التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ} (4)

وقوله - تعالى - { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } جواب القسم بتقدير اللام وقد .

أى : وحق السماء ذات البروج ، وحق اليوم الموعود ، وحق الشاهد والمشهود ، لقد قتل ولعن أصحاب الأخدود ، وطردوا من رحمة الله بسبب كفرهم وبغيهم .

والأخدود : وهو الحفرة العظيمة المستطيلة فى الأرض ، كالخندق ، وجمعه أخاديد ، ومنه الخد لمجارى الدمع ، والمخدة : لأن الخد يوضع عليها .

ويقال : تخدد وجه الرجل ، إذا صارت فيه التجاعيد . . ومنه قول الشاعر :

ووجه كأن الشمس ألقت رداءها . . . عليه ، نقى اللون لم يتخدد

وقيل : إن جواب القسم محذوف ، دل عليه قوله - تعالى - : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء إن كفار مكة لملعونون كما لعن أصحاب الأخدود .

وأصحاب الأخدود : هم قوم من الكفار السابقين ، حفروا حفرا مستطيلة فى الأرض ، ثم أضرموها بالنار ، ثم ألقوا فيها المؤمنين ، الذين خالفوهم فى كفرهم ، وأبوا إلا إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ} (4)

وبعد رسم هذا الجو ، وفتح هذا المجال ، تجيء الإشارة إلى الحادث في لمسات قلائل :

( قتل أصحاب الأخدود . النار ذات الوقود . إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود . وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . الذي له ملك السماوات والأرض ، والله على كل شيء شهيد ) . .

وتبدأ الإشارة إلى الحادث بإعلان النقمة على أصحاب الأخدود : ( قتل أصحاب الأخدود ) . . وهي كلمة تدل على الغضب . غضب الله على الفعلة وفاعليها . كما تدل على شناعة الذنب الذي يثير غضب الحليم ، ونقمته ، ووعيده بالقتل لفاعليه .

/خ9

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ} (4)

وجواب القسم قيل محذوف لدلالة قوله : { قتل أصحاب الأخدود } عليه والتقدير أنهم ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود . وقيل : تقديره : أن الأمر لحق في الجزاء على الأعمال : أو لتبعثن .

وقيل : الجواب مذكور فيما يلي فقال الزجاج : هو { إن بطش ربك لشديد } [ البروج : 12 ] ( أي والكلام الذي بينهما اعتراض قصد به التوطئة للمقسم عليه وتوكيد التحقيق الذي أفاده القسم بتحقيق ذكر النظير ) . وقال الفراء : الجواب : { قُتل أصحاب الأخدود } ( أي فيكون قُتِلَ خَبَراً لادعاء وَلا شتماً ولا يلزم ذكر ( قد ) في الجواب مع كون الجواب ماضياً لأن ( قد ) تحذف بناء على أن حذفها ليس مشروطاً بالضرورة ) .

ويتعين على قول الفراء أن يكون الخبر مستعملاً في لازم معناه من الإِنذار للذين يَفتنون المؤمنين بأن يحلّ بهم ما حلّ بفاتني أصحاب الأخدود ، وإلا فإن الخبر عن أصحاب الأخدود لا يحتاج إلى التوكيد بالقسم إذ لا ينكره أحد فهو قصة معلومة للعرب .

وانتساق ضمائر جمع الغائب المرفوعة من قوله : { إذ هم عليها قعود } إلى قوله : { وما نقموا } يقتضي أن يكون أصحاب الأخدود وَاضعيه لتعذيب المؤمنين .

وقيل : الجواب هو جملة : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] فيكون الكلام الذي بينهما اعتراضاً وتوطئة على نحو ما قررناه في كلام الزجاج .

وقوله : { قتل أصحاب الأخدود } صيغته تشعر بأنه إنشاء شتم لهم شتم خزي وغضب وهؤلاء لم يُقتلوا ففعل قُتِل ليس بخبر بل شتم نحو قوله تعالى : { قُتل الخرّاصون } [ الذاريات : 10 ] . وقولهم قاتله الله ، وصدوره من الله يفيد معنى اللعن ويدل على الوعيد لأن الغضب واللعن يستلزمان العقاب على الفعل الملعون لأجله .

وقيل : هو دعاء على أصحاب الأخدود بالقتل كقوله تعالى : { قتل الإنسان ما أكفره } [ عبس : 17 ] والقَتل مستعار لأشد العذاب كما يقال : أهلكه الله ، أي أوقعه في أشد العناء ، وأيَّاً مَّا كان فجملة { قتل أصحاب الأخدود } على هذا معترضة بين القسم وما بعده .

ومَن جَعل { قتل أصحاب الأخدود } جواب القسم جعل الكلام خبراً وقدَّره لقد قتل أصحاب الأخدود ، فيكون المراد من أصحاب الأخدود الذين أُلقوا فيه وعُذبوا به ويكون لفظ أصحاب مستعملاً في معنى مجرد المقارنة والملازمة كقوله تعالى : { يا صاحبي السجن } [ يوسف : 39 ] وقد علمتَ آنفاً تَعيُّن تأويل هذا القول بأن الخبر مستعمل في لازم معناه .

ولفظ { أصحاب } يُعمّ الآمرين بجعل الأخدود والمباشرين لِحفره وتسعيره ، والقائمين على إلقاء المؤمنين فيه .

وهذه قصة اختلف الرواة في تعيينها وفي تعيين المراد منها في هذه الآية .

والروايات كلها تقتضي أن المفتونين بالأخدود قوم اتبَعوا النصرانية في بلاد اليمن على أكثر الروايات ، أو في بلاد الحبشة على بعض الروايات ، وذُكرتْ فيها روايات متقاربة تختلف بالإِجمال والتفصيل ، والترتيب ، والزيادة ، والتعيين وأصحّها ما رواه مسلم والترمذي عن صُهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قصَّ هذه القصة على أصحابه . وليس فيما رُوي تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقها تفسيراً لهذه الآية والترمذي ساق حديثها في تفسير سورة البروج .

وعن مقاتل كان الذين اتخذوا الأخاديد في ثلاث من البلاد بنجران ، وبالشام ، وبفارس ، أما الذي بالشام ف ( انطانيوس ) الرومي وأما الذي بفارس فهو ( بختنصر ) والذي بنجران فيوسف ذو نواس ولنذكر القصة التي أشار إليها القرآن تؤخذ من « سيرة ابن إسحاق » على أنها جرت في نجران من بلاد اليمن ، وأنه كان مَلِكٌ وهو ذو نواس له كاهن أو ساحر . وكان للساحر تلميذ اسمه عبد الله بن الثامر وكان يَجِد في طريقه إذا مشى إلى الكاهن صومعة فيها راهب كان يعبد الله على دين عيسى عليه السّلام ويقرأ الإنجيل اسمه ( فَيْمِيُون ) بفاء ، فتحتية ، فميم ، فتحتية ( وضبط في الطبعة الأوروبية من « سيرة ابن إسحاق » التي يلوح أن أصلها المطبوعة عليه أصل صحيح ، بفتح فسكون فكسر فضم ) قال السهيلي : ووقع للطبري بقاف عوض الفاء .

وقد يحرف فيقال ميمون بميم في أوله وبتحتية واحدة ، أصله من غسان من الشام ثم سَاح فاستقر بنجران ، وكان منعزلاً عن الناس مختفياً في صومعته وظهرت لعبد الله في قومه كرامات . وكان كلما ظهرت له كرامة دعا من ظهرتْ لهم إلى أن يتبعوا النصرانية ، فكثر المتنصرون في نجران وبلغ ذلك المَلكَ ذا نُواس وكان يهودياً وكان أهل نجران مشركين يعبدون نخلة طويلة ، فقتل الملك الغلامَ وقَتَل الراهب وأمر بأخاديد وجُمع فيها حَطب وأُشعلت ، وعُرض أهل نجران عليها فمن رجع عن التوحيد تركه ومن ثبت على الدين الحق قذفه في النار .

فكان أصحاب الأخدود ممن عُذِّب من أهلِ دين المسيحية في بلاد العرب . وقِصص الأخاديد كثيرة في التاريخ ، والتعذيب بالحرق طريقة قديمة ، ومنها : نار إبراهيم عليه السلام . وأما تحريق عَمرو بن هند مائةً من بني تميم وتلقيبُه بالمحرق فلا أعرف أن ذلك كان باتخاذ أخدود . وقال ابن عطية : رأيت في بعض الكتب أن أصحاب الأخدود هو مُحرق وآله الذي حَرق من بني تميم مائةً .

و{ الأخدود } : بوزن أُفعول وهو صيغة قليلة الدوران غيرُ مقيسة ، ومنها قولهم : أفحوص مشتق من فحصت القطاة والدجاجةُ إذا بحثت في التراب موضعاً تَبيض فيه ، وقولُهم أسلوب اسم لطريقة ، ولسطر النّخل ، وأقنوم اسم لأصل الشيء . وقد يكون هذا الوزن مع هاء تأنيث مثل أكرومة ، وأعجوبة ، وأُطروحة وأضحوكة .