التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ضُرّٞ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلۡنَٰهُ نِعۡمَةٗ مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمِۭۚ بَلۡ هِيَ فِتۡنَةٞ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (49)

لنستمع إلى السورة الكريمة وهى تحكى أحوالهم فى السراء والضراء فتقول : { فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ . . . }

والمراد بالإِنسان هنا هو جنس الكفار ، بدليل سياق ، الآيات وسباقها ويصح أن يراد به جنس الإِنسان عموما ، ويدخل فيه الكفار دخولا أولياً .

أى : فإذا أصاب الإِنسان ضر ، من مرض أو فقر أو نحوهما ، دعانا قاعدا أو قائما . لكى نكشف عنه ما نزل به من بلاء .

{ ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا . . . } أى : ثم إذا أجبنا لهذا الإِنسان دعوته وكشفنا عنه الضر وأعطيناه على سبيل التفضل والإِحسان نعمة من عندنا ، بأن حولنا مرضه إلى صحة ، وفقره إلى غنى .

{ قَالَ } هذا الإِنسان الظلوم الكفار { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ } منى بوجوه المكاسب ، أو على علم منى بأن سأعطى هذه النعمة ، بسبب استعدادى واجتهادى وتفوقى فى مباشرة الأسباب التى توصل إلى الغنى والجاه .

وقال - سبحانه - : { خَوَّلْنَاهُ } لأن التخويل معناه العطاء بدون مقابل ، مع تكراره مرة بعد مرة .

وجاء الضمير فى قوله { أُوتِيتُهُ } مذكرا مع أنه يعود إلى النعمة . لأنها بمعنى الإِنعام . أى : إذا خولناه شيئاً من الإِنعام الذى تفضلنا به عليه ، قال إنما أوتيته على علم وتبوغ عندى .

وقوله - تعالى - { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } رد لقوله ذلك ، وزجر لهذا الجاحد عما تفوه به .

أى : ليس الأمر كما زعم هذا الجاحد ، فإننا ما أعطيناه هذه النعم بسبب علمه - كما زعم - وإنما أعطيناه ما أعطيناه على سبيل الإِحسان منا عليه ، وعلى سبيل الابتلاء والاختبار له ، ليتبين قوى الإِيمان من ضعيفه ، وليتميز الشاكر من الجاحد .

{ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أى : ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقائق ، ولا يفطن إليها إلا من استنارت بصيرته ، وطهرت سيريرته .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما السبب فى عطف هذه الآية بالفاء ، وعطف مثلها فى أول السورة بالواو ؟ قلت : السبب فى ذلك أن هذه وقعت مسببة من قوله { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } على معنى أنهم يشمئزون من ذكر الله .

ويستبشرون بذكر الآلهة . فإذا مس أحدهم ضر دعا من أشمأز من ذكره ، دون من استبشر بذكره ، وما يبنهما من الآى اعتراض . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ضُرّٞ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلۡنَٰهُ نِعۡمَةٗ مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمِۭۚ بَلۡ هِيَ فِتۡنَةٞ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (49)

36

وبعد هذا المشهد المعترض لبيان حالهم يوم يرجعون إلى الله الذي به يشركون ، والذي تشمئز قلوبهم حين يذكر وحده ، وتستبشر حينما تذكر آلهتهم المدعاة . بعد هذا يعود إلى تصوير حالهم العجيب . فهم ينكرون وحدانية الله . فأما حين يصيبهم الضر فهم لا يتوجهون إلا له وحده ضارعين منيبين . حتى إذا تفضل عليهم وأنعم راحوا يتبجحون وينكرون :

( فإذا مس الإنسان ضر دعانا . ثم إذا خولناه نعمة منا ، قال : إنما أوتيته على علم . بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . .

والآية تصور نموذجاً مكرراً للإنسان ، ما لم تهتد فطرته إلى الحق ، وترجع إلى ربها الواحد ، وتعرف الطريق إليه ، فلا تضل عنه في السراء والضراء .

إن الضر يسقط عن الفطرة ركام الأهواء والشهوات ، ويعريها من العوامل المصطنعة التي تحجب عنها الحق الكامن فيها وفي ضمير هذا الوجود . فعندئذ ترى الله وتعرفه وتتجه إليه وحده . حتى إذا مرت الشدة وجاء الرخاء ، نسي هذا الإنسان ما قاله في الضراء ، وانحرفت فطرته بتأثير الأهواء . وقال عن النعمة والرزق والفضل : ( إنما أوتيته على علم ) . . قالها قارون ، وقالها كل مخدوع بعلم أو صنعة أو حيلة يعلل بها ما اتفق له من مال أو سلطان . غافلاً عن مصدر النعمة ، وواهب العلم والقدرة ، ومسبب الأسباب ، ومقدر الأرزاق .

( بل هي فتنة . ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . .

هي فتنة للاختبار والامتحان . ليتبين إن كان سيشكر أو سيكفر ؛ وإن كان سيصلح بها أم سيفسد ؛ وإن كان سيعرف الطريق أم يجنح إلى الضلال .

والقرآن - رحمة بالعباد - يكشف لهم عن السر ، وينبههم إلى الخطر ، ويحذرهم الفتنة . فلا حجة لهم ولا عذر بعد هذا البيان .

وهو يلمس قلوبهم بعرض مصارع الغابرين قبلهم . مصارعهم بمثل هذه الكلمة الضالة التي يقولها قائلهم : ( إنما أوتيته على علم ) . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ضُرّٞ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلۡنَٰهُ نِعۡمَةٗ مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمِۭۚ بَلۡ هِيَ فِتۡنَةٞ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (49)

الفاء لتفريع هذا الكلام على قوله : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } [ الزمر : 45 ] الآية وما بينهما اعتراض مسلسل بعضه مع بعض للمناسبات .

وتفريع ما بعد الفاء على ما ذكرناه تفريع وصف بعض من غرائب أحوالهم على بعض ، وهل أغرب من فزعهم إلى الله وحْده بالدعاء إذا مسهم الضر وقد كانوا يشمئزّون من ذكر اسمه وحده فهذا تناقض من أفعالهم وتعكيس ، فإنه تسببُ حديثثٍ على حديثثٍ وليس تسبباً على الوجود . وهذه النكتة هي الفارقة بين العطف بالفاء هنا وعطف نظيرها بالواو في قوله أول السورة { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه } [ الزمر : 8 ] . والمقصود بالتفريع هو قوله : { فإذا مَسَّ الإنسان ضُرٌ دعانا } ، وأما ما بعده فتتميم واستطراد .

وقد تقدم القول في نظير صدر هذه الآية في قوله : { وإذا مسّ الإِنسان ضرّ دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوّله نعمة منه نسي } [ الزمر : 8 ] الآية . وأن المراد بالإِنسان كل مشرك فالتعريف تعريف الجنس ، والمرادُ جماعةٌ من الناس وهم أهل الشرك فهو للاستغراق العرفي . والمخالفة بين الآيتين تفنن ولئلا تخلو إعادة الآية من فائدة زائدة كما هو عادة القرآن في القصص المكررة .

وقوله : { إنما أوتيته على علم إنَّمَا } فيه هي الكلمة المركبة من ( إنّ ) الكافة التي تصير كلمة تدل على الحصر بمنزلة ( مَا ) النافية التي بعدها ( إلاّ ) الاستثنائية . والمعنى : ما أوتيت الذي أوتيتُه من نعمة إلا لعلم منيّ بطرق اكتسابه . وتركيز ضمير الغائب في قوله : { أوتيته } عائد إلى { نِعْمَة } على تأويل حكاية مقالتهم بأنها صادرة منهم في حال حضور ما بين أيديهم من أنواع النعم فهو من عود الضمير إلى ذات مشاهدة ، فالضمير بمنزلة اسم الإِشارة كقوله تعالى : { بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم } [ الأحقاف : 24 ] .

ومعنى { قال إنما أوتيته على علم } اعتقَد ذلك فجرى في أقواله إذ القولُ على وفق الاعتقاد . و { عَلى } للتعليل ، أي لأجل عِلممٍ ، أي بسبب علم . وخولف بين هذه الآية وبين آية سورة [ القصص : 78 ] في قوله : { على علم عندي } فلم يذكر هنا عندي لأن المراد بالعلم هنا مجرد الفطْنة والتدبير ، وأريد هنالك علم صَوغ الذهب والفضة والكيمياء التي اكتسب بها قارون من معرفة تدابيرها مالاً عظيماً ، وهو علم خاص به ، وأما مَا هنا فهو العلم الذي يوجد في جميع أهل الرأي والتدبير

والمراد : العِلم بطرق الكسب ودفع الضرّ كمثل حِيَل النوتيّ في هول البحر . والمعنى : أنه يقول ذلك إذا ذكَّره بنعمة الله عليه الرسولُ أو أحدُ المؤمنين ، وبذلك يظهر موقع صيغة الحصر لأنه قصد قلب كلام من يقول له إن ذلك من رحمة الله به .

و بل } للإِضراب الإِبطالي وهو إبطال لزعمهم أنهم أوتوا ذلك بسبب علمهم وتدبيرهم ، أي بل إن الرحمة التي أوتوها إنما آتاهم الله إياها ليظهر للأمم مقدار شكرهم ، أي هي دالّة على حالة فيهم تشبه حالة الاختبار لمقدار علمهم بالله وشكرهم إياه لأن الرحمة والنعمة بها أثر في المنع عليه إمّا شاكراً وإمّا كفوراً والله عالم بهم وغنيّ عن اختبارهم .

وضمير { هِيَ } عائد إلى القول المستفاد من { قال } على طريقة إعادة الضمير على المصدر المأخوذ من فعل نحو { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] ، وإنما أُنّث ضميره باعتبار الإِخبار عنه بلفظ فتنة } ، أو على تأويل القول بالكلمة كقوله تعالى : { كلا إنها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 100 ] بعد قوله : { قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت } [ المؤمنون : 99 ، 100 ] والمراد : أن ذلك القول سبب فتنة أو مسبب عن فتنة في نفوسهم . ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى { نِعْمَة } .

والاستدراك بقوله تعالى : { ولكن أكثرهم لا يعلمون } ناشىء عن مضمون جملة { إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم } ، أي لكن لا يعلم أكثر الناس ومنهم القائلون ، أنهم في فتنة بما أُوتوا من نعمة إذا كانوا مثل هؤلاء القائلين الزاعمين أن ما هم فيه من خير نتيجةُ مساعيهم وحيلهم .

وضمير { أكثرهم } عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام إذ لم يتقدم ما يناسب أن يكون له معاداً ، والمراد به الناس ، أي لكن أكثر الناس لا يعلمون أن بعض ما أوتوه من النعمة في الدنيا يكون لهم فتنة بحسب ما يتلقونها به من قلة الشكر وما يفضي إلى الكفر ، فدخل في هذا الأكثر جميع المشركين الذين يقول كل واحد منهم : إنما أوتيته على علم .