ثم صور - سبحانه - أحوال المجرمين عندما يرون مصيرهم السيئ فقال - تعالى - : { وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } .
والمراد بالكتاب : جنسه ، فيشمل جميع الصحف التى كتبت فيها أعمال المكلفين فى دار الدنيا .
أى : وأحضرت صحائف أعمال العباد ، ووضعت فى ميزانهم { فترى } - أيها المخاطب - { المجرمين } كافة ، مشفقين ، خائفين ، مما فيه من جرائم وذنوب { ويقولون } على سبيل التفجع والتحسر عند معاينتهم لثقل ميزان سيئاتهم ، وخفة ميزان حسناتهم .
{ يا ويلتنا } . والويلة : الهلاك وحلول الشر والقبح والحسرة ، وهو - أى لفظ الويلة - : مصدر لا فعل له من لفظه .
وهذا النداء على التشبيه بشخص يطلب إقباله .
أى : ويقولون بأسف وندامة وحسرة : يا هلاكنا أقبل فهذا أوان إقبالك .
ثم يقولون على سبيل التعجب والدهشة من دقة ما اشتمل عليه هذا الكتاب : { مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } ؟
أى : أى شئ ثبت لهذا الكتاب ، حيث نراه لا يترك معصية صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها علينا ، وسجلها فى صحف أعمالنا .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على شمول علمه . ونفاذ قدرته وكمال عدله ، فقال : { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } .
أى : ووجدوا ما عملوه فى الدنيا حاضرا ومسطورا فى صحائف أعمالهم ، ولا يظلم ربك أحدا من العباد ، وإنما يجازى كل إنسان على حسب ما يستحقه من ثواب أو عقاب كما قال - سبحانه - : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } وكما قال - عز وجل - : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } قال الإِمام ابن كثير وقوله : { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } أى : فيحكم بين عباده فى أعمالهم جميعها ، ولا يظلم أحدا من خلقه ، بل يغفر ويصفح ويرحم ، ويعذب من يشاء ، بقدرته وحكمته وعدله .
وقوله : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ } أي : كتاب الأعمال ، الذي فيه الجليل والحقير ، والفتيل والقطمير ، والصغير والكبير { فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } أي : من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة ، { وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا } أي : يا حسرتنا وويلنا{[18236]} على ما فرطنا في أعمارنا { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا } أي : لا يترك ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا ولا عملا وإن صغر { إِلا أَحْصَاهَا } أي : ضبطها ، وحفظها .
وروى الطبراني ، بإسناده المتقدم في الآية قبلها ، إلى سعد ابن جنادة قال : لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حُنَيْن ، نزلنا قفرًا من الأرض ، ليس فيه شيء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اجمعوا ، من وجد عُودًا فليأت به ، ومن وجد حطبًا أو شيئًا فليأت به . قال : فما كان إلا ساعة حتى جعلناه رُكامًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أترون هذا ؟ فكذلك تُجْمَع الذنوب على الرجل منكم كما جَمَعْتُم هذا . فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، فإنها مُحْصَاة عليه " {[18237]}
وقوله : { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } أي : من خير أوشر كما قال تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } [ آل عمران : 30 ] ، وقال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] وقال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] أي : تظهر المخبآت والضمائر .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل غادر لواء يومَ القيامة [ يعرف به " {[18238]} .
أخرجاه في الصحيحين ، وفي لفظ : " يُرْفَع لكل غادر لواء يومَ القيامة ]{[18239]} عند استه بقدر غَدْرته ، يقال : هذه غَدْرَة فلان بن فلان " {[18240]}
وقوله : { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } أي : فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعًا ، ولا يظلم أحدا من خلقه ، بل يعفر{[18241]} ويصفح ويرحم ويعذب من يشاء ، بقدرته وحكمته وعدله ، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي ، [ ثم ينجي أصحاب المعاصي ]{[18242]} ويُخلَّد فيها الكافرون{[18243]} وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم ، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 40 ] وقال : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] والآيات في هذا{[18244]} كثيرة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا همام بن يحيى ، عن القاسم بن عبد الواحد المكي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتريت بعيرًا ثم شددت عليه رَحْلي ، فسرت عليه شهرًا ، حتى قدمت عليه الشام ، فإذا عبد الله بن أنيس{[18245]} فقلت للبواب : قل له : جابر على الباب . فقال : ابن عبد الله ؟ فقلت : نعم . فخرج يطأ ثوبه ، فاعتنقني واعتنقته ، فقلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص ، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسَمَعه فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحشُر الله ، عز وجل الناس يوم القيامة - أو قال : العبادَ - عُرَاةَ غُرْلا بُهْمًا " قلت : وما بهمًا ؟ قال : " ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد ، كما يسمعه من قَربَ : أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ، وله عند أحد من أهل الجنة حق ، حتى أقصه{[18246]} منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، وله عند رجل من أهل النار حق ، حتى أقصه{[18247]} منه حتى اللطمة " . قال : قلنا : كيف ، وإنما نأتي الله ، عز وجل ، حفاة عُراة غُرْلا بُهْمًا ؟ قال : بالحسنات والسيئات " {[18248]} .
وعن شعبة ، عن العوام بن مُزَاحم ، عن أبي عثمان ، عن عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الجَمَّاء لتقتص من القرناء يوم القيامة " {[18249]} رواه عبد الله بن الإمام أحمد وله شواهد من وجوه أخر ، وقد ذكرناها عند قوله : { وَنَضَعُ{[18250]} الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا } [ الأنبياء : 47 ] وعند قوله تعالى : { إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [ الأنعام : 38 ]
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.