما بشرك به، وضمنه لك، على أسهل شيء عليك وأيسره، وجمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات، وما فيها من الأنهار والثمار، ونعيم النفس بالأزواج المطهرة، ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد، وعدم انقطاعه...
والأزواج: جمع «زوج». والمرأة زوج للرجل، وهو زوجها هذا هو الأفصح وهو لغة قريش. وبها نزل القرآن كقوله: {اسكن أنت وزوجك الجنة} [البقرة: 35] ومن العرب من يقول: زوجة، وهو نادر، لا يكادون يقولونه.
وأما «المطهرة»: فإن جرت صفة على الواحد، فيجرى صفة على جمع التكثير إجراء له مجرى جماعة، كقوله تعالى: {مساكن طيبة} [الصف: 12] وقولهم: وقوًى ظاهرة، ونظائره. و«المطهرة»: من طهرت من الحيض والبول والنفاس والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر، وكل أذى يكون من نساء الدنيا، فظهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة، والصفات المذمومة، وطهر لسانها من الفحش والبذاء، وطهر طرفها من أن تطمح به إلى غير زوجها، وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال، عَطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله، الذين صَدَّقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن "مثاني "على أصح أقوال العلماء... وحاصله ذكر الشيء ومقابله. وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه... فلهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار، كما وصف النار بأن وقودها الناس والحجارة، ومعنى {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أي: من تحت أشجارها وغرفها، وقد جاء في الحديث: أن أنهارها تجري من غير أخدود، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف، ولا منافاة بينهما، وطينها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر، نسأل الله من فضله [وكرمه] إنه هو البر الرحيم...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
واعلم أن معظمَ اللذاتِ الحسية لما كان مقصوراً على المساكن والمطاعم والمناكِح حسبما يقضي به الاستقراءُ، وكان ملاك جميع ذلك الدوامَ والثباتَ، إذ كلُّ نعمة وإن جلت حيث كانت في شرف الزوال ومعرِضِ الاضمحلال فإنها منغِّصةٌ غيرُ صافيةٍ من شوائب الألم، بَشَّر المؤمنين بها وبدوامها تكميلاً للبهجة والسرور، اللهم وفقنا لمراضيك، وثبتنا على ما يؤدي إليها من العقْد والعمل...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{الَّذِينَ آمَنُوا} بقلوبهم {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بجوارحهم، فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة.
ووصفت أعمال الخير بالصالحات، لأن بها تصلح أحوال العبد، وأمور دينه ودنياه، وحياته الدنيوية والأخروية، ويزول بها عنه فساد الأحوال، فيكون بذلك من الصالحين، الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.
فبشرهم {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} أي: بساتين جامعة من الأشجار العجيبة، والثمار الأنيقة، والظل المديد، [والأغصان والأفنان وبذلك] صارت جنة يجتن بها داخلها، وينعم فيها ساكنها.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي: أنهار الماء، واللبن، والعسل، والخمر، يفجرونها كيف شاءوا، ويصرفونها أين أرادوا، وتشرب منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار.
{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أي: هذا من جنسه، وعلى وصفه، كلها متشابهة في الحسن واللذة، ليس فيها ثمرة خاصة، وليس لهم وقت خال من اللذة، فهم دائما متلذذون بأكلها...
ثم لما ذكر مسكنهم، وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم، ذكر أزواجهم، فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه، وأوضحه فقال: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} فلم يقل "مطهرة من العيب الفلاني "ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق، مطهرات الخلق، مطهرات اللسان، مطهرات الأبصار، فأخلاقهن، أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن، وحسن التبعل، والأدب القولي والفعلي، ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني، والبول والغائط، والمخاط والبصاق، والرائحة الكريهة، ومطهرات الخلق أيضا، بكمال الجمال، فليس فيهن عيب، ولا دمامة خلق، بل هن خيرات حسان، مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن، وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح.
ففي هذه الآية الكريمة، ذكر المبشِّر والمبشَّر، والمبشَّرُ به، والسبب الموصل لهذه البشارة، فالمبشِّر: هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته، والمبشَّر: هم المؤمنون العاملون الصالحات، والمبشَّر به: هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات، والسبب الموصل لذلك، هو الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة، إلا بهما، وهذا أعظم بشارة حاصلة، على يد أفضل الخلق، بأفضل الأسباب.
وفيه استحباب بشارة المؤمنين، وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها [وثمراتها]، فإنها بذلك تخف وتسهل، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان، توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده البشرى عند الموت، ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهي ألوان من النعيم يستوقف النظر منها -إلى جانب الأزواج المطهرة- تلك الثمار المتشابهة، التي يخيل إليهم أنهم رزقوها من قبل -أما ثمار الدنيا التي تشبهها بالاسم أو الشكل، وأما ثمار الجنة التي رزقوها من قبل- فربما كان في هذا التشابه الظاهري والتنوع الداخلي مزية المفاجأة في كل مرة.. وهي ترسم جوا من الدعابة الحلوة، والرضى السابغ، والتفكه الجميل، بتقديم المفاجأة بعد المفاجأة، وفي كل مرة ينكشف التشابه الظاهري عن شيء جديد!
وهذا التشابه في الشكل، والتنوع في المزية، سمة واضحة في صنعة البارئ تعالى، تجعل الوجود أكبر في حقيقته من مظهره. ولنأخذ الإنسان وحده نموذجا كاشفا لهذه الحقيقة الكبيرة.. الناس كلهم ناس، من ناحية قاعدة التكوين: رأس وجسم وأطراف. لحم ودم وعظام وأعصاب. عينان وأذنان وفم ولسان. خلايا حية من نوع الخلايا الحية. تركيب متشابه في الشكل والمادة.. ولكن أين غاية المدى في السمات والشيات؟ ثم أين غاية المدى في الطباع والاستعدادات؟ إن فارق ما بين إنسان وإنسان -على هذا التشابه- ليبلغ أحيانا أبعد مما بين الأرض والسماء!
وهكذا يبدو التنوع في صنعة البارئ هائلا يدير الرؤوس: التنوع في الأنواع والأجناس، والتنوع في الأشكال والسمات، والتنوع في المزايا والصفات.. وكله.. كله مرده إلى الخلية الواحدة المتشابهة التكوين والتركيب.
فمن ذا الذي لا يعبد الله وحده، وهذه آثار صنعته، وآيات قدرته؟ ومن ذا الذي يجعل لله اندادا، ويد الإعجاز واضحة الآثار، فيما تراه الأبصار، وفيما لا تدركه الأبصار؟
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
والظاهر أن المراد بالأزواج هنا ما يعم النوعين لكمال أنس المؤمنين بهما معا، ولتبرئة الله سبحانه الصالحات من نساء الدنيا في الجنة من كل العيوب الجسدية والنفسية، وذلك تطهير لهن مما كن متلوثات به في الدنيا.
وأما اللاتي ينشأن هناك فتنشئتهن من أول الأمر مطبوعة طبع السلامة من هذه العيوب، وجاءت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحوال نساء الجنة منها الصحيح ومنها الحسن، ومنها دون ذلك، وهي صريحة في أن الاتصال بين الزوجين يتم يوم القيامة على نحو ما يكون في الدنيا، وإن كان أكمل في اللذة وأبعد من الأذى... والحق أن الحكمة في ذلك معروفة، وهي لذة الاتصال بين الجنسين كما صرحت به الأحاديث النبوية، وأومت إليه الآيات القرآنية،
والإِنسان يوم القيامة لا يتحول عن إنسانيته، وقد وفر الله لعباده المؤمنين في دار كرامته جميع ما تتوق إليه أنفسهم في الدنيا من متع الحياة ونعيمها، فما يؤتونه في الدنيا إنما هو بقدر هذه الحياة المحدودة، وبقدر طبيعتها المقيدة التي تختلف تمام الاختلاف عن طبيعة الحياة الأخروية المطلقة، فالفارق بين لذات الدارين كالفارق بين البقاء فيهما...
وبما أن النعمة وإن كملت، واللذة وإن تناهت -إن لم يأمن صاحبهما زوالهما كان ذلك من أشد المنغصات عليه- جيء هنا بما يستأصل هذا الخوف وهو إثبات خلودهم في الجنة ونعيمها، فالحياة الأخروية لا انقطاع لها، ولا يكدر أمنها خوف، ولا يهدد شبابها هرم، ولا صحتها سقم، ولا غناها فقر، ولا نعيمها بؤس، والخلد يطلق على المكث الدائم الذي لا ينقطع...