{ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } .
ومعنى المقدسة : المطهرة المباركة بسبب أنها كانت موطنا لكثير من الأنبياء .
والمراد بها . بيت المقدس وقيل المراد بها : اريحاء وقيل : الطور وما حوله .
قال ابن جرير : وهي لا تخرج عن أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر ، لإجماع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار على ذلك .
ومعنى { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } : قدر لكم سكناها ، ووعدكم إياها متى آمنتم به وأطعتم أنبياءه ، أو معناه : فرض عليكم دخولها وأمركم به كما أمركم بأداء الصلاة والزكاة - وسنفصل القول في هذه المسألة بعد تفسيرنا للآيات - .
ومفعول ( كتب ) محذوف . أي كتب لكم أن تدخلوها وفرض عليكم دخولها لإِنقاذكم من الأهوال التي نزلت بكم في أرض مصر من فرعون وجنده .
وقد تعدى فعل ( كتب ) هنا باللام دون على ، للإِشارة إلى أن ما فرضه عليهم إنما هو لمنفعتهم ولعزتهم ورفعة شأنهم .
وفي تكرير النداء من موسى لهم بقوله : { يَاقَوْمِ } مبالغة في حثهم على الامتثال لما يأمرهم به ، وتنبيه إلى خطر ما يدعوهم إليه وعظم شأنه .
وقوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فيه حض شديد لهم على الاستجابة لأمره ، وإغراء لهم بالنصر والفوز ، لأن الذي كتب لهم أن يدخلوها متى آمنوا وأطاعوا هو الله الذي لا معقب لحكمه .
قال الإِمام الرازي : في قوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فائدة عظيمة . وهي أن القوم كانوا جبارين إلا أن الله - تعالى - لما وعد هؤلاء الضعفاء بأن تلك الأرض لهم ، فإن كان مؤمنين مقرين بصدق موسى - عليه السلام - علموا قطعا أن الله ينصرهم عليهم ، فلا بد وأن يقدموا على قتالهم من غير جبن ولا خوف ولا هلع " .
وقوله - تعالى - : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } تحذير لهم من الجبن والإِحجام ، بعد ترغيبهم الشديد في الشجاعة والإِقدام .
وقوله ( ترتدوا ) من الارتداد وهو الرجوع إلى الخلف .
و ( الأدبار ) جمع دبر وهو الظهر .
وهذا التعبير استعارة تمثيلية فيها تشبيه حال من يرجع عن الجهاد بعد أن توافرت أسبابه ، يحال من يتراجع سائرا بظهره إلى الوراء ، بدل أن يسير بوجهه إلى الأمام . وهذا التعبير يصور قبح الجبن والتخاذل حسا ومعنى .
وقوله ( فتنقلبوا ) من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشيء وهو مجزوم عطفا على فعل النهي وهو { وَلاَ تَرْتَدُّوا } .
والمعنى : أمضوا أيها القوم لأمر الله ، وسيروا خلفي لقتال الأعداء ودخول الأرض المقدسة التي أمركم - سبحانه - بدخولها ، ولا ترجعوا القهقري منصرفين عن القتال خوفا من أعدائكم ، ومبتعدين عن طاعتي وأمري ، فإن ذلك يؤدي بكم إلى الخسران في الدنيا والآخرة ، وإلى الحرمان من خيرات الأرض التي أوجب الله عليكم دخولها .
قال ابن جرير : فإن قال قائل : وما كان وجه قيل موسى لقومه إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } أو يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضا جعلت له ؟ قيل : إن الله - تعالى - كان أمره بقتال من فيها من أهل الكفر به ، وفرض عليهم دخولها ، فاستوجب القوم الخسارة بتركهم فرض عليهم من وجهين :
أحدهما : تضييع فرض الجهاد الذي كان الله فرضه عليهم .
والثاني : مخالفتهم أمر الله في تركهم دخول الأرض المقدسة .
هذا ، وقد جاءت هذه الجملة الكريمة ، وهي قوله - تعالى - : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } تحمل طابع التحذير الشديد ، وتنذرهم بالخسران المبين إذا لم يستجيبوا لأمر الله بعد أن ساق سلهم موسى ألوانا من المشجعات والمرغبات في الجهاد ، وذلك لأنه - عليه السلام - كان متوقعاً منهم الإِحجام عن القتال ، بعد أن جرب عنادهم وعصيانهم ونكوصهم على أعقابهم في مواطن كثيرة ، فهذه التجارب جعلته وهو يأمرهم بدخول الأرض المقدسة يذكر لهم أكبر النعم ويسوق لهم أكرم الذكريات وأقوى الضمانات وأشد التحذيرات لكي يقبلوا على الجهاد بعزيمة صادقة .
لقد جربهم في مواطن كثيرة طوال الطريق الطويل . . ثم ها هو ذا معهم على أبواب الأرض المقدسة . أرض الميعاد التي من أجلها خرجوا . الأرض التي وعدهم الله أن يكونوا فيها ملوكا ، وأن يبعث من بينهم الأنبياء فيها ليظلوا في رعاية الله وقيادته . .
لقد جربهم فحق له أن يشفق ، وهو يدعوهم دعوته الأخيرة ، فيحشد فيها ألمع الذكريات ، وأكبر البشريات ، وأضخم المشجعات وأشد التحذيرات :
( يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ) . .
نعمة الله . ووعده الواقع من أن يجعل فيهم أنبياء ويجعلهم ملوكا . وإيتاءه لهم بهذا وذلك ما لم يؤت أحدا من العالمين حتى ذلك التاريخ . والأرض المقدسة التي هم مقدمون عليها مكتوبة لهم بوعد الله . فهي إذن يقين . . وقد رأوا من قبل كيف صدقهم الله وعده . وهذا وعده الذي هم عليه قادمون . . والارتداد على الأدبار هو الخسران المبين . .
قوله : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة } هو الغرض من الخطاب ، فهو كالمقصد بعد المقدّمة ، ولذلك كرّر اللفظ الذي ابتدأ به مقالته وهو النداء ب { يَا قَوم } لزيادة استحضار أذهانهم . والأمر بالدخول أمر بالسعي في أسبابه ، أي تهيَّأوا للدخول . والأرض المقدّسة بمعنى المطهّرة المباركة ، أي الّتي بارك الله فيها ، أو لأنّها قُدّست بدفن إبراهيم عليه السلام في أوّل قرية من قراها وهي حَبْرون .
وهي هنا أرض كنعان من برية ( صِين ) إلى مدخل ( حَمَاة وإلى حبرون ) . وهذه الأرض هي أرض فلسطين ، وهي الواقعة بين البحر الأبيض المتوسّط وبين نهر الأردن والبحر الميت فتنتهي إلى ( حماة ) شمالاً وإلى ( غَزّة وحبرون ) جنوباً . وفي وصفها ب { التي كتب الله } تحريض على الإقدام لدخولهَا .
ومعنى { كتب الله } قَضَى وقدّر ، وليس ثمّة كتابة ولكنّه تعبير مجازي شائع في اللّغة ، لأنّ الشيء إذا أكده الملتزم به كتبه ، كما قال الحارث بن حلّزة :
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
فأطلقت الكتابة على ما لا سبيل لإبطاله ، وذلك أنّ الله وعد إبراهيم أن يورثها ذرّيته . ووعدُ الله لا يُخلف .
وقوله : { ولا ترتَدّوا على أدباركم } تحذير ممّا يوجب الانهزام ، لأنّ ارتداد الجيش على الأعقاب من أكبر أسباب الانخذال . والارتداد افتعال من الردّ ، يقال : ردّه فارتدّ ، والردّ : إرجاع السائر عن الإمضاء في سيره وإعادته إلى المكان الذي سار منه . والأدبار : جمع دُبُر ، وهو الظهر . والارتداد : الرجوع ، ومعنى الرجوع على الأدبار إلى جهة الأدبار ، أي الوراء لأنّهم يريدون المكان الذي يمشي عليه الماشي وهو قد كان من جهة ظهره ، كما يقُولون : نكص على عقبيه ، وركبوا ظهورهم ، وارتدّوا على أدبارهم ، وعلى أعقابهم ، فعدّي ب { على } الدالّة على الاستعلاء ، أي استعلاء طريق السير ، نزّلت الأدبار الّتي يكون السير في جهتها منزلة الطريق الّذي يسار عليه .
والانقلاب : الرجوع ، وأصله الرجوع إلى المنزل قال تعالى : { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل } [ آل عمران : 174 ] . والمراد به هنا مطلق المصير .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.