ثم وبخ - سبحانه - أولئك الذين لم ينتفعوا بآياته فقال : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ . . . } .
والهمزة للاستفهام الإنكارى التوبيخى ، والفاء للعطف على مقدر . . .
والمعنى : أبلغت الغفلة والجهالة بهؤلاء المشركين ، أنهم لم يتبين لهم ، أننا أهلكنا كثيرا من أهل القرون الماضية ، الذين كانوا يمشون آمنين لاهين فى مساكنهم . . .
وكان إهلا كنا لهم بسبب إيثارهم الكفر على الإيمان ، والغى على الرشد ، والعمى على الهدى . . .
فالآية الكريمة تقريع وتوبيخ لكفار مكة الذين لم يعتبروا بما أصاب أمثالهم من الأمم السابقة ، كقوم نوح وعاد وثمود . . .
قال الآلوسى : وقوله : { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } حال من { القرون } أو من مفعول { أَهْلَكْنَا } أى : أهلكناهم وهم فى حال آمن وتقلب فى ديارهم . واختار بعضهم كونه حالا من الضمير فى { لَهُمْ } مؤكدا للإنكار والعامل فيه { يَهْدِ } . أى : أفلم يهد للمشركين حال كونهم ماشين فى مساكنهم من أهلكنا من القرون السالفة من أصحاب الحجر ، وثمود ، وقوم لوط ، مشاهدين لآثار هلاكهم إذا سافروا إلى بلاد الشام وغيرها .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى } تذييل قصد به تعليل الإنكار ، أى : إن فى ذلك الذى أخبرناهم به ، وأطلعناهم عليه من إهلاك المكذبين السابقين ، { لآيَاتٍ } عظيمة ، وعبر كثيرة ، ودلائل واضحة لأصحاب العقول السليمة ، التى تنهى أصحابها عن القبائح والآثام .
والنهى : جمع نُهية - بضم النون وإسكان الهاء - سمى العقل بها لنهيه عن القبائح .
يقول تعالى : { أَفَلَمْ يَهْدِ } لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به : يا محمد ، كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم ، فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر ، كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها ، يمشون فيها ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى } أي : العقول الصحيحة والألباب المستقيمة ، كما قال تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] ، وقال في سورة " الم السجدة " : { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ } [ السجدة : 26 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لاُوْلِي النّهَىَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أفلم يهد لقومك المشركين بالله ، ومعنى يهد : يبين . يقول : أفلم يبين لهم كثرة ما أهلكنا قبلهم من الأمم التي يمشون في مساكنهم ودورهم ، ويرون آثار عقوباتنا التي أحللناها بهم سوء مغبة ما هم عليه مقيمون من الكفر بآياتنا ، ويتعظوا بهم ، ويعتبروا ، وينيبوا إلى الإذعان ، ويؤمنوا بالله ورسوله ، خوفا أن يصيبهم بكفرهم بالله مثل ما أصابهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " كَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ القُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ " لأن قريشا كانت تتجر إلى الشأم ، فتمرّ بمساكن عاد وثمود ومن أشبههم ، فترى آثار وقائع الله تعالى بهم ، فلذلك قال لهم : أفلم يحذّرهم ما يرون من فعلنا بهم بكفرهم بنا نزول مثله بهم ، وهم على مثل فعلهم مقيمون . وكان الفرّاء يقول : لا يجوز في كم في هذا الموضع أن يكون إلا نصبا بأهلكنا وكان يقول : وهو وإن لم يكن إلا نصبا ، فإن جملة الكلام رفع بقوله : يَهْدِ لَهُمْ ويقول : ذلك مثل قول القائل : قد تبين لي أقام عمرو أم زيد في الاستفهام ، وكقوله " سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أدَعَوْتُمُوهُمْ أمْ أنْتُمْ صَامِتُونَ " ، ويزعم أن فيه شيئا يرفع سواء لا يظهر مع الاستفهام ، قال : ولو قلت : سواء عليكم صمتكم ودعاؤكم تبين ذلك الرفع الذي في الجملة وليس الذي قال الفرّاء من ذلك ، كما قال : لأن كم وإن كانت من حروف الاستفهام فإنها لم تجعل في هذا الموضع للاستفهام ، بل هي واقعة موقع الأسماء الموصوفة . ومعنى الكلام ما قد ذكرنا قبل وهو : أفلم يبين لهم كثرة إهلاكنا قبلهم القرون التي يمشون في مساكنهم ، أو أفلم تهدهم القرون الهالكة . وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «أفَلَمْ يَهْدِ لَهَمْ مَنْ أهْلَكْنا » فكم واقعة موقع من في قراءة عبد الله ، هي في موضع رفع بقوله : يَهْدِ لَهُمْ وهو أظهر وجوهه ، وأصحّ معانيه ، وإن كان الذي قاله وجه ومذهب على بعد .
وقوله : " إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لأُولي النّهَى " يقول تعالى ذكره : إن فيما يعاين هؤلاء ويرون من آثار وقائعنا بالأمم المكذّبة رسلها قبلهم ، وحلول مُثْلاتنا بهم لكفرهم بالله لاَياتٍ يقول : لدلالات وعبرا وعظات لأُولي النّهَى يعني : لأهل الحجى والعقول ، ومن ينهاه عقله وفهمه ودينه عن مواقعة ما يضره . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " لأُولي النّهَى " يقول : التقى .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لأُولي النّهَى " أهل الورع .
{ أفلم يهد لهم } مسند إلى الله تعالى أو الرسول أو ما دل عليه . { كم أهلكنا قبلهم من القرون } أي إهلاكنا إياهم أو الجملة بمضمونها ، والفعل على الأولين معلق يجري مجرى أعلم ويدل عليه القراءة بالنون . { يمشون في مساكنهم } ويشاهدون آثار هلاكهم . { إن في ذلك لآيات لأولي النهى } لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي .
ثم ابتدأ يوبخهم ويذكرهم العبر بقوله { أفلم يهدِ لهم } وقرأت فرقة «يهد » بالياء بمعنى يتبين ، واختلفت هذه الفرقة في الفاعل فقال بعضها الفاعل { كم } وهذا قول كوفي . ونحاة البصرة لا يجيزونه لأن «كم » لها صدر الكلام ، وفي قراءة ابن مسعود «أفلم يهد لهم من أهلكنا » فكأن هذه القراءة تناسب ذلك التأويل في { كم } وقال بعضهم الفاعل الله عز وجل .
والمعنى { أفلم يهد لهم } ما جعل الله لهم من الآيات والعبر فأضاف الفعل إلى الله عز وجل بهذا الوجه قاله الزجاج ، وقال بعضهم الفاعل مقدر الهدى أو الأمر .
قال أبو محمد رحمه الله :أو النظر أو الاعتبار ، وهذا أحسن ما يقدر به عندي{[8176]} ، وقرأت فرقة «نهد » بالنون وهذه القراءة تناسب تأويل من قال في التي قبلها الفاعل الله تعالى . و { كم } على هذه الأقوال نصب ب { أهلكنا } ، ثم قيد { القرون } بأنهم يمشي هؤلاء الكفرة { في مساكنهم } فإنما أراد عاداً أو ثمود أو الطوائف التي كانت قريش تجوز على بلادهم في المرور إلى الشام وغيره ، وقرأت فرقة «يمشون » بفتح الياء ، وقرأت فرقة «يُمشّون » بضم الياء وفتح الميم وشد الشين ، و { النهى } جمع نهية وهو ما ينهى الإنسان عن فعل القبيح .