ثم بين - سبحانه - حكما آخر فقال : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } .
أى واللذان يأتيان فاحشة الزنا من رجالكم ونسائكم فآذوهما بالشتم والتوبيخ والزجر الشديد ليندما على ما فعلا وليرتدع سواهما بهما .
وقد اختلف العلماء فى المراد بقوله { واللذان } .
فمنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة البكران اللذان لم يحصنا .
ومنهم من قال المراد بهما الرجلان يفعلان اللواط .
ومنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة لا فرق بين بكر وثيب .
والمختار عند كثير من العلماء هو الرأى الأول ، قالوا : لأن الله - تعالى - ذكر فى هاتين الآيتين حكمين :
والثاني : الإِيذاء ، ولا شك أن من حكم عليه بالأول خلاف من حكم عليه بالثاني ، والشرع يخفف فى البكر ويشدد على الثيب ، ولذلك لما نسخ هذا الحكم جعل للثيب الرجم وللبكر الجلد ، فجعلنا الحكم الشديد وهو الحبس على الثيب ، والحكم الأخف وهو الإِيذاء على البكر .
قالوا : وقد نسخ حكم هذه الآية بآية النور ، حيث جعل حكم الزانيين اللذين لم يحصنا جلد مائة .
فقد أخرجه ابن جرير عن الحسن البصرى وعكرمة قالا فى قوله - تعالى - { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } الآية ، نسخ ذلك بآية الجلد وهى قوله - تعالى - فى سورة النور : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية .
ومن العلماء من قال بأن هذه الآية غير منسوخة بآية النور ، فإن العقوبة ذكرت هنا مجملة غير واضحة المقدار لأنا مجرد الإِيذاء ، وذكرت بعد ذلك مفصلة بينة المقدار فى سورة النور . أى أن ما ذكر هنا من قبيل المجمل ، وما ذكر فى سورة النور من قبيل المفصل ، وأنه لا نسخ بين الآيتين .
هذا ، ولأبى مسلم الأصفهاني رأى آخر فى تفسير هاتين الآيتين ، فهو يرى أن المراد باللاتى فى قوله { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } النساء السحاقات اللاتى يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس ، والمراد بقوله { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } اللائطون من الرجال وحدهم الإِيذاء وأما حكم الزناة فسيأتى فى سورة النور .
قال الآلوسى : وقد زيف هذا القول بأنه لم يقل به أحد ، وبأن الصحابة قد اختلفوا فى حكم اللوطى ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية ، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست فى ذلك .
وأيضا جعل الحبس فى البيت عقوبة السحاق لا معنى له . لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا . فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهن ببعض لا الحبس والمنع من الخروج . وحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد باللاتى يأتين الفاحشة الزانيات . . .
والذى نراه أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين منسوخ ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة .
أما الكتاب فهو قوله - تعالى - فى سورة النور { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية .
وأما السنة فحديث عباده بن الصامت الذى سبق ذكره .
وإنما قلنا ذلك لأن ظاهر الآيتين يدل على أن ما ذكر فيهما من الحبس والإِيذاء بعد نزول آية سورة النور . بل الثابت عنه أنه كان يجلد البكر من الرجال والنساء ، ويرجم المحصن منهما ، ولم يضم إلى إحدى هاتين العقوبتين حبسا أو إيذاء ، فثبت أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين قد نسخ .
ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا أقلع الزانى والزانية عن جريمتهما فقال : { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } .
أى فإن تابا فعلا من الفاحشة ، وأصلحا أعمالهما { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ } أى فاصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما { إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً } أى مبالغا فى قبول التوبة ممن تاب توبة صادقة نصوحا { رَّحِيماً } أى واسع الرحمة بعباده الذين لا يصرون على معصية بل يتوبون إليه منها توبة صادقة .
وقوله : { وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا } أي : واللذان يأتيان{[6790]} الفاحشة فآذوهما . قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير وغيرهما : أي بالشتم والتعيير ، والضرب بالنعال ، وكان الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم .
وقال عكرمة ، وعطاء ، والحسن ، وعبد الله بن كثير : نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا .
وقال السدي : نزلت في الفتيان قبل أن يتزوجوا .
وقال مجاهد : نزلت في الرجلين إذا فعلا لا يكنى ، وكأنه يريد اللواط ، والله أعلم .
وقد روى أهل السنن ، من حديث عمرو بن أبي عمرو ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ رأيتُمُوه يَعَمَلُ عَمَل قَوْمِ لُوطٍ فاقتلوا الفاعلَ والمفعول بِهِ " {[6791]}
وقوله : { فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا } أي : أقلعا ونزعا عما كانا عليه ، وصَلُحت أعمالهما وحسنت { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } أي : لا تُعَنِّفُوهما بكلام قَبِيح بعد ذلك ؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له { إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا } وقد ثبت في الصحيحين " إذا زَنَتْ أمَة أحدكُم فَلْيَجْلدْها الحدَّ ولا يُثَرِّبْ عليها " أي : ثم لا يُعَيِّرُهَا بما صَنَعتْ بعد الحد ، الذي هو كفارة لما صَنَعتْ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.