ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة أخرى من نعمه عليهم ، وكشف لهم عن جانب من حكمته فى منع القتال بينهم وبين مشركى مكة ، وفى هدايتهم إلى هذا الصلح فقال : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ . . . بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } .
والمراد بالذين كفروا فى قوله - تعالى - : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ } مشركو قريش ، الذين منعوا النبى - صلى الله عليه وسلم - من دخول مكة ، ومن الطواف بالبيت الحرام .
والهدى : مصدر بمعنى المفعول ، أى : المهدى ، والمقصود به ما يهدى إلى بيت الله الحرام من الإِبل والبقر والغنم ، ليذبح تقربا إلى الله - تعالى - وكان مع المسلمين فى رحلتهم هذه التى تم فيها صلح الحديبية سبعين بدنة - على المشهور - ولفظ الهدى قرأ الجمهور بالنصب عطفا على الضمير المنصوب فى قوله : { صدوكم } وقرأ أبو عمرو بالجر عطفا على المسجد . .
وقوله : { مَعْكُوفاً } أى : محبوسا . يقال : عكفه يعكفه عكفا ، إذا حبسه ومنه الاعتكاف فى المسجد ، بمعنى الاحتباس فيه ، وهو حال من الهدى .
وقوله : { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } منصوب بنزع الخافض ، أى : عن أن يبلغ محله ، أى : مكانه الذى يذبح فيه وهو منى .
والتعبير بقوله : { هُمُ الذين كَفَرُواْ } تصريح بذمهم وتوبيخهم على موقفهم المشين من المؤمنين ، الذين لم يأتوا إلى مكة لحرب ، وإنما اتوا لأداء شعيرة من شعائر الله .
أى : هم فى ميزان الله واعتباره الكافرون حقا . لأنهم صدوكم ومنعوكم - أيها المؤمنون - عن دخول المسجد الحرام ، وعن الطواف به ، ولم يكتفوا بذلك ، بل منعوا الهدى المحبوس من أجل ذبحه على سبيل التقرب به إلى الله - من الوصول إلى محله الذى يذحب فيه فى العادة وهو منى .
قال القرطبى ما ملخصه : " قوله : { والهدي مَعْكُوفاً } أى : محبوسا . . { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } أى : منحره . . والمحل - بالكسر - غاية الشئ ، وبالفتح : هو الموضع الذى يحله الناس ، وكان الهدى سبعين بدنه ، ولكن الله - تعالى - بفضله جعل ذلك الموضع - وهو الحديبية - له محلا .
وفى صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال : نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة . .
وفى البخارى عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتمرين ، فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنة وحلق رأسه .
وقوله - تعالى - : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ . . } بيان لحكمة الله - تعالى - فى منع الحرب بين الفريقين .
وجواب " لولا " محذوف لدلالة الكلام عليه . والمراد بالرجال المؤمنين وبالنساء المؤمنات : سبع رجال وأمرأتان كانوا بمكة .
قال الآلوسى : " وكانوا على ما اخرج أبو نعيم بسند جيد وغيره عن أبى جمعة جنبذ بن سبع - تسعة نفر : سبعة رجال - وهم منهم - وامرأتين .
وجملة { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } صفة رجال ونساء على تغليب المذكر على المؤنث .
وقوله { أَن تَطَئُوهُمْ } بدل اشتمال من رجال ونساء ، والوطء الدَّرْس ، والمراد به هنا الإِهلاك . وقوله : { مَّعَرَّةٌ } أى : مكروه وأذى يقال عَرَّه يُعره عَرًّا ، إذا أصابه بمكروه ، وأصله من العُرِّ وهو الجرب .
والمراد به هنا : تعبير الكفار للمؤمنين بقولهم : لقد قتلتم من هم على دينكم .
والمعنى : ولولا كراهة أن تهلكوا - أيها المؤمنين - أناسا مؤمنين موجودين فى مكة بين كفارها ، وأنتم لا تعرفونهم ، فيصيبكم بسبب إهلاكهم مكروه ، لولا كل ذلك لما كف أيديكم عن كفار مكة ، بل لسلطكم عليهم لكى تقتلوهم .
واللام فى قوله - سبحانه - : { لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } متعلقة بما يدل عليه جواب لولا المقدر .
أى : لولا ذلك لما كف أيديكم عن كفار مكة ، ولكنه - سبحانه - كف أيديكم عنهم ، ليدخل فى رحمته بسبب هذا الكف من يشاء من عباده ، وعلى رأس هؤلاء العباد ، المؤمنون والمؤمنات الذين كانوا فى مكة ، والذين اقتضت رحمته أن يتمم لهم أجورهم بإخرادهم من بين ظهرانى الكفار ، ويفك أسرهم ، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب . .
كذلك قد شملت رحمته - تعالى - بعض كفار مكة ، الذين تركوا بعد ذلك الكفر ودخلوا فى الإِسلام ، كأبى سفيان وغيره من الذين أسلموا بعد فتح مكة أو بعد صلح الحديبية .
وقوله - سبحانه - : { لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } تأكيد لما دل عليه الكلام السابق ، من أن حكمته - تعالى - قد اقتضت كف أيدى المؤمنين عن الكفار ، رحمة بالمؤمنين الذين يعيشون فى مكة مع هؤلاء الكافرين .
وقوله { تَزَيَّلُواْ } أى : تميزَّوا . يقال : زِلْتُه زَيْلاً ، أى : مِزْتُه ، وزيله فتزيل أى : فرقة فتفرق أى : لو تميز هؤلاء المؤمنون والمؤمنات الذين يعيشون فى مكة عن كفارها وفارقوهم وخرجوا منها ، وانعزلوا عنهم ، لعدبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ، تارة عن طريق إهلاكهم ، وتارة عن طريق إذلالهم وأخذهم أسرى ، و " من " فى قوله { مِنْهُمْ } للبيان لا للبتعيض .
ثم يحدثهم عن خصومهم ، من هم في ميزان الله ? وكيف ينظر إلى أعمالهم وصدهم للمؤمنين عن بيته الحرام . وكيف ينظر إليهم هم عكس ما ينظر إلى خصومهم المعتدين :
هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام ، والهدي معكوفا أن يبلغ محله ، ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، أن تطأوهم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء . لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما . إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ؛ فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وألزمهم كلمة التقوى ، وكانوا أحق بها وأهلها ، وكان الله بكل شيء عليما . .
هم في ميزان الله واعتباره ، الكافرون حقا ، الذين يستحقون هذا الوصف الكريه : ( هم الذين كفروا ) . . يسجله عليهم كأنهم متفردون به ، عريقون في النسبة إليه ، فهم أكره شيء إلى الله الذي يكره الكفر والكافرين ! كذلك يسجل عليهم فعلهم الكريه الآخر ، وهو صدهم للمؤمنين عن المسجد الحرام ، وصد الهدي وتركه محبوسا عن الوصول إلى محل ذبحه المشروع :
( وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) . .
وهي كبيرة في الجاهلية وفي الإسلام . كبيرة في الأديان كلها التي يعرفونها في الجزيرة من لدن أبيهم إبراهيم . كريهة في عرفهم وفي عقيدتهم وفي عقيدة المؤمنين . . فلم يكن إذن كف الله للمؤمنين عنهم بقيا عليهم لأن جرمهم صغير . كلا ! إنما كان ذلك لحكمة أخرى يتلطف الله سبحانه فيكشف عنها للمؤمنين :
( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، أن تطأوهم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم . . )
فلقد كان هنالك بعض المستضعفين من المسلمين في مكة لم يهاجروا ، ولم يعلنوا إسلامهم تقية في وسط المشركين . ولو دارت الحرب ، وهاجم المسلمون مكة ، وهم لا يعرفون أشخاصهم ، فربما وطأوهم وداسوهم وقتلوهم . فيقال : إن المسلمين يقتلون المسلمين ! ويلزمون بدياتهم حين يتبين أنهم قتلوا خطأ وهم مسلمون . .
ثم هنالك حكمة أخرى وهي أن الله يعلم أن من بين الكافرين الذين صدوهم عن المسجد الحرام ، من قسمت له الهداية ، ومن قدر له الله الدخول في رحمته ، بما يعلمه من طبيعته وحقيقته ؛ ولو تميز هؤلاء وهؤلاء لأذن الله للمسلمين في القتال ، ولعذب الكافرين العذاب الأليم :
( ليدخل الله في رحمته من يشاء . لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) . .
وهكذا يكشف الله للجماعة المختارة الفريدة السعيدة عن جانب من حكمته المغيبة وراء تقديره وتدبيره .
{ هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدى مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } .
استئناف انتقل به من مقام الثناء على المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما اكتسبوا بتلك البيعة من رضى الله تعالى وجزائه ثواب الآخرة وخير الدنيا عاجله وآجله ، وضمان النصر لهم في قتال المشركين ، ومَا هَيَّأ لهم من أسباب النصر إلى تعيير المشركين بالمذمة التي أتوا بها وهي صد المسلمين عن المسجد الحرام وصد الهدْي عن أن يبلغ به إلى أهله ، فإنها سبة لهم بين العرب وهم أولى الناس بالحفاوة بمن يعتمرون ، وهم يزعمون أنهم أهل حرم الله زواره ومعظّميه ، وقد كان من عادتهم قبول كل زائر للكعبة من جميع أهل الأديان ، فلا عذر لهم في منع المسلمين ولكنهم حملتهم عليه الحمية .
وضمير الغيبة المفتتح به عائد إلى الذين كفروا من قوله : { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار } [ الفتح : 22 ] الآية . والمقصود بالافتتاح بضميرهم هنا لاسترعاء السمع لما يرد بعده من الخبر كما إذا جره حديث عن بطل في يوم من أيام العرب ثم قال قائل عثرة هو البطن المحامي .
والمقصود من الصلة هو جملة { صدوكم عن المسجد الحرام } وذكر { الذين كفروا } إدماج للنداء عليهم بوصف الكفر ولهذا الإدماج نكتة أيضاً ، وهي أن وصف الذين كفروا بمنزلة الجنس صار الموصول في قوة المعرف بلام الجنس فتفيد جملة { هم الذين كفروا } قصر جنس الكفر على هذا الضمير لقصد المبالغة لكمالهم في الكفر بصدهم المعتمرين عن المسجد الحرام وصد الهدي عن أن يبلغ محله .
والهديُ : ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام ، وهو من التسمية باسم المصدر ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع كحكم المصدر قال تعالى : { والهَدْي والقلائد } [ المائدة : 97 ] أي الأنعام المهدية وقلائدها وهو هنا الجمع .
والمعكوفُ : اسم مفعول عَكَفه ، إذ ألزمَه المكث في مكان ، يقال : عكفه فعكَف فيستعمل قاصراً ومتعدياً عن ابن سِيده وغيره كما يقال : رجَعه فرجَع وجَبره فجَبر . وقال أبو علي الفارسي : لا أعرف عكف متعدياً ، وتأول صيغة المفعول في قوله تعالى : { معكوفاً } على أنها لتضمين عكَف معنى حبس . وفائدة ذكر هذا الحال التشنيع على الذين كفروا في صدهم المسلمين عن البيت بأنهم صدوا الهدايا أن تبلغ محلها حيث اضطّر المسلمون أن ينحروا هداياهم في الحديبية فقد عطلوا بفعلهم ذلك شعيرة من شعائر الله ، ففي ذكر الحال تصوير لهيئة الهدايا وهي محبوسة .
ومعنى صدهم الهدي : أنهم صدوا أهل الهدي عن الوصول إلى المنحر من منى . وليس المراد : أنهم صدوا الهدايا مباشرة لأنه لم ينقل أن المسلمين عرضوا على المشركين تخلية من يذهب بهداياهم إلى مكة لِتُنحر بها .
وقوله : { أن يبلغ محله } أن يكون بدل اشتمال من { الهدي } ويجوز أن يكون معمولاً لِحرف جر محذوف وهو ( عن ) ، أي عن أن يبلغ محله .
والمحِلّ بكسر الحاء : محلّ الحِل مشتق من فعل حَلّ ضد حرُم ، أي المكان الذي يحِلّ فيه نحر الهدي ، وهو الذي لا يُجزىءُ غيره ، وذلك بمكة بالمروة بالنسبة للمعتمر ، ولذلك لما أُحصروا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحروا هديهم في مكانهم إذ تعذر إبلاغه إلى مكة لأن المشركين منعوهم من ذلك . ولم يثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بتوخّي جهة معينة للنحر من أرض الحديبية ، وذلك من سماحة الدين فلا طائل من وراء الخوض في اشتراط النحر في أرض الحرم للمحصرَ .
{ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أليما } .
أتبع النعي على المشركين سُوءَ فعلهم من الكفر والصد عن المسجد الحرام وتعطيل شعائر الله وَعْدَهُ المسلمين بفتح قريب ومغانم كثيرة ، بما يدفع غرور المشركين بقوتهم ، ويسكن تطلع المسلمين لتعجيل الفتح ، فبيّن أن الله كف أيدي المسلمين عن المشركين مع ما قرره آنفاً من قوله : { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً } [ الفتح : 22 ] أنه إنما لم يأمر المسلمين بقتال عدوهم لمّا صدوهم عن البيت لأنه أراد رحمة جمع من المؤمنين والمؤمنات كانوا في خلال أهل الشرك لا يَعلمونهم ، وعصم المسلمين من الوقوع في مصائب من جراء إتلاف إخوانهم ، فالجملة معطوفة على جملة { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار } أو على جملة { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم } [ الفتح : 24 ] الخ . وأيًّا مَّا كان فهي كلام معترض بين جملة { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام } الخ وبين جملة { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية } [ الفتح : 26 ] . ونظم هذه الآية بديع في أسلوبي الإطناب والإيجاز والتفنن في الانتقال ورشاقة كلماته .
و { لولا } دالة على امتناععٍ لوجودٍ ، أي امتنع تعذيبُنا الكافرين لأجل وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات بينهم . وما بعد { لولا } مبتدأ وخبره محذوف على الطريقة المستعملة في حذفه مع { لولا } إذا كان تعليق امتناع جوابها على وجود شرطها وجوداً مطلقاً غير مقيد بحال ، فالتقدير : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات موجودون ، كما يدل عليه قوله بعده { لو تزيَّلوا } ، أي لو لم يكونوا موجودين بينهم ، أي أن وجود هؤلاء هو الذي لأجله امتنع حصول مضمون جواب { لولا } .
وإجراء الوصف على رجال ونساء بالإيمان مشير إلى أن وجودهم المانع من حصول مضمون الجواب هو الوجود الموصوف بإيمان أصحابه ، ولكن الامتناع ليس معلقاً على وجود الإيمان بل على وجود ذوات المؤمنين والمؤمنات بينهم .
وكذلك قوله : { لم تعلموهم } ليس هو خبراً بل وصفاً ثانياً إذ ليس محط الفائدة .
ووجه عطف { نساء مؤمنات } مع أن وجود { رجال مؤمنون } كاف في ربط امتناع الجواب بالشرط ومع التمكن من أن يقول : ولولا المؤمنُون ، فإن جمع المذكر في اصطلاح القرآن يتناول النساء غالباً ، أن تخصيص النساء بالذكر أنسب بمعنى انتفاء المعرة بقتلهن وبمعنى تعلق رحمة الله بهن .
ومعنى { لم تعلموهم } لم تعملوا إيمانهم إذ كانوا قد آمنوا بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً .
فعن جُنْبُذٍ بجيم مضمومة ونون ساكنة وموحدة مضمومة وذال معجمة بن سَبُع بسين مهملة مفتوحة وموحدة مضمومة ، ويقال : سِباع بكسر السين يقال : إنه أنصاري ، ويقال : قاري صاحبي قال : هم سبعة رجال سمي منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة وأبو جندل بن سُهيل وأبو بَصِير القرشي ولم أقف على اسم السابع وعُدَّتْ أمّ الفضل زوجُ العباس بن عبد المطلب ، وأحسب أن ثانيتهما أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط التي لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع إلى المدينة . وعن حَجَر بن خلف : ثلاثة رجال وتسع نسوة ، ولفظ الآية يقتضي أن النساء أكثر من اثنتين . والظاهر أن المراد بقوله : { لم تعلموهم } ما يشمل معنى نفي معرفة أشخاصهم ومعنى نفي العلم بما في قلوبهم ، فيفيد الأول أنهم لا يعلمهم كثير منكم ممن كان في الحديبيّة من أهل المدينة ومن معهم من الأعراب فهم لا يعرفون أشخاصهم فلا يعرفون من كان منهم مؤمناً إن كان يعرفهم المهاجرون ، ويفيد الثاني أنهم لا يعلمون ما في قلوبهم من الإيمان أو ما أحدثوه بعد مفارقتهم من الإيمان ، أي لا يعلم ذلك كله الجيش من المهاجرين والأنصار .
و { أن تطأوهم } بدل اشتمال من { رجال } ومعطوفه ، أو من الضمير المنصوب في { لم تعلموهم } أي لولا أن تطئوهم .
والوطء : الدوس بالرِجل ، ويستعار للإبادة والإهلاك ، وقد جمعهما الحارث بن وعْلَة الذُهلي في قوله :
ووطِئْتَنا وَطْأَ على حَنَق *** وَطْءَ المقيَّدِ نَابتَ الهِرْم
و ( مِن ) في قوله : { منهم } للابتداء المجازي الراجع إلى معنى التسبب ، أي فتلحقكم من جرائهم ومن أجلهم مَعرة كنتم تتقون لحاقها لو كنتم تعلمونهم .
والمعرة : مصدر ميمي من عَرّه ، إذا دهاه ، أي أصابه بما يكرهه ويشق عليه من ضر أو غرم أو سوء قالة ، فهي هنا تجمع ما يلحقهم إذا ألحقوا أضراراً بالمسلمين من دِيَاتتِ قتْلَى ، وغُرم أضرار ، ومن إثم يلحق القاتلين إذا لم يتثبَّتوا فيمن يقتلونه ، ومن سوء قالة يقولها المشركون ويشيعونها في القبائل أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم ينج أهل دينهم من ضرهم لِيُكَرِّهُوا العرب في الإسلام وأهله .
والباء في { بغير علم } للملابسة ، أي ملابسين لانتفاء العلم .
والمجرور بها متعلق ب { تصيبكم } ، أي فتلحقكم من جرّائهم مَكاره لا تعلمونها حتى تَقعوا فيها . وهذا نفي علم آخر غير العلم المنفي في قوله : { لم تعلموهم } لأن العلم المنفي في قوله : { لم تعلموهم } هو العلم بأنهم مؤمنون بالذي انتفاؤه سبب إهلاك غير المعلومين الذي تسبب عليه لحاق المعرة . والعلم المنفي ثانياً في قوله : { بغير علم } هو العلم بلحاق المعرة من وطأتهم التابع لعدم العلم بإيمان القوم المهلَكين وهو العلم الذي انتفاؤه يكون سبباً في الإقدام على إهلاكهم .
واللام في قوله : { ليدخل اللَّه في رحمته من يشاء } للتعليل والمعلل واقع لا مفروض ، فهو وجود شرط { لولا } الذي تسبب عليه امتناع جوابها فالمعلل هو ربط الجواب بالشرط ، أي لولا وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لعذبنا الذين كفروا وأن هذا الربط لأجل رحمة الله من يشاء من عباده إذ رحم بهذا الامتناع جيش المسلمين بأن سلمهم من معرة تلحقهم وأن أبقى لهم قوتهم في النفوس والعدة إلى أمد معلوم ، ورحم المؤمنين والمؤمنات بنجاتهم من الإهلاك ، ورحم المشركين بأن استبقاهم لعلهم يسلمون أو يسلم أكثرهم كما حصل بعد فتح مكة ، ورحم من أسلموا منهم بعد ذلك بثواب الآخرة ، فالرحمة هنا شاملة لرحمة الدنيا ورحمة الآخرة .
و { من يشاء } يعمّ كل من أراد الله من هذه الحالة رحمته في الدنيا والآخرة أو فيهما معاً . وعبر ب { من يشاء } لما فيه من شمول أصناف كثيرة ولما فيه من الإيجاز ولما فيه من الإشارة إلى الحكمة التي اقتضت مشيئة الله رحمة أولئك .
وجواب { لولا } يجوز اعتباره محذوفاً دل عليه جواب { لو } المعطوفة على { لولا } في قوله : { لو تزيلوا } ، ويجوز اعتبار جواب { لو } مرتبطاً على وجه تشبيه التنازع بين شرطي { لولا } و { لو } لمرجع الشرطين إلى معنى واحد وهو الامتناع فإن { لولا } حرف امتناع لوجود أي تدلّ على امتناع جوابها لوجود شرطها . و { لو } حرف امتناع لامتناع ، أي تدل على امتناع جوابها لامتناع شرطها فحكم جوابيهما واحد ، وهو الامتناع ، وإنما يَختلف شرطاهما فشرط { لو } منتف وشرط { لولا } مثبت .
وضمير { تزيلوا } عائد إلى ما دل عليه قوله : { ولولا رجال مؤمنون } الخ من جمع مختلط فيه المؤمنون والمؤمنات مع المشركين كما دل عليه قوله : { لم تعلموهم } .
والتزيَّل : مطاوع زيَّله إذا أبعده عن مكان ، وزيلهم ، أي أبعد بعضهم عن بعض ، أي فرقهم قال تعالى : { فزيلنا بينهم } [ يونس : 28 ] وهو هنا بمعنى التفرق والتميز من غير مراعاة مطاوعة لفعل فاعل لأن أفعال المطاوعة كثيراً ما تطلق لإرادة المبالغة لدلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى وذلك أصل من أصول اللغة .
والمعنى : لو تفرق المؤمنون والمؤمنات عن أهل الشرك لسلَّطنْا المسلمين على المشركين فعذّبوا الذين كفروا عذاب السيف . فإسناد التعذيب إلى الله تعالى لأنه يأمر به ويقدر النصر للمسلمين كما قال تعالى : { قاتلوهم يعذبْهم بأيديكم } في سورة براءة ( 14 ) .
و ( مِن ) في قوله : { منهم } للتبعيض ، أي لعذبنا الذين كفروا من ذلك الجمع المتفرق المتميز مؤمنهم عن كافرهم ، أي حين يصير الجمع مشركين خلّصا وحدهم .
وجملة { لو تزيلوا } إلى آخرها بيان لجملة { ولولا رجال مؤمنون } إلى آخرها ، أي لولا وجود رجال مؤمنين الخ مندمجين في جماعة المشركين غير مفترقين لو افترقوا لعذبنا الكافرين منهم .
وعدل عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله : { لعذبنا الذين كفروا } على طريقة الالتفات .