التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا} (25)

ثم بين - سبحانه - المصير السيئ الذى انتهى إليه الكافرون فقال : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } .

أى : ورد الله - تعالى - بفضله وقدرته الذين كفروا عنكم - أيها المؤمنون - حالة كونهم متلبسين بغيظهم وحقدهم . دون أن ينالوا أى خير من إتيانهم إليكم ، بل رجعوا خائبين خاسرين .

فقوله { بِغَيْظِهِمْ } حال من الموصول ، والباء للملابسة ، وجملة { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } حال ثانية من الموصول أيضاً .

وقوله : { وَكَفَى الله المؤمنين القتال } بيان للمنة العظمى التى امتن بها - سبحانه - عليهم .

أى : وأغنى الله - تعالى - بفضله وإحسانه المؤمنين عن متاعب القتال وأهواله بأن أرسل على جنود الأحزاب ريحا شديدة ، وجنودا من عنده .

{ وَكَانَ الله } - تعالى - { قَوِيّاً } على إحداث كل أمر يريده { عَزِيزاً } أى : غالبا على كل شئ .

قال ابن كثير : وفى قوله { وَكَفَى الله المؤمنين القتال } إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش . وهكذا وقع بعدها . لم يغزهم المشركون ، بل غزاهم المسلمون فى بلادهم .

" قال محمد بن إسحق : لما انصرف أهل الخندق عن الخندق ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا : " لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنكم تغزونهم " فلم تغز قريش بعد ذلك المسلمين ، وكان صلى الله عليه وسلم هو الذى يغزوهم بعد ذلك ، حتى فتح الله عليه مكة .

وروى الإِمام أحمد " عن سليمان بن صرد قال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : " الآن نغزوهم ولا يغزونا " " .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا} (25)

يقول تعالى مخبرًا عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة ، بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية ، ولولا أن جعل الله رسوله رحمة للعالمين ، لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم على عاد ، ولكن قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ] } {[23299]} [ الأنفال : 33 ] ، فسلط عليهم هواء فرق شملهم ، كما كان سبب اجتماعهم من الهَوَى ، وهم أخلاط من قبائل شتى ، أحزاب وآراء ، فناسب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرق جماعتهم ، وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحَنَقهم ، لم ينالوا خيرًا لا في الدنيا ، مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم ، ولا في الآخرة بما تحملوه{[23300]} من الآثام في مبارزة الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بالعداوة ، وهمهم بقتله ، واستئصال جيشه ، ومَنْ هَمّ بشيء وصَدق هَمَّه بفعله ، فهو في الحقيقة كفاعله .

وقوله : { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } أي : لم يحتاجوا{[23301]} إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم ، بل كفى الله وحده ، ونصر عبده ، وأعزَّ جنده ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[23302]} لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعزَّ جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده " . أخرجاه من حديث أبي هريرة {[23303]} .

وفي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد الله بن أبي أوْفى قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال : " اللهم منزل الكتاب ، سريع الحساب ، اهزم الأحزاب . اللهم ، اهزمهم وزلزلهم " {[23304]} . وفي قوله : { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } : إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش ، وهكذا وقع بعدها ، لم يغزهم المشركون ، بل غزاهم المسلمون في بلادهم .

قال محمد بن إسحاق : لما{[23305]} انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا : " لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنكم تغزونهم " فلم تغز{[23306]} قريش بعد ذلك ، وكان هو يغزوهم بعد ذلك ، حتى فتح الله عليه مكة .

وهذا الحديث الذي ذكره محمد بن إسحاق{[23307]} حديث صحيح ، كما قال{[23308]} الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثني أبو إسحاق قال : سمعت سليمان بن صُرَد يقول :{[23309]} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : " الآن نغزوهم ولا يغزونا " .

وهكذا رواه البخاري في صحيحه ، من حديث الثوري وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، به{[23310]} .

وقوله تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } أي : بحوله وقوته ، ردهم خائبين ، لم ينالوا خيرًا ، وأعز الله الإسلام وأهله وصدق وعده ، ونصر رسوله وعبده ، فله الحمد والمنة .

قد تقدم أن بني قريظة لما قدمت جنود الأحزاب ، ونزلوا على المدينة ، نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد ، وكان ذلك بسفارة حُيَيّ بن أخطب النَّضَري - لعنه الله - دخل حصنهم ، ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد ، وقال له فيما قال : ويحك ، قد جئتك بعز الدهر ، أتيتك بقريش وأحابيشها ، وغطفان وأتباعها ، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه . فقال له كعب : بل والله أتيتني بذُلِّ الدهر . ويحك يا حيي ، إنك مشؤوم ، فدعنا{[23311]} منك . فلم يزل يفتل في الذِّروة والغَارب حتى أجابه ، واشترط له حُيي{[23312]} إن ذهب الأحزاب ، ولم يكن من أمرهم شيء ، أن يدخل معهم في الحصن ، فيكون له{[23313]} أسوتهم . فلما نَقَضت قريظةُ ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ساءه ، وَشَقَّ عليه وعلى المسلمين جدًّا ، فلما أيد الله ونَصَر ، وكبت الأعداء وردَّهم خائبين بأخسر صفقة ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيدا منصورا ، ووضع الناس السلاح . فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل{[23314]} من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة إذ تبدى له جبريل معتجرا بعمامة من إستبرق ، على بغلة عليها قطيفة [ من ]{[23315]} ديباج ، فقال : أوضَعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : " نعم " . قال : لكن الملائكة لم تضع أسلحتها ، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم . ثم قال : إن الله يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة . وفي رواية فقال له : عذيرَك من مقاتل ، أوضعتم السلاح ؟ قال : " نعم " . قال : لكنا لم نضع أسلحتنا بعد ، انهض إلى هؤلاء . قال : " أين ؟ " . قال : بني قريظة ، فإن الله أمرني أن أزلزل عليهم . فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره ، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة ، وكانت على أميال من المدينة ، وذلك بعد صلاة الظهر ، وقال : " لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة " . فسار الناس ، فأدركتهم الصلاة في الطريق ، فصلى بعضهم في الطريق وقالوا : لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل السير ، وقال آخرون : لا نصليها إلا في بني قريظة . فلم يُعَنِّف واحدا من الفريقين . وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب . ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، فلما طال عليهم الحال ، نزلوا على حكم سعد بن معاذ - سيد الأوس - لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية ، واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك ، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع ، حين استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك ، ولم يعلموا أن سعدا ، رضي الله عنه ، كان قد أصابه سهم في أكحَله أيام الخندق ، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله ، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب . وقال سعد فيما دعا به : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها . وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها ولا تمتني حتى تُقرّ عيني من بني قريظة . فاستجاب الله دعاءه ، وقَدّر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم طلبا من تلقاء أنفسهم ، فعند ذلك استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم ، فلما أقبل وهو راكب [ على حمار ]{[23316]} قد وطَّؤوا له عليه ، جعل الأوس يلوذون به ويقولون : يا سعد ، إنهم مواليك ، فأحسن فيهم . ويرققونه عليهم ويعطفونه ، وهو ساكت لا يرد عليهم . فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم . فعرفوا أنه غير مستبقيهم ، فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قوموا إلى سيدكم " . فقام إليه المسلمون ، فأنزلوه إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته ، ليكون أنفذ لحكمه فيهم . فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هؤلاء - وأشار إليهم - قد نزلوا على حكمك ، فاحكم فيهم بما شئت " . قال : وحكمي نافذ عليهم ؟ قال : " نعم " . قال : وعلى مَنْ في هذه الخيمة ؟ قال : " نعم " . قال : وعلى مَنْ هاهنا . - وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا{[23317]} وإكرامًا وإعظامًا - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم " . فقال : إني أحكم أن تقتل مُقَاتلتهم ، وتُسبْى ذريتهم وأموالهم . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " {[23318]} . وفي رواية : " لقد حكمتَ بحكم المَلك " . ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فَخُدّت في الأرض ، وجيء بهم مكتفين ، فضرب أعناقهم ، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة ، وسبى مَنْ لم يُنبت منهم مع النساء وأموالهم{[23319]} ، وهذا كله مقرر مفصل بأدلته وأحاديثه وبسطه في كتاب السيرة ، الذي أفردناه موجزا ومقتصَّا{[23320]} . ولله الحمد والمنة . ولهذا قال تعالى : { وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ }


[23299]:- زيادة من أ.
[23300]:- في ت: "مما عملوا".
[23301]:- في أ: "لم تحتاجوا".
[23302]:- في ت: "ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول".
[23303]:- صحيح البخاري برقم (4114) وصحيح مسلم برقم (2724) باختلاف في اللفظ.
[23304]:- صحيح البخاري برقم (2933) وصحيح مسلم برقم (1742).
[23305]:- في ت ، ف: "فلما".
[23306]:- في أ: "تعد".
[23307]:- في ت: "وهذا الذي ذكره ابن إسحاق".
[23308]:- في ت: "رواه".
[23309]:- في ت: "قال".
[23310]:- المسند (4/262) وصحيح البخاري برقم (4109).
[23311]:- في ت: "دعنا".
[23312]:- في أ: "حتى".
[23313]:- في ت: "لهم".
[23314]:- في ت: "يغسل رأسه".
[23315]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
[23316]:- زيادة من ت ، ف ، والبداية والنهاية.
[23317]:- في ت: "إجلالا له".
[23318]:- رواه ابن إسحاق في السيرة كما في البداية والنهاية (4/123) من طريق عاصم بن عمر ، عن عبد الرحمن بن عمر ، عن علقمة بن وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ، وأظن في السند خطأ. ورواه ابن سعد في الطبقات (3/426) من طريق محمد بن صالح التمار ، عن سعد بن إبراهيم ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه سعد بن أبي وقاص مرفوعا بلفظ: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات" ، وأصله في صحيح البخاري من دون قوله: "فوق سبع سموات" برقم (3043) من حديث أبي سعيد الخدري.
[23319]:- السيرة النبوية لابن هشام (2/239).
[23320]:- في ت ، ف ، أ: "وبسيطا".