التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱدۡعُوهُمۡ لِأٓبَآئِهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمۡۚ وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا} (5)

ثم أرشدت إلى الطريق السليمة فى معاملة الابن المتبنى فقال : { ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله } أى انسبوا هؤلاء الأدعياء إلى آبائهم ، فإن هذا النسب هو أقسط وأعدل عند الله - تعالى - .

قال الآلوسى : أخرج الشيخان " عن ابن عمر - رضى الله عنهما - أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد . حتى نزل القرآن : { ادعوهم لآبَآئِهِمْ } فقال صلى الله عليه وسلم " أنت زيد بن حارثة بن شراحيل " " .

وكان زيد قد أسر فى بعض الحروب ، ثم بيع فى مكة ، واشتراه حكيم بن حزام ، ثم أهداه إلى عمته السيدة خديجة ، ثم أهدته خديجة - رضى الله عنها - إلى النبى صلى الله عليه وسلم وصار الناس يقولون : زيد بن محمد حتى نزلت الآية .

وقوله - سبحانه - : { فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ } إرشاد إلى معاملة هؤلاء الأدعياء فى حالة عدم معرفة آبائهم .

أى : انسبوا هؤلاء الأدعياء إلى آباءهم الحقيقيين لكى تنسبوهم إليهم ، فهؤلاء الأدعياء هم إخوانكم فى الدين والعقيدة ، وهو مواليكم ، فقولوا لهم ، يا أخى أو يا مولاى ، واتركوا نسبتهم إلى غير آبائهم الشرعيين .

وفى الجملة الكريمة إشارة إلى ما كان عليه المجتمع الجاهلى من تخلخل فى العلاقات الجنسية ، ومن اضطراب فى الأنساب ، وقد عالج الإِسلام كل ذلك بإقامة الأسرة الفاضلة ، المبنية على الطهر ، والعفاف ، ووضع الأمور فى مواضعها السليمة .

ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر اليسر ورفع الحرج فى تشريعاته فقال : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } .

أى : انسبوا - أيها المسلمون - الأبناء إلى آبائهم الشرعيين ، فإن لم تعرفوا آباءهم فخاطبوهم ونادوهم بلفظ : يا أخى أو يا مولاى . ومع كل ذلك فمن رحمتنا بكم أننا لم نجعل عليكم جناحا أو إثما ، فيما وقتمت فيه من خطأ غير مقصود بنسبتكم بعض الأبناء والأدعياء إلى غير آبائهم ، ولكننا نؤاخذكم ونعاقبكم فيما تعمدته قلوبكم من نسبة الأبناء إلى غير آبائهم .

و { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } - وما زال واسع المغفرة والرحمة لمن يشاء عن عباده .

هذا ، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هاتين الآيتين : حرص شريعة الإِسلام على إعطاء كل ذى حق حقه ، ومن مظاهر ذلك إبطال الظهار الذى كان يجعل المرأة محرمة على الرجل ، ثم تبقى بعد ذلك معلقة ، ولا هى مطلقة ففتزوج غير زوجها ، ولا هى زوجة فتحل له فشرع الإِسلام كفارة الظهار إنصافا للمرأة ، وحرصا على كرامتها .

ومن مظاهر ذلك - أيضا - : إبطال عادة التبنى ، حتى ينتسب الأبناء إلى آبائهم الشرعيين ، وحتى تصير العلاقات بين الآباء والأبناء قائمة على الأسس الحقيقية والواقعية .

ولقد حذر الإِسلام من دعوة الإِبن إلى غير أبيه تحذيرا شديدا . ونفر من ذلك .

قال القرطبى : جاء فى الحديث الصحيح " عن سعد بن أبى وقاص وأبى بكرة ، كلاهما قال : سَمعته أذناى ووعاه قلبى ، محمدا صلى الله عليه وسلم يقول : " من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالاجنة عليه حرام " وفى حديث أبى ذر أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر " .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ٱدۡعُوهُمۡ لِأٓبَآئِهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمۡۚ وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا} (5)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول الله تعالى ذكره: انسبوا أدعياءكم الذين ألحقتم أنسابهم بكم لآبائهم. يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألحق نسب زيد بأبيه حارثة، ولا تدعه زيدا بن محمد.

وقوله:"هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ الله" يقول: دعاؤكم إياهم لآبائهم هو أعدل عند الله، وأصدق وأصوب من دعائكم إياهم لغير آبائهم ونسبتكموهم إلى من تبنّاهم وادّعاهم وليسوا له بنين...

وقوله: "فإنْ لَمْ تَعْلمُوا آباءَهُمْ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ "يقول تعالى ذكره: فإن أنتم أيها الناس لم تعلموا آباء أدعيائكم من هم فتنسبوهم إليهم، ولم تعرفوهم، فتلحقوهم بهم، "فإخوانكم في الدين" يقول: فهم إخوانكم في الدين، إن كانوا من أهل ملّتكم، ومواليكم إن كانوا محرّريكم وليسوا ببنيكم... وقوله: "وَلَيْسَ عَليْكُمْ جُناحٌ فِيما أخْطأْتُمْ بِهِ" يقول: ولا حرج عليكم ولا وزر في خطأ يكون منكم في نسبة بعض من تنسبونه إلى أبيه، وأنتم ترونه ابن من ينسبونه إليه، وهو ابن لغيره "وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ" يقول: ولكن الإثم والحرج عليكم في نسبتكموه إلى غير أبيه، وأنتم تعلمونه ابن غير من تنسبونه إليه...

وقوله: "وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما" يقول الله تعالى ذكره: وكان الله ذا ستر على ذنب من ظاهر زوجته فقال الباطل والزور من القول، وذنب من ادّعى ولد غيره ابنا له، إذا تابا وراجعا أمر الله، وانتهيا عن قيل الباطل بعد أن نهاهما ربهما عنه ذا رحمة بهما أن يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما من خطيئتهما.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يحتمل أن يكون قوله: {فإخوانكم في الدين} أي سموهم إخوانا، وذلك أعظم في القلوب وآخذ من التسمية بالآباء والنسبة إليهم؛ وذلك لأن الحاجة إلى معرفة الآباء والنسبة إليهم إنما تكون عند الكتابة والشهادة وعند الغيبة، وأما عند الحضرة فلا.

وجائز أن يكون قوله: {ومواليكم} من الولاية كقوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة: 71] وقوله: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10].

جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :

قال أبو عمر: قد تجاوز الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، قال الله عز وجل: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم}.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

راعُوا أنسابهم، فإن أردتم غير النسبة فالأخوّةُ في الدِّين تجمعكم، وقرابةُ الدِّين والشكلية أولى من قرابة النَّسَبِ.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

ثم قال ما هو الحق وهدى إلى ما هو سبيل الحق، وهو قوله: {ادعوهم لآبَائِهِمْ} وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل، وفي فصل هذه الجمل ووصلها: من الحسن والفصاحة مالا يغني على عالم بطرق النظم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فأما مسألة التبني، ودعوة الأبناء إلى غير آبائهم، فقد كانت كذلك تنشأ من التخلخلفي بناء الأسرة، وفي بناء المجتمع كله.

ومع ما هو مشهور من الاعتزاز بالعفة في المجتمع العربي، والاعتزاز بالنسب، فإنه كانت توجد إلى جانب هذا الاعتزاز ظواهر أخرى مناقضة في المجتمع، في غير البيوت المعدودة ذات النسب المشهور.

كان يوجد في المجتمع أبناء لا يعرف لهن آباء! وكان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبناه. يدعوه ابنه، ويلحقه بنسبه، فيتوارث وإياه توارث النسب.

وكان هناك أبناء لهم آباء معروفون. ولكن كان الرجل يعجب بأحد هؤلاء فيأخذه لنفسه، ويتبناه، ويلحقه بنسبه، فيعرف بين الناس باسم الرجل الذي تبناه، ويدخل في أسرته. وكان هذا يقع بخاصة في السبي، حين يؤخذ الأطفال والفتيان في الحروب والغارات؛ فمن شاء أن يلحق بنسبه واحدا من هؤلاء دعاه ابنه، وأطلق عليه اسمه، وعرف به، وصارت له حقوق البنوة وواجباتها.

ومن هؤلاء زيد بن حارثة الكلبي. وهو من قبيلة عربية. سبي صغيرا في غارة أيام الجاهلية؛ فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة -رضي الله عنها- فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له. ثم طلبه أبوه وعمه فخيره رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فاختار رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فأعتقه، وتبناه، وكانوا يقولون عنه: زيد بن محمد. وكان أول من آمن به من الموالي.

فلما شرع الإسلام ينظم علاقات الأسرة على الأساس الطبيعي لها، ويحكم روابطها، ويجعلها صريحة لا خلط فيها ولا تشويه.. أبطل عادة التبني هذه؛ ورد علاقة النسب إلى أسبابها الحقيقية.. علاقات الدم والأبوة والبنوة الواقعية. وقال: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم).. (ذلكم قولكم بأفواهكم).. والكلام لا يغير واقعا، ولا ينشئ علاقة غير علاقة الدم، وعلاقة الوراثة للخصائص التي تحملها النطفة، وعلاقة المشاعر الطبيعية الناشئة من كون الولد بضعة حية من جسم والده الحي!

(والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)..

يقول الحق المطلق الذي لا يلابسه باطل. ومن الحق إقامة العلاقات على تلك الرابطة الحقة المستمدة من اللحم والدم، لا على كلمة تقال بالفم. (وهو يهدي السبيل) المستقيم، المتصل بناموس الفطرة الأصيل، الذي لا يغني غناءه سبيل آخر من صنع البشر، يصنعونه بأفواههم. بكلمات لا مدلول لها من الواقع. فتغلبها كلمة الحق والفطرة التي يقولها الله ويهدي بها السبيل.

(ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله)..

وإنه لقسط وعدل أن يدعى الولد لأبيه. عدل للوالد الذي نشأ هذا الولد من بضعة منه حية. وعدل للولد الذي يحمل اسم أبيه، ويرثه ويورثه، ويتعاون معه ويكون امتدادا له بوراثاته الكامنة، وتمثيله لخصائصه وخصائص آبائه وأجداده. وعدل للحق في ذاته الذي يضع كل شيء في مكانه؛ ويقيم كل علاقة على أصلها الفطري، ولا يضيع مزية على والد ولا ولد؛ كما أنه لا يحمل غير الوالد الحقيقي تبعة البنوة، ولا يعطيه مزاياها. ولا يحمل غير الولد الحقيقي تبعة البنوة ولا يحابيه بخيراتها!

وهذا هو النظام الذي يجعل التبعات في الأسرة متوازنة. ويقيم الأسرة على أساس ثابت دقيق مستمد من الواقع. وهو في الوقت ذاته يقيم بناء المجتمع على قاعدة حقيقية قوية بما فيها من الحق ومن مطابقة الواقع الفطري العميق.. وكل نظام يتجاهل حقيقة الأسرة الطبيعية هو نظام فاشل، ضعيف، مزور الأسس، لا يمكن أن يعيش!

ونظرا للفوضى في علاقات الأسرة في الجاهلية والفوضى الجنسية كذلك، التي تخلف عنها أن تختلط الأنساب، وأن يجهل الآباء في بعض الأحيان، فقد يسر الإسلام الأمر -وهو بصدد إعادة تنظيم الأسرة، وإقامة النظام الاجتماعي على أساسها- فقرر في حالة عدم الاهتداء إلى معرفة الآباء الحقيقيين مكانا للأدعياء في الجماعة الإسلامية، قائما على الأخوة في الدين والموالاة فيه:

(فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم)..

وهي علاقة أدبية شعورية؛ لا تترتب عليها التزامات محددة، كالتزام التوارث والتكافل في دفع الديات -وهي التزامات النسب بالدم، التي كانت تلتزم كذلك بالتبني- وذلك كي لا يترك هؤلاء الأدعياء بغير رابطة في الجماعة بعد إلغاء رابطة التبني.

وهذا النص: (فإن لم تعلموا آباءهم).. يصور لنا حقيقة الخلخلة في المجتمع الجاهلي. وحقيقة الفوضى في العلاقات الجنسية. هذه الفوضى وتلك الخلخلة التي عالجها الإسلام بإقامة نظام الأسرة على أساس الأبوة. وإقامة نظام المجتمع على أساس الأسرة السليمة.

وبعد الاجتهاد في رد الأنساب إلى حقائقها فليس على المؤمنين من مؤاخذة في الحالات التي يعجزون عن الاهتداء فيها إلى النسب الصحيح:

(وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به؛ ولكن ما تعمدت قلوبكم)..

وهذه السماحة مردها إلى أن الله سبحانه وتعالى يتصف بالغفران والرحمة، فلا يعنت الناس بما لا يستطيعون:

(وكان الله غفورا رحيما)..

ولقد شدد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في التثبت والتأكد من النسب لتوكيد جدية التنظيم الجديد الذي يلغي كل أثر للتخلخل الاجتماعي الجاهلي. وتوعد الذين يكتمون الحقيقة في الأنساب بوصمة الكفر. قال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم. حدثنا ابن علية. عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال أبو بكر -رضي الله عنه- قال الله عز وجل: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم).. فأنا ممن لا يعرف أبوه، فأنا من إخوانكم في الدين.. قال أبي [من كلام عيينة بن عبد الرحمن]: والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه. وقد جاء في الحديث:"من ادعى إلى غير أبيه -وهو يعلم- إلا كفر".. وهذا التشديد يتمشى مع عناية الإسلام بصيانة الأسرة وروابطها من كل شبهة ومن كل دخل؛ وحياطتها بكل أسباب السلامة والاستقامة والقوة والثبوت. ليقيم عليها بناء المجتمع المتماسك السليم النظيف العفيف.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

فالقضية التي يريد الله أن يثيرها لدى الإنسان كقيمةٍ من القيم الدينية، هي أن لا يعقد قلبه على خطأ في الفكرة أو في المنهج أو في التشريع، لأن الخطأ في الكلمة قد يغتفر إذا صدر عن غير قصد، ولكن الخطأ في الفكرة أو في الخط عن قصدٍ أو تقصيرٍ، قد يخلق أكثر من مشكلةٍ للإنسان وللحياة.