ثم بين - سبحانه - ما ينبغي اتباعه عند حصول الطلاق وإمضائه حتى لا يقع ظلم أو جور فقال - تعالى - : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف } .
قال القرطبي : تعضلوهن معناه تحبسوهن ، ودجاجة معضل أي : قد احتبس بيضها ، وقيل : العضل التضييق والمنع وهو راجع إلى معنى الحبس . يقال : أعضل الأمر : إذا ضاقت عليك فيه الحيل . قال الأزهري : وأصل العضل من قولهم : عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه ويقال أعضل الأمر إذا اشتد ، وداء عضال أي شديد عسر البرء أعيا الأطباء . . . " .
والمعنى : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن أي : انقضت عدتهن وخلت الموانع من زواجهن ، فلا تمنعوهن من الزواج بمن يردن الزواج به ، متى حصل التراضي بين الأزواج والزوجات على ما يحسن في الدين ، وتقره العقول السليمة ، ويجري به العرف الحسن .
والمراد ببلوغ الآجل هنا بلوغ أقصى العدة ، بخلاف البلوغ في الآية التي قبل هذه ، فإن المراد به المشارفة والمقاربة كما أشرنا من قبل لأن المعنى يحتم ذلك ، والخطاب هنا للأزواج وللأولياء ولكل من له تأثير على المرأة المطلقة ، وذلك لأن منع الزوجة من الزواج بعد انقضاء عدتها قد يكون من جانب الزوج السابق ، لا سيما إذا كان صاحب جاه وسلطان وسطوة ، فإنه يعز عليه أن يتزوج مطلقته أحد بعده فيمنعها من الزواج .
وقد يكون المنع من جانب الأولياء ، وقد أورد المفسرين آثاراً تشهد لذلك منها - كما يقول الآلوسي - ما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود من طرق شتى عن معقل بن يسار قال : كان لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه ، فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقه ، ولم يراجعها حتحى انقضت العدة ، فهويها وهوته ثم خطبها مع الخطاب . فقلت له : أكرمتك بها وزوجتكما فطلقتها ثم جئت تخطبها ، والله لا ترجع إليك أبداً ، وكان رجلا لا بأس به ، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه ، فعلم الله - تعالى - حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل هذه الآية . ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه . . " .
وعبر - سبحانه - عن الرجال الذين هم محل الرضا من النساء بالأزواج فقال { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } مع أن الزواج لم يتحقق بعد ، للإِشارة إلى الحقيقة المقررة الثابتة ، وهي أن من يقع اختيارها عليه ، ولم يكن اقترانها به فيه ما يشينها أو يشين أسرتها ، فمن الواجب ألا يمانع أحد في إتمام هذا الزواج ، بل على الجميع أن يقروه وينفذوه ، لأن شريعة الله والفطرة الإِنسانية يقضيان بذلك .
وقوله : { أَن يَنكِحْنَ } تقديره : من أن ينكحن فهو في محل جر عند الخليل والكسائي وفي محل نصب عند غيرهما ، وقوله : { إِذَا تَرَاضَوْاْ } ظرف لأن ينكحن أو لقوله : { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } وقوله : { بالمعروف } متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل تراضوا ، أو هو نعت لمصدر محذوف أي تراضياً كائناً بالمعروف أو هو متعلق بتراضوا . أي تراضوا بما يحسن في الدين والمروءة ، وفيه إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفء أو بما دون مهر المثل ليس من العضل المنهي عنه .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .
أي : ذلك القول الحكين ، والتوجيه الكريم المشتمل على أفضل الأحكام وأسماها يوعظ به ، ويستجيب له من كان منكم عميق الإِيمان بالله - تعالى - وبثوابه وبعقابه يوم القيامة . لذكلم الذي شرعه الله لكم - أيها المؤمنون - من ترك عضل النساء والإِضرار بهن وغير ذلك من الأحكام { أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } أي أعظم بركة ونفعاً ، وأكثر تطهيراً من دنس الآثام ، فإن المرأة إذا عوملت معاملة كريمة ، ولم تظلم في رغباتها المشروعة ، التمزمت في سلوكها العفاف والخلق الشريف ، أما إذا شعرت بالظلم والامتهان فإن هذا الشعور قد يدفعها إلى ارتكاب ما نهى الله عنه .
والله تعالى يعلم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، فامتثلوا ما أمركم به واجتنبوا ما نهاكم عنه تفوزوا وتسعدوا .
والإِشارة بقوله : { ذلك } إلى ما فصل من أحكام وما أمر به من أفعال والخطاب لكل من يصلح للخطاب من المكلفين .
وخصص الوعظ بالمؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون به ، وترق معه قلوبهم وتخشع له نفوسهم .
وأتى - سبحانه - بضمير الجمع { ذلكم } بعد أن قال في صدر الجملة { ذلك } للإشارة إلى أن حماية المرأة من الهوان ومنع التضييق عليها في اختيار زوجها واجب على جميع المؤمنين ، وأن فائدة ذلك ستعود عليهم جميعاً ما دام هذا الاختيار في حدود الآداب التي جاء بها الإِسلام .
وقوله : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } رد على كل معترض على تطبيق شريعة الله ، أو متهاون في ذلك بدعوى أنها ليست صالحة للظروف التي يعيش ذلك المعترض أو هذا المتهاون فيها ، لأن شرع الله فيه النفع الدائم والمصلحة الحقيقية ، والنتائج المرضية ، لأنه شرع من يعلم كل شيء ولا يجهل شيئاً ، ويعلم ما هو الأنفع والأصلح للناس في كل زمان ومكان ، ولم يشرع لهم - سبحانه - إلا ما فيه مصلحتهم ومنفعتهم ، وما دام علم الله - تعالى - هو الكامل ، وعلم الإِنسان علم قاصر ، فعلينا أن نتبع شرع الله في كل شئوننا ، ولنقل لأولئك المعترضين أو المتهاونين : سيروا معنا في طريق الحق فذلكم { أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .
وبعد : فهذه خمس آيات قد تحدثت عن جملة من الأحكام التي تتعلق بالطلاق ، وإذا كان الإِسلام قد شرع الطلاق عند الضرورة التي تحتمها مصلحة الزوجين ، فإنه في الوقت نفسه قد وضع كثيراً من التعاليم التي يؤدي اتباعها إلا الإبقاء على الحياة الزوجية ، وعلى قيامها على المودة والرحمة ، ومن ذلك :
1 - أنه أرشد أتباعه إلى أفضل السبل لاختيار الزوج ، بأن جعل أساس الاختيار الدين والتقوى والخلق القويم ، لأنه متى كان كل من الزوجين متحلياً بالإِيمان والتقوى ، استقرت الحياة الزوجية بينهما ، وقامت على المودة والرحمة وحسن المعاشرة .
2 - أنه أمر كلا الزوجين بأن يبذل كل واحد منهما قصارى جهده في أداء حق صاحبه ، وإدخال السرور على نفسه ، فإذا ما نجم خلاف بينهما فعليهما أن يعالجاه بالحكمة والعدل ، وأن يجعلا الأناة والصبر رائدهما ، فإن الحياة الزوجية بحكم استمرارها وتشابك مطالبها لا تخلو من اختلاف بين الزوجين .
3 - دعا الإِسلام إلى الإِصلاح ما بين الزوجين إن ابتدأت العلاقة تسير في غير طريق المودة ، فقال - تعالى - { وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً والصلح خَيْرٌ . . . } كما دعا أولى الأمر أن يتدخلوا للإِصلاح بين الزوجين عند نشوب الشقاق بينهما أو عند خوفه فقال - تعالى - { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } .
4 - نهى الإِسلام عن إيقاع الطلاق على الزوجة في حال حيضها ، أو في حال طهر باشرها فيه ، لأن المرأة في هاتين الحالتين قد تكون على هيئة لا تجعل الرجل مشوقاً إليها . . .
وأباح له أن يوقع الطلاق في طهر لم يجامعها فيه ، لأن إيقاعه في هذه الحالة يكون دليلا على استحكم النفرة بينهما .
5 - نهى الإِسلام عن الطلاق البات بالنسبة للمرأة المدخول بها ، وأمر الزوج بأن يجعل طلاقه رجعياً ، وأعطاه فرصة طويلة تقرب من ثلاثة أشهر ليراجع خلالها نفسه ، فإن وجد الخير في مراجعة زوجته راجعها بقصد الإِصلاح واستمرار الحياة الزوجية ، وإن وجد الخير في غير ذلك تركها حتى تنقضي عدتها وفارقها بالمعروف عملا بقوله - تعالى - : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } .
6 - جعل الإِسلام الطلاق بيد الرجل ، لأنه هو الذي وقعت عليه معظم أعباء الزواج ، وهو الذي سيتحمل ما سيترتب على الطلاق من تكاليف ، ولا شك أنه بمقتضى هذه التكاليف وبمقتضى حرصه على استقرار حياته ، سيتأنَّى ويتروى فلا يوقع الطلاق إلا إذا كان مضطراً إلى ذلك .
كما أن الإِسلام أباح للمرأة أن تفتدي نفسها من زوجها ، أو ترفع أمرها للقاضي ليفرق بينها وبينه إذال تيقنت من استحالة استمرار الحالة الزوجية بينهما لأي سبب من الأسباب . وفي هذه الحالة فللقاضي أن يفرق بينهما إذا رأى أن المصلحة تقتضي ذلك .
7 - أباح الإِسلام للرجل الذي طلق امرأته ثلاثاً أن يعود إليها من جديد ، وذلك بعد طلاقها من رجل آخر يكون قد تزوجها زواجاً شرعياً وانقضت عدتها منه ، وفي ذلك ما فيه من التأديب لهما ، والتهذيب لسلوكهما .
8 - وردت أحاديث متعددة تنهى عن إيقاع الطلاق إلا عند الضرورة وتتوعد المرأة التي تطلب من زوجها أن يطلقها بدون سبب معقول بالعذاب الشديد ، ومن ذلك ما رواه أبو داود والترمذي عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس - أي من غير عذر شرعي أو سبب قوي - فحرام عليها رائحة الجنة " وروى أبو داود وغيره عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " .
هذه بعض التشريعات التي وضعها الإِسلام لصيانة الحياة الزوجية من التصدع والانهيار ، ومنها نرى أن الإِسلام وإن كان قد شرع الطلاق ، إلا أنه لا يدعو إليه إلا إذا كانت مصلحة الزوجين أو أحدهما تقتضيه وتستلزمه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل كانت له أخت كان زوّجها من ابن عم لها، فطلقها وتركها فلم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم خطبها منه، فأبى أن يزوّجها إياه ومنعها منه وهي فيه راغبة.
ثم اختلف أهل التأويل في الرجل الذي كان فعل ذلك فنزلت فيه هذه الآية، فقال بعضهم: كان ذلك الرجل معقل بن يسار المُزَني.
حدثنا محمد بن عبد الله المخزومي، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا عباد بن راشد، قال: حدثنا الحسن، قال: ثني معقل بن يسار، قال: كانت لي أخت تُخطَب وأمنعها الناس، حتى خطب إليّ ابن عم لي فأنكحتها، فاصطحبا ما شاء الله، ثم إنه طلقها طلاقا له رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها، ثم خطبت إليّ فأتاني يخطبها مع الخطاب، فقلت له: خطبت إليّ فمنعتها الناس، فآثرتك بها، ثم طلقت طلاقا لك فيه رجعة، فلما خطبت إليّ آتيتني تخطبها مع الخطاب؟ والله لا أنكحها أبدا قال: ففيّ نزلت هذه الآية:"وَإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ إذَا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بالمَعْرُوفِ" قال: فكفّرت عن يميني وأنكحتها إياه.
وقال آخرون: كان الرجل جابر بن عبد الله الأنصاري. ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: وَإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ إذَا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بالمَعْرُوفِ. قال: نزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري، وكانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة، فانقضت عدتها، ثم رجع يريد رجعتها، فأما جابر فقال: طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها الثانية وكانت المرأة تريد زوجها قد راضته، فنزلت هذه الآية.
وقال آخرون: نزلت هذه الآية دلالة على نهي الرجل عن مضارّة وليته من النساء، يعضلها عن النكاح. والصواب من القول في هذه الآية أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنزلها دلالة على تحريمه على أولياء النساء مضارة من كانوا له أولياء من النساء بعضلهنّ عمن أردن نكاحه من أزواج كانوا لهنّ، فبنّ منهنّ بما تبين به المرأة من زوجها من طلاق أو فسخ نكاح. وقد يجوز أن تكون نزلت في أمر معقل بن يسار وأمر أخته أو في أمر جابر بن عبد الله وأمر ابنة عمه، وأي ذلك كان فالآية دالة على ما ذكرت.
"فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ": لا تضيقوا عليهن بمنعكم إياهنّ أيها الأولياء من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد تبتغون بذلك مضارتهن، يقال منه: عضل فلان فلانة عن الأزواج يعضلها عضلاً.
وأصل العَضْل: الضيق، ومنه قول عمر رحمة الله عليه: «وقد أعضل بي أهل العراق، لا يرضون عن وال، ولا يرضى عنهم وال»، يعني بذلك حملوني على أمر ضيق شديد لا أطيق القيام به، ومنه أيضا: الداء العُضال، وهو الداء الذي لا يطاق علاجه لضيقه عن العلاج، وتجاوزه حدّ الأدواء التي يكون لها علاج، وقيل: عضل الفضاء بالجيش لكثرتهم: إذا ضاق عنهم من كثرتهم.
"إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بالمَعْرُوف": إذا تَرَاضى الأزواج والنساء بما يحلّ، ويجوز أن يكون عوضا من أبضاعهنّ من المهور ونكاح جديد مستأنف... وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال: لا نكاح إلا بوليّ من العصبة. وذلك أن الله تعالى ذكره منع الوليّ من عضل المرأة إن أرادت النكاح، ونهاه عن ذلك، فلو كان للمرأة إنكاح نفسها بغير إنكاح وليها إياها، أو كان لها تولية من أرادت توليته في إنكاحها، لم يكن لنهي وليها عن عضلها معنى مفهوم، إذ كان لا سبيل له إلى عضلها، وذلك أنها إن كانت متى أرادت النكاح جاز لها إنكاح نفسها أو إنكاح من توكله إنكاحها، فلا عضل هنالك لها من أحد، فينهى عاضلها عن عضلها.
وفي فساد القول بأن لا معنى لنهي الله عما نهى عنه، صحة القول بأن لولّي المرأة في تزويجها حقا لا يصحّ عقده إلا به، وهو المعنى الذي أمر الله به الولّي من تزويجها إذا خطبها خاطبها ورضيت به، وكان رضى عند أوليائها جائزا في حكم المسلمين لمثلها أن تنكح مثله، ونهاه عن خلافه من عضلها، ومنعها عما أرادت من ذلك وتراضت هي والخاطب به.
"ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِر": من نهي أولياء المرأة عن عضلها عن النكاح يقول: فهذا الذي نهيتكم عنه من عضلهن عن النكاح عظة مني من كان منكم أيها الناس يؤمن بالله واليوم الاَخر، يعني يصدّق بالله فيوحده، ويقرّ بربوبيته، واليَوْمِ الأخِر يقول: ومن يؤمن باليوم الاَخر فيصدق بالبعث للجزاء والثواب والعقاب، ليتقي الله في نفسه، فلا يظلمها بضرار وليته، ومنعها من نكاح من رضيته لنفسها ممن أذنت لها في نكاحه.
"ذَلِكُمْ أزْكَى لَكُمْ وأطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وأنْتُم لا تَعْلَمُونَ": ذَلِكُمْ نكاح أزواجهنّ لهنّ، ومراجعة أزواجهنّ إياهنّ بما أباح لهنّ من نكاح ومهر جديد، أزكى لكم أيها الأولياء والأزواج والزوجات. ويعني بقوله: "أزْكَى لَكُمْ": أفضل وخير عند الله من فرقتهن أزواجهن. "وأطْهَرَ": أطهر لقلوبكم وقلوبهن وقلوب أزواجهن من الريبة، وذلك أنهما إذا كان في نفس كل واحد منهما أعني الزوج والمرأة علاقة حب، لم يؤمن أن يتجاوزا ذلك إلى غير ما أحله الله لهما، ولم يؤمن من أوليائهما أن يسبق إلى قلوبهم منهما ما لعلهما أن يكونا منه بريئين. فأمر الله تعالى ذكره الأولياء إذا أراد الأزواج التراجع بعد البينونة بنكاح مستأنف في الحال التي أذن الله لهما بالتراجع أن لا يعضل وليته عما أرادت من ذلك، وأن يزوّجها، لأن ذلك أفضل لجميعهم، وأطهر لقلوبهم مما يخاف سبوقه إليها من المعاني المكروهة. ثم أخبر تعالى ذكره عباده أنه يعلم من سرائرهم وخفيات أمورهم، ما لا يعلمه بعضهم من بعض، ودلّهم بقوله لهم ذلك في الموضع أنه إنما أمر أولياء النساء بإنكاح من كانوا أولياءه من النساء إذا تراضت المرأة والزوج الخاطب بينهم بالمعروف، ونهاهم عن عضلهن عن ذلك لما علم مما في قلب الخاطب والمخطوب من غلبة الهوى والميل من كل واحد منهما إلى صاحبه بالمودة والمحبة، فقال لهم تعالى ذكره: افعلوا ما أمرتكم به إن كنتم تؤمنون بي وبثوابي وبعقابي في معادكم في الاَخرة، فإني أعلم من قلب الخاطب والمخطوبة ما لا تعلمونه من الهوى والمحبة، وفعلكم ذلك أفضل لكم عند الله ولهم، وأزكى وأطهر لقلوبكم وقلوبهن في العاجل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إذا تراضوا بينهم بالمعروف} راجع ذلك إلى المهر؛ لأن التراضي فعل اثنين، والمهر يتعرف بهما؛ لأن القصة في امرأة بعينها، وكانت ظهرت كفاءة زوجها لها، وقال في الكفاءة: {فلا جناح عليكم فيما فعلن} [البقرة: 234]، ووجود الكفاءة إنما تكون من إحدى الجانبين، فذكر ذلك مضافا إلى الأولياء، لم يجز دونهم... والأصل في مسألة النكاح أن الحق لها على الولي، لا للولي عليها، دليله ما يزوج على الولي إذا [علم، ويجبر] عليه إذا وجد، وزوج عليه إذا أبى، وهي لا تجبر بإدارة الولي إذا أبت، فبان أن الحق لها قلبه، ومن ترك حق نفسه في عقد له قبل آخر لم يوجب ذلك فساده، والله أعلم.
وقوله: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} فيه دليل على أن النهي عن العضل إنما كان في الأزواج كانوا لهن؛ دليله قوله: {أزواجهن}، ولا يسمى الأزواج إلا بعد النكاح، ويدل أيضا قوله: {وإذا طلقتم النساء} ذكر الطلاق، فدل أنه كان في أزواج كانوا لهن.
ويحتمل أن يكون في الابتداء من غير أن كان ثم نكاح، وجائز تسمية الشيء باسم ما يؤول الأمر إليه لقرب حالهن بهم...
وقوله: {ذلك يوعظ به} قيل: {يوعظ به} ينهاه به، كقوله: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا} [النور: 17] أي ينهاكم، وقيل: {يوعظ به} أي يؤمر به... وقوله: {ذلكم أزكى لكم وأطهر}؛ قيل: إذا وضعن أنفسهن حيث هوين فذلك أزكى واطهر لكم من العضل من ذلك، ولعل العضل يحملهن على الفساد والريبة، وقيل: المراجعة خير لكم من الفرقة، وأطهر لكم من الريبة.
وقوله: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أي: الله يعلم من حب كل واحد منهما صاحبه {وأنتم لا تعلمون} ذلك، ويحتمل قوله: {والله يعلم} فيم صلاحكم؟ {وأنتم لا تعلمون} ذلك...
والعَضْلُ يَعْتَوِرُهُ معنيان: أحدهما المنع، والآخر الضيق...
{ذلكم أزكى لكم وأطهر} يعني إذا لم تعضلوهن؛ لأن العَضْلَ ربما أدّى إلى ارتكاب المحظور منهما على غير وجه العقد؛ وهو معنى قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم:"إذا أتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فزَوِّجُوهُ، إلاّ تفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ"...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تضمنت الآية نهي الأولياء عن مضارتهن، وتركَ حمية الجاهلية، والانقيادَ لحكم الله في تزويج النساء إنْ أردن النكاح من دون استشعار الأنفة والحمية. بل إذا رضيت بكفوٍ يخطبها فحرام عليكم ظلمها. والتذويبُ عن أوصاف البشرية بقهر النفس أشَدُّ مجاهدةً وأصدقُ معاملة لله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والله يَعْلَمُ} ما في ذلك من الزكاء والطهر {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}... أو: والله يعلم ما تستصلحون به من الأحكام والشرائع وأنتم تجهلونه...
{إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف...}. إن قلت: ما أفاد قوله « بينهم»؟ قلنا: أفاد ذلك قصر ذلك على تراضي الزوجين خشية أن يظن توقفه على تراضي عموم العشيرة وسائر القرابات.
{ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر...}. أي يوعظ به الوعظ النافع المحصل للانزجار.
{ذلكم أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ...}. أي يزكيكم، فيجعل لكم صعود الدّرجات في الجنات، ويطهركم من الآثام ويبعدكم عن الدّركات والحلول في النار.
{والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}... باعتبار عاقبة الأمر في المستقبل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نهى عن الضرار في العصمة وفي أثرها الذي هو العدة أتبعه النهي عما كان منه بعد انقضائها بالعضل من كل من يتصور منه عضل لكن لما كان نهي الأولياء إذا كانوا أزواجاً نهياً لغيرهم بطريق الأولى أسنده إلى الأزواج وهم في غمارهم فقال: {وإذا طلقتم} أي أيها الأزواج، وأظهر ولم يضمر لأن المذكور هنا أعم من الأول فقال: {النساء} أيّ طلاق كان {فبلغن أجلهن} أي انقضت عدتهن فقد دل سياق الكلامين على اختلاف البلوغين -نقله الأصبهاني عن الشافعي يعني أن الأول دل على المشارفة للأمر بالإمساك وهذا على الحقيقة للنهي عن العضل {فلا تعضلوهن} أي تمنعوهن أيها الأولياء أزواجاً كنتم [أم] غير أزواج، والعضل قال الحرالي هو أسوأ المنع، من عضلت الدجاجة إذا نشبت بيضتها فيها حتى تهلك...
{أن ينكحن أزواجهن} أي الذين طلقوهن وغيرهم، وسموا أزواجاً لمآل أمرهم إلى ذلك كما أن المطلقين سموا أزواجاً بما كان؛ واستدل الشافعي رضي الله تعالى عنه ورحمه بها على أنه لا نكاح إلا بولي، لأن التعبير بالعضل دال على المنع الشديد المعبر من الداء العضال، و إن عضل من غير كفوء جاز ولم تزوج منه ولو كانت المرأة تزوج نفسها لما كان إعياء ولا يثبت عضله الممنوع ليحصل عزله إلا إذا منع عند الحاكم وقد بينت ذلك السنة. وهذه الآية من عجائب أمر الاحتباك {طلقتم} يفهم الأزواج من {تعضلوهن} و {تعضلوهن} يفهم الأولياء من {طلقتم}... {إذا تراضوا} أي النساء والأزواج الأكفاء بما أفهمته الإضافة دون أن يقال: أزواجاً لهن مثلاً.
ولما كان الرضى ينبغي أن يكون على العدل أشار إليه بقوله: {بينهم} ولما كانا قد يتراضيان على ما لا ينبغي قيده بقوله: {بالمعروف} فإن تراضوا على غيره كما لو كان الزوج غير كفوء فاعضلوهن، وعرفه كما قال الحرالي لاجتماع معروفين منهما فكان مجموعهما المعروف التام وأما المنكر فوصف أحدهما...
ولما ذكر الأحكام مبيناً لحكمها فكان {ذلك} وعظاً وكان أكثر الناس يظن أن الوعظ مغائر للأحكام أقبل على المختار للكمال فقال: ذلك الأمر العظيم يا أيها الرسول {يوعظ} أي يرقق {به} قلوب {من كان} والوعظ قال الحرالي: إهزاز النفس بموعود الجزاء و وعيده... فهو تهديد لمن تشق عليه الأحكام وهم الأكثر.
ولما كان من أتباعه صلى الله عليه وسلم من جاهد نفسه حتى صار أهلاً لفهم الدقائق وإدراك الإشارات والرقائق فألقى كليته للسماع لحظه بقوله: {منكم} معلماً أن الخطاب في الحقيقة لكل فاهم، وإنما قيد بهم لأنهم المنتفعون به الفاهمون له لما لهم من رقة القلوب الناشئة عن الإذعان لأن الخطاب وإن كان بالأحكام فهو وعظ يتضمن الترهيب كما يتضمن الترغيب.
ولما كان من الحكمة أن من لا ينتفع بشيء لا يقصد به أشار إلى ذلك بقوله: {يؤمن بالله} أي لما له من العظمة {واليوم الآخر} خوفاً من الفضيحة فيه.
وفي تسميته وعظاً إفهام بأن من تجاوز حداً في غيره سلط عليه من يتجاوز فيه حداً. قال الحرالي: لأن من فعل شيئاً فعل به نحوه كأنه من عضل عن زوج عضل ولي آخر عنه حين يكون هو زوجاً، ومن زنى زنى به {سيجزيهم وصفهم} [الأنعام: 139]...
فلما وقع ما هيجوا إليه من كمال الإصغاء قال مقبلاً عليهم: {ذلكم} أي الأمر العظيم الشأن {أزكى لكم} أي أشد تنمية وتكثيراً وتنقية وتطهيراً بما يحصل منه بينكم من المودة والبركة من الله سبحانه وتعالى {وأطهر} للقلوب.
ولما كان وصف المتكلم بالعلم أدعى لقبول من دونه منه قال مظهراً ومعيداً للاسم الأعظم تعظيماً للأمر: {والله} أي أشير إليكم بهذا والحال أن الملك الأعظم {يعلم} أي له هذا الوصف {وأنتم لا تعلمون*} أي ليس لكم هذا الوصف بالذات لا في الحال ولا في الاستقبال لما أفهمه النفي بكلمة لا و صيغة الدوام.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} بيانٌ لحكم ما كانوا يفعلونه عند بلوغِ الأجل حقيقةً بعد بيانِ حُكمِ ما كانوا يفعلونه عند المشارفة إليه...
{ذلك} إشارةٌ إلى ما فصل من الأحكام، وما فيه من البُعد لتعظيم المشار إليه، والخطابُ لجميع المكلفين كما فيما بعده والتوحيدُ إما باعتبار كلِّ واحدٍ منهم، وإما بتأويل القَبيل والفريق، وإما لأن الكافَ لمجرد الخطابِ والفرقِ بين الحاضِرِ والمنقضي دون تعيينِ المخاطَبين أو للرسول صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: {يا أيُّهَا النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق، الآية 1] للدلالة على أن حقيقةَ المشارِ إليه أمرٌ لا يكاد يعرِفه كلُّ واحد.
{يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} فيسارع إلى الامتثال بأوامرِه ونواهيه إجلالاً له وخوفاً من عقابه...
{وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ذلك، أو والله يعلمُ ما فيه صلاحُ أمورِكم من الأحكام والشرائعَ التي من جملتها ما بينه هاهنا وأنتم لا تعلمونها فدعُوا رأيكم وامتثِلوا أمرَه تعالى ونهيَه في كل ما تأتون وما تذرون...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الأخر} الوعظ النصح والتذكير بالخير والحق على الوجه الذي يرق له القلب ويبعث على العمل. أي ذلك الذي تقدم من الأحكام والحدود المقرونة بالحكم والترغيب والترهيب يوعظ به أهل الإيمان بالله والجزاء على الأعمال في الآخرة فإن هؤلاء هم الذين يتقبلونه ويتعظون به فتخشع له قلوبهم، ويتحرون العمل به قبولا لتأديب ربهم، وطلبا للانتفاع به في الدنيا، ورجاء في مثوبته ورضوانه في الأخرى.
وأما الذين لا يؤمنون بما ذكر حق الإيمان كالمعطلين والمقلدين الذين يقولون آمنا بأفواههم لأنهم سمعوا قومهم يقولون ذلك ولم تؤمن قلوبهم لأنهم لم يتلقوا أصول الإيمان، الذي يملك من القلب مواقع التأثير ومسالك الوجدان، فإن وعظهم به عبث لا ينفع، وقول لا يسمع، لأنهم يتبعون في معاملة النساء أهواءهم، ويقلدون ما وجدوا عليه آباءهم وعشراءهم...
والآية تدل على أن الإيمان الصحيح يقتضي العمل وقد غفل عن هذا الأكثرون، وقرره الأئمة المحققون، كحجة الإسلام الغزالي وشيخ الإسلام ابن تيمية والمحقق الشاطبي والأستاذ الإمام رحمهم الله تعالى. قال شيخنا هنا: كأنه يقول من كان مؤمنا فلا يشك أنه يتعظ بهذا. ويشير إلى أن من لم يتعظ ويعمل بها فليس بمؤمن: وتدل على أن أحكام الدين حتى المعاملات منها ينبغي أن تساق إلى الناس مساق الوعظ المحرك للقلوب، لا أن تسرد سردا جافا كما ترى في كتب الفقه...
{ذلكم أزكى لكم وأطهر} الزكاء النماء والبركة في الشيء، والمشار إليه في {ذلكم} هو النهي عن عضل النساء بقيده وشرطه، والمراد أنه مزيد في نماء متبعيه وصلاح حالهم ما بعده مزيد يفضله، وأنه أطهر لأعراضهم وأنسابهم، وأحفظ لشرفهم وأحسابهم، لأن عضل النساء والتضييق عليهن مدعاة لفسوقهن، ومفسدة لأخلاقهن، وسبب لفساد نظام البيوت وشقاء الذراري، مثل في نفسك حال امرأة كأخت معقل بن يسار تزوجت برجل عرفها وعرفته، فأحبها وأحبته، ثم غضب مرة وطلقها، وبعد انقضاء العدة ندم على ما فعل، وأحب أن يعود إلى امرأته التي تحبه، واعتادت الأنس به السكون إليه، فعضلها وليها اتباعا لهواه، واعتزازا بسلطته، ألا يكون ذلك مضيعة لولدهما ومغواة لهما؟ ومثل أيضا وليا يمنع موليته من الزواج بمن تحب ويزوجها بمن تكره اتباعا لهواه أو عادة قومه، كما كانت العرب تفعل، وانظر أترجون أن يصلح حالهما، ويقيما حدود الله بينهما؟ أم يخشى أن يغويها الشيطان بالآخر ويغويه بها، ويستدرجها في الغواية فلا يتفقان إلا عند نهاية حدودها؟ وهكذا مثل كل مخالفة لهذا الأحكام تجدها مفسدة... وقد كان الناس لجهلهم بوجوه المصالح الاجتماعية على كمالها، لا يرون للنساء شأنا في صلاح حياتهم الاجتماعية وفسادها، حتى علمهم الوحي ذلك ولكن الناس لا يأخذون من الوحي في كل زمان إلا بقدر استعدادهم، وإن ما جاء به القرآن من الأحكام لإصلاح حال البيوت (العائلات) بحسن معاملة النساء لم تعمل به الأمة على وجه الكمال، بل نسيت معظمه في هذا الزمان، وعادت إلى جهالة الجاهلية. ولهذا الجهل السابق ولتوهم الذين يسيئون معاملة النساء من الرجال أنهم يفعلون ما هو مصلحة لهم ومحافظة على شرفهم، حتى ختم هذه المواعظ والأحكام والحكم بقوله:
{والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أي يعلم سبحانه ما لكم في ذلك من الزكاء والطهر وسائر المصالح ودفع المفاسد وأنتم لا تعلمون ذلك كله علما صحيحا خاليا من الأهواء والأوهام، واعتزاز الرجال بقدرتهم على التحكم في النساء، ولذلك ذكركم في أثر النهي عن عضل النساء عن الزواج بهذه الثلاث:
إنها موعظة يتعظ بها من يؤمن بالله واليوم الآخر.
- إن الله يعلم كل ذلك كغيره وأنتم لا تعلمون وهذه آيات علمه ظاهرة فإن البشر من جميع الأمم لا من العرب وحدهم لم يهتدوا إلى هذه الأحكام المنزلة في هذه السورة النافعة باختبارهم الطويل، بل عزبت حكمتها عن نفوس الأكثرين بعد أن نزل الوحي بها فلم يعملوا بها، وكان يجب على المؤمن الذكي أن يقيمها على وجهها ملاحظا فوائدها، وعلى المؤمن الغبي أن يسلم أمر ربه بها تسليما وإن لم يظهر له فائدتها في الدنيا اكتفاء بأن الله تعالى يعلم من ذلك ما لا يعلم هو.
وههنا أنبه وأذكر القارئ لهذا التفسير بأن من أظهر ما تفضل به هداية الوحي ما هو صحيح وحسن من حكمة البشر أن المؤمن بالوحي يتبع هدايته سواء أعلم وجهة المنفعة فيها أم لا، فينتفع بها كل مؤمن، وأما حكمة البشر فلا ينتفع بها إلا من فهمها واقتنع بصحتها وبأن العمل بها خير له من تركه. والذين يجهلون هذه المزية لهداية الدين من غير أهله يفضلون هداية الحكمة البشرية عليها بأن متبعها يترك الشر لأنه شر ضار، ويفعل الخير لأنه خير نافع، وأن متبع الدين يفعل ما لا يعقل له فائدة. وهذا غلط أو مغالطة، فإن الدين قد جاء بالحكمة مؤيدة للكتاب كما قال: {يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة} (الجمعة: 2) فمن جمع بين الكتاب والحكمة فهو المؤمن الكامل، ومن عجز عن فهم حكمة الأحكام والآداب فيه من عامي وبليد أو حديث عهد بالإسلام لم يفته وقد هدي إلى الإيمان أن يترك الشر ويفعل الخير لأن الذي نهاه عن الأول وأمره بالثاني هو الله، وهو أعلم منه ومن كل حكماء خلقه.
ومن دقائق البلاغة في الآية اختلاف الخطاب بالإشارة فإنه لما جعل الوعظ بما ذكر من الأحكام والحكم خاصا بمن يؤمن بالله واليوم الآخر وجه الخطاب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {ذلك يوعظ به} الخ، وأما كونه أزكى وأطهر فقد جعله عاما وخاطب به الناس كافة بقوله: {ذلكم} الخ، وقد تقدم توجيه الأول وأما توجيه الثاني فهو أن كل من عمل بهذه الأحكام فإنها تكون زكاء له وبركة في بيته وذريته، وطهرا لعرضه وشرفه، سواء أوعظ بتلك الآيات فاتعظ لإيمانه أم عمل بها لسبب آخر بأن بلغته غفلا من الموعظة غير مسندة إلى الوحي أو قلد بها بعض العاملين، وكون الخطاب بقوله: {ذلك} للنبي صلى الله عليه وسلم هو أحد الوجوه التي ذكروها فيه، قال البيضاوي في توجيهه أنه على طريق قوله: {يا أيها النبي إذا طلقتم} (الطلاق: 1) للدلالة على أن حقيقة المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والشعور بأن الله يريد ما هو أزكى وما هو أطهر من شأنه أن يستحث المؤمن للاستجابة، واغتنام الزكاة والطهر. لنفسه وللمجتمع من حوله. ولمس القلب بأن الذي يختار له هذا الطريق هو الله الذي يعلم ما لا يعلمه الناس من شأنه أن يسارع به إلى الاستجابة كذلك في رضى وفي استسلام. وهكذا يرفع الأمر كله إلى أفق العبادة، ويعلقه بعروة الله، ويطهره من شوائب الأرض، وأدران الحياة، وملابسات الشد والجذب التي تلازم جو الطلاق والفراق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المراد من هذه الآية مخاطبة أولياء النساء بألا يمنعوهن من مراجعة أزواجهن بعد أن أمر المفارقين بإمساكهن بمعروف ورغبهم في ذلك، إذ قد علم أن المرأة إذا رأت الرغبة من الرجل الذي كانت تألفه وتعاشره لم تلبث أن تقرن رغبته برغبتها، فإن المرأة سريعة الانفعال قريبة القلب، فإذا جاء منع فإنما يجيء من قبل الأولياء ولذلك لم يذكر الله ترغيب النساء في الرضا بمراجعة أزواجهن ونهى الأولياء عن منعهن من ذلك. وقد عرف من شأن الأولياء في الجاهلية وما قاربها، الأنفة من أصهارهم، عند حدوث الشقاق بينهم وبين ولاياهم، وربما رأوا الطلاق استخفافاً بأولياء المرأة وقلة اكتراث بهم، فحملتهم الحمية على قصد الانتقام منهم عند ما يرون منهم ندامة، ورغبة في المراجعة...
والخطاب الواقع في قوله {طلقتم} و {تعضلوهن} ينبغي أن يحمل على أنه موجه إلى جهة واحدة دون اختلاف التوجه، فيكون موجهاً إلى جميع المسلمين، لأن كل واحد صالح لأن يقع منه الطلاق إن كان زوجاً، ويقع منه العضل إن كان ولياً، والقرينة ظاهرة على مثله فلا يكاد يخفى في استعمالهم، ولما كان المسند إليه أحد الفعلين، غير المسند إليه الفعل الآخر، إذ لا يكون الطلاق ممن يكون منه العضل ولا العكس، كان كل فريق يأخذ من الخطاب ما هو به جدير، فالمراد بقوله:
{طلقتم} أوقعتم الطلاق، فهم الأزواج، وبقوله {فلا تعضلوهن} النهي عن صدور العضل، وهم أولياء النساء...
وفي الآية إشارة إلى اعتبار الولاية للمرأة في النكاح بناء على غالب الأحوال يومئذٍ؛ لأن جانب المرأة جانب ضعيف مطموع فيه، معصوم عن الامتهان، فلا يليق تركها تتولى مثل هذا الأمر بنفسها؛ لأنه ينافي نفاستها وضعفها، فقد يستخف بحقوقها الرجال، حرصاً على منافعهم وهي تضعف عن المعارضة. ووجه الإشارة: أن الله أشار إلى حقين: حق الولي بالنهي عن العضل؛ إذ لو لم يكن الأمر بيده لما نهي عن منعه، ولا يقال: نهي عن استعمال ما ليس بحق له لأنه لو كان كذلك لكان النهي عن البغي والعدوان كافياً، ولجيء بصيغة: ما يكون لكم ونحوها وحق المرأة في الرضا ولأجله أسند الله النكاح إلى ضمير النساء، ولم يقل: أن تُنكحوهن أزواجهن، وهذا مذهب مالك والشافعي وجمهور فقهاء الإسلام، وشذ أبو حنيفة في المشهور عنه فلم يشترط الولاية في النكاح، واحتج له الجصاص بأن الله أسند النكاح هنا للنساء وهو استدلال بعيد استعمال العرب في قولهم: نكحت المرأة، فإنه بمعنى تزوجت دون تفصيل بكيفية هذا التزوج لأنه لا خلاف في أن رضا المرأة بالزوج هو العقد المسمى بالنكاح، وإنما الخلاف في اشتراط مباشرة الولي لذلك دون جبر، وهذا لا ينافيه إسناد النكاح إليهن، أما ولاية الإجبار فليست من غرض هذه الآية؛ لأنها واردة في شأن الأيامى ولا جبر على أيم باتفاق العلماء...
وقوله: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} تذييل وإزالة لاستغرابهم حين تلقى هذا الحكم، لمخالفته لعاداتهم القديمة، وما اعتقدوا نفعاً وصلاحاً وإباء على أعراضهم، فعلمهم الله أن ما أمرهم به ونهاهم عنه هو الحق، لأن الله يعلم النافع، وهم لا يعلمون إلاّ ظاهراً، فمفعول {يعلم} محذوف أي والله يعلم ما فيه كمال زكاتكم وطهارتكم؛ وأنتم لا تعلمون ذلك...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بعد أن بين سبحانه العواقب الوبيلة التي تترتب على الإمساك ضرارا، وما فيه من ظلم للرجل والمرأة معا، أخذ يبين حكمه سبحانه في ظلم آخر يقع بالنساء وعاقبته وبيلة للمجتمع، فقال سبحانه: {و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن}. بلوغ الأجل هنا هو بلوغ أقصى العدة، فالبلوغ هنا غير البلوغ في الآية السابقة، إذ الأول كان للمقارنة والمشارفة، وهنا للانتهاء، والسياق هو الذي عين معنى البلوغ في الأول كما بينا، وهو الذي عين معنى البلوغ الثاني، إذ إن العقد المعبر عنه بقوله تعالى: {أن ينكحن أزواجهن} يدل على أن المراد هو انتهاء العدة، إذ لا يتصور النكاح وهو العقد الذي يكون من طرفين إلا بعد انتهاء العدة، ولذا قال الشافعي رضي الله عنه في هذه الآية والتي سبقتها: (دل سياق الكلامين على اختلاف البلوغين).
ولا شيء يقوي الأسرة أكثر من المودة والعدل والرحمة، وأما أنه أطهر فلأن المرأة إذا عوملت معاملة كريمة بالحق والعدل وأطلقت حريتها في دائرة المعروف المعقول ولم تظلم في رغباتها العادلة، أدى ذلك إلى الطهر والعفاف، فإن احترام النفس صون وعفاف، وامتهانها نقيض ذلك، لأن النفس إذا أكرهت جمحت، وإذا جمحت لم ترتبط برباط من الحكمة والصون والعفاف، بل إنها إذا جمحت عميت، فلا تدرك خيرا ولا شرا...
روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: {إن للقلوب شهوات، وإقبالا وإدبارا، فأتوها من قبل شهواتها وإقلالها، فإن القلب إذا أكره عمي} ولا عفة ولا طهر عند عماية القلوب...
و لقد ذيل سبحانه الآية الكريمة بقوله: {و الله يعلم وأنتم لا تعلمون} للإشارة إلى أن شرع الله تعالى فيه النفع الدائم، والمصلحة الحقيقية، والنتائج المرضية، لأنه شرع من يعلم كل شيء ولا يجهل شيئا، وليس للناس أن يتمردوا عليه، أو يخالفوه، أو يهونوا مخالفته في أنفسهم بدعوى أنهم يرونه في الظاهر مخالفا للظاهر من مصلحتهم، فإن ما يدركونه مصلحة ليس بمصلحة في ذاته إذا جاء نص الشرع القاطع خلافه، لأن علم الإنسان قاصر، وعلم الله وحده هو الكامل، فلنتبع شرع الله، و لا نحكم الهوى في نصوص الكتاب، ولنحث التراب في وجوه الذين يحاولون مخالفة النصوص الصريحة القاطعة بدعوى أن المصلحة في خلافها، لأنه لا توجد مصلحة قاطعة تخالف نصا قاطعا، إنما هي أوهام، وعقول خاضعة لأزمان محكومة بالشر المتكاثف، حتى حجب النور، ولنقل لهم إن شرع الله هو المصلحة: {و الله يعلم وأنتم لا تعلمون}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لا تمنعوا المطلقات من العودة: وهذا نداء آخر للأشخاص الذين يملكون أمر الضغط على النساء، من الآباء والأمهات والإخوة والأعمام والأخوال... وغيرهم، ممن جرت عادتهم بالتدخل في أمورهن الخاصة والعامة، انطلاقاً من الضعف الطبيعي للمرأة الذي يبرز خضوعها للاضطهاد وانسحاقها تحت ضغط إرادة الآخرين. فلا يكون لها أيُّ موقف في حياتها العملية، ولا يسمح لها بإبداء أي رأي في علاقاتها الزوجية أو المالية أو الاجتماعية. {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} من خلال بعض الحالات الانفعالية الطارئة التي تحوّلت إلى عنصر ضغط سلبي نفسي ضدّ الزوجة، أو شقاق بينهما، أو من خلال بعض المصالح الآنية التي فرضت ذلك عليكم...
{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: انتهت العدّة، فلم يعد لكم حقّ شرعي في الرجوع بطريقة تلقائية؛ {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} وتمنعوهن عن العودة إلى الزواج من جديد، {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} استجابةً للرغبة النفسية التي عاشتها المرأة وعاشها الرّجل بعد تجربة الطلاق الذي شعرا فيه أنهما لا يستغنيان عن بعضهما البعض، وأنَّ ما حدث لهما كان صدمة لهما هزت أعماقهما؛ فرأيا أنَّ الانفصال ليس من مصلحتهما؛ وذلك {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ} وأرادوا الدخول في ميثاق جديد وشروط جديدة، تمنح العلاقة الزوجية قوّةً وثباتاً وصلابة حتى لا تهتز بفعل الحالات الطارئة، كما حدث سابقاً، فإنَّ التجربة الصعبة قد أعطتهما درساً جديداً للمستقبل...
وقد نستوحي من الآية، أنَّ القضية لا تقتصر على التحذير من المنع، بل تتعداه إلى التشجيع على العودة، فإنَّ النهي عن شيء قد يختزن في داخله الدعوة إلى الأخذ بالخيار الآخر، باعتبار أنَّ اللّه يريد للإنسان أن يستفيد من تجربته؛ فيتراجع عن الخطأ الذي وقع فيه، لا سيما في مسألة الزواج والطلاق التي قد تكون لها علاقة بالحياة الروحية والعملية للزوجين، بحيث يتحوّل الطلاق إلى عقدة نفسية لدى أيّ واحد منهما، أو أزمة عملية، أو يؤدي إلى مشاكل صعبة في أوضاعهما الخاصة والعامة، أو يترك تأثيره على أولادهما الذين قد يتعرضون للضياع أو للتعقيد النفسي أو للسقوط في أوحال الجرائم الاجتماعية، ما يجعل من العودة إلى الحياة الزوجية ضرورةً نفسيةً وعمليةً...
وخلاصة النداء، أنَّ على هؤلاء أن لا يمنعوا المطلقات من العودة إلى أزواجهن من جديد بالعقد بعد العدّة إذا تراضوا بينهم بالمعروف، بل أن يتركوا لهن الحرية في ذلك، لأنَّ القضية هي قضيتهن الخاصة المتعلّقة بحياتهن الحاضرة والمستقبلة، فمن حقّهن أن يملكن الإرادة في ما يردن وما لا يردن...
{ذلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} فهو الذي يحقّق لكم التوازن النفسي والعملي، ويربطكم بالواقع الذي تتحرّكون فيه؛ لتنظروا إليه من خلال حركة النمو الروحي في وجدانكم بما يفتح لكم من الآفاق الواسعة التي تتحسس النتائج الإيجابية في الأمور من أكثر من موقع، ومن خلال الطهارة الفكرية والعملية التي تجعلكم تبتعدون عن كلّ قذارات الجاهلية في أنانياتها وعصبياتها وآفاقها الضيقة وعنفوانها الكاذب...