وبذلك تكون الآية الكريمة قد ذكرت بني إسرائيل بنعمة جليلة ، ونصحتهم بأن يعملوا على شكرها : وحذرتهم عاقبة الإِفساد في الأرض وجحودهم النعمى واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير :
ثم ذكرهم - سبحانه - بما كان منهم من جحود النعمة واستخفافهم بها وإيثارهم - بسوء اختيارهم - ما هو أدنى على ما هو خير ، فقال تعالى :
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يا موسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ . . . }
الصبر : حبس النفس على الشيء ، بمعنى إلزامها إياه ، ومنه الصبر على الطاعات ، أو يطلق على حبسها بمعنى كفها . ومنه الصبر عن المعاصي . والطعام : ما رزقوه في التيه من المن والسولى : والبقل : ما تنبته الأرض من الخضر مما يأكله الناس والأنعام من نحو النعناع والكراث وغيرهما . والقوم : قيل هو الثوم ، وقيل هو الحنطة . والقثاء : نوع من المأكولات أكبر حجماً من ( الخيار ) .
قال ابن جرير : ( وكان سبب مسألتهم موسى - عليه السلام - ذلك فيما بلغنا عن قتادة أنه قال : كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى : فملوا ذلك وذكروا عيشاً كان لهم بمصر ، فسألوه موسى ، فقال الله تعالى : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } .
ثم ساق ابن جرير رواية ، فيها تصريح بأن سؤالهم لم يكن في البرية بل كان في التيه فقال : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : أنبأنا . ابن زيد قال :
" كان طعام بني إسرائيل في التيه واحداً ، وشرابهم واحداً . كان شرابهم عسلاً ينزل لهم من السماء يقال له المن ، وطعامهم طير يقال له السلوى ، يأكلون الطير ويشربون العسل ، لم يكونوا يعرفون خبزاً ولا غيره ، فقالوا يا موسى : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } : " لما سئموا من الإِقامة في التيه . والمواظبة على مأكول واحد لبعدهم عن الأرض التي ألفوها ، وعن العوائد التي عهدوها ، أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك ، وتشوقهم إلى ما كانوا يألفون ، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم " .
وقال صاحب الكشاف : " كانوا أهل فلاحة فنزعوا إلى عكرهم - فأجموا - أي ملوا وكرهوا - ما كانوا فيه من النعمى وطلبت أنفسهم عدم البقاء { على طَعَامٍ وَاحِدٍ } أرادوا ما رزقوه في التيه من المن والسلوى " .
ومعنى الآية الكريمة إجمالاً : وذاكروا يا بني إسرائيل بعد أن أسبغنا عليكم نعمنا ما كان من سوء اختيار أسلافكم ، وفساد أذواقكم ، وإعناتكم لنبيهم موسى - عليه السلام - حيث قالوا له ببطر وسوء أدب : لن نصبر على طعام المن والسلوى في كل وقت ، فسل ربك أن يخرج لنا مما تنبته الأرض من خضرها وفاكهتها وحنطتها وعدسها وبصلها ، لأن نفوسنا قد عافت المن والسلوى ، فوبخهم نبيهم موسى - عليه السلام - بقوله : أتختارون الذي هو أقل فائدة وأدنى لذة ، وتتركون المن والسلوى وهو خير مما تطلبون لذة وفائدة ؟ انزلوا إلى مصر من الأمصار فإنكم تجدون به ما طلبتموه من البقول وأشباهها .
وأحاطت ببني إسرائيل المهانة والاستكانة كما تحيط القبة بمن ضربت عليه ، وحق عليهم غضب الله .
ثم بين الله - تعالى - السبب في جحودهم للنعم وفي أنه ضرب عليهم الذلة والمسكنة وأنزل عليهم غضبه بقوله :
{ ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } إلخ أي : إن الكفر بآيات الله قد تأصل فيهم ، وقتل أنبيائهم بغير الحق قد تكرر منهم حتى صار كالطبيعة الثانية والسجية الثابتة ، فليس غريباً على هؤلاء أن يقولوا لن نصبر على المن والسلوى وأن ينزل بهم غضب الله ونقمته من أجل جحودهم وكفرهم .
وقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } تذكير لهم برغبة من رغباتهم الناشئة عن ذوق سقيم . لا يقدر النعمى قدرها ، وفيه انتقال من تعداد النعم عليهم إلى بيان موفقهم الجحودي منها ، وانسياقهم وراء شهواتهم وأهوائهم وحماقاتهم ، وفيه إشعار بسوء أدبهم في مخاطبتهم لنبيهم موسى - عليه السلام - إذ عبروا عن عدم رغبتهم في تناول المن والسلوى بحرف { لَن } المفيد تأكيد النفي فقالوا : { لَن نَّصْبِرَ } . . إلخ فكأنهم يقولن له مهددين ، ليلجئوه إلى دعاء ربه سريعاً : إننا ابتداء من هذا الوقت الذي نخاطبك فيه إلى أن نموت ، لن نحبس أنفسنا عن كراهية على تناول طعام واحد ، لأننا قد سئمناه ومللناه ، ولن نعود إليه : فالتعبير " بلن " يشعر بشدة ضجرهم ، وبلوغ الكراهية لهذا الطعام منهم منتهاها .
قال الحسن البصري - رضي الله عنه - : " بطروا طعم المن والسلوى فلم يصبروا عليه ، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه ، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقل وثوم " .
ووصفوه بالوحدة مع أن المن والسلوى نوعان ، لأنهم أرادوا من الوحدة أنه طعام متكرر في كل يوم لا يختلف بحسب الأوقات ، والعرب تقول لمن يفعل على مائدته في كل يوم من الطعام أنواعاً لا تتغير ، إنه يأكل من طعام واحد .
وسألوا موسى - عليه السلام - أن يدعو لهم ، لأن دعاء الأنبياء أقرب إلى الإجابة من دعاء غيرهم ، وكذلك دعاء الصالحين ، حيث يصدر من قلوب عامرة بتقوى الله وجلاله ، فيلاقى من الإِجابة ما لا يلاقيه دعاء نفوس تستهويها الشهوات ، وتستولي عليها السيئات .
وقولهم : { فادع لَنَا رَبَّكَ } ولم يقولوا ربنا ، لعدم رسوخ الإِيمان في قلوبهم ، ولأنه سبحانه - قد اختصه بما لم يعط مثله من مناجاته وتكميله وإيتائه التوراة .
وقولهم : { يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } هو مضمون ما طلبوه من موسى - عليه السلام - وهو في معنى مقول قول محذوف والتقدير : أي قل لربك يخرج لنا .
وجاء التعبير بالفعل { يُخْرِجْ } مجزوماً - مع أن مقتضى الظاهر أن يقال : " أن يخرج - للإِيماء إلى أنهم واثقون بأنه إن دعا ربه أجابه ، حتى لكأن إخراج ما تنبت الأرض متوقف على مجرد دعاء موسى ربه ، وأنه لو لم يدع لهم ، لكان شحيحاً عليهم بما فيه نفعهم .
والجملة الكريمة : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ } من مقول موسى - عليه السلام - لهم ، وفيها توبيخ شديد لهم على سوء اختيارهم ، وضعف عقولهم . لإِيثارهم الأدنى وهو البقل وما عطف عليه ، على ما هور خير منه وهو المن والسلوى .
قال ابن جرير عند تفسيره للآية الكريمة : " أي قال لهم موسى : أتاخذون الذي هو أخس خطراً وقيمة وقدراً من العيش ، بدلا بالذي هو خير منه خطراًٍ وقيمة وقدراً ، وذلك كان استبدالهم ، وأصل الاستبدال : هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك ، ومعنى قوله : { أدنى } أخس وأضع وأصغر قدراً وخطراً ، وأصله من قولهم : هذا رجل دنى بين الدناءة ، وإنه ليدنى في الأمور - بغير همز - إذ كان يتتبع خسيسها . ثم قال : ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى : البقول والقثاء والعدس والبصل والثوم ، فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه " .
ثم أضاف موسى - عليه السلام - إلى توبيخهم السابق على بطرهم وجحودهم توبيخاً آخر فقال لهم : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } أي إذا كان هذا هو مرغوبكم ، فاتركوا هذا المكان ، وأنزلوا إلى مصر من الأمصار ، لكي تجدوا ما سألتموني إياه من البقل والثوم وأشباههما ، لأن ما اخترتموه لا يوجد في المكان الذي حللتم به ، وإنما يوجد في الأمصار والقرى .
قال ابن كثير : " هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية وهو قراءة الجمهور بالصرف " .
وقال ابن جرير : " فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين { اهبطوا مِصْراً } وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها ، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين واتفاق قراءة القراء على ذلك . . " اه .
وقال أبو حيان في البحر : " وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان ابن تغلب ( مصر ) بغير تنوين ، وقد وردت كذلك في مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود ، وبعض مصاحف عثمان - رضي الله عنه " اه .
والمعنى على القراءة الأولى : اهبطوا مصر من الأمصار لأنكم في البدو ، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي وإنما يكون في القرى والأمصار ، فإن لكم إذا هبطتموه ما سألتم من العيش .
والمعنى على القراءة الثانية : اتركوا المكان الذي أنتم فيه ، واهبطوا مصر التي كنتم تسامون فيها سوء العذاب فإنكم تجدون فيها ما تبغونه ، لأنكم قوم لا تقدرون نعمة الحرية ، ولا ترتاحوا للفضائل النفسية ، بل شأنكم - دائماً - أن تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .
ومن حجة الذين قالوا إن الله أراد بالمصر في الآية الكريمة ، مصر فرعون ، قوله تعالى في سورة الشعراء { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } وقوله تعالى في سورة الدخان :
{ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } قالوا : فأخبر الله - تعالى - أنه قد ورثهم ذلك ، وجعلها لهم ، فلم يكونوا يرثونها ، ثم لا ينتفعون بها ، ولا يكونون منتفعين إلا بمصر بعضهم إليها .
قال ابن جرير : " ومن حجة من قال إن الله - إنما عني بقوله : { اهبطوا مِصْراً } أي : مصراً من الأمصار دون مصر فرعون بعينها ، أن الله - تعالى - جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر ، وإنما ابتلاهم بالتيه . فامتناعهم عن موسى في حرب الجبابرة ، إذ قال لهم { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } إلى قوله تعالى : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } فحرم الله - تعالى - على قائل ذلك - فيما ذكر لنا - دخولها حتى هلكوا في التيه وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة . ثم أهبط ذريتهم الشام ، فأسكنهم الأرض المقدسة ، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع " يوشع بن نون " بعد وفاة موسى بن عمران . فرأينا أن الله - تعالى - قد اخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة ، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها ، فيجوز لنا أن نقرأ { اهبطوا مِصْراً } ونتأوله أنه ردهم إليها . قالوا : فإن احتج محتج بقوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } قيل لهم : فإن الله - تعالى - إنما أورثهم ذلك فملكهم إياها . ولم يردهم إليها وجعل مساكنهم الشام " اه .
قال أبو حيان في البحر : ( ولم يصرح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى مصر ) اه .
ومع أن ابن جرير - رحمه الله - قد رد على من قال ، إن المراد بالمصر مصر فرعون : استناداً إلى قراءة غير الجمهور ، إلا أنه لم يرجح أحد الرأيين فقد قال : ( والذي نقول به في ذلك ، أنه لا دلالة في كتاب الله - تعالى - على الصواب من هذين التأويلين ، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر ، وأهلا لتأويل متنازعون تأويله ، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض على ما بينه الله - تعالى - في كتابه وهم في الأرض تائهون فاستجاب الله لموسى دعاءه وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قراراً من الأرض التي تنبت ما سأل لهم من ذلك ، إذا صاروا إليه ، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر ، وجائز أن يكون الشام . . . "
ومن هذا النص الذي نقلناه عن ابن جرير ، نرى أنه لم يقطع برأى في المكان الذي أمر بنو إسرائيل بالهبوط فيه وأنه يرى أن الله - تعالى - قد استجاب لموسى - عليه السلام - دعاءه ، وأن موسى وقومه قد هبطوا - فعلا - إلى قرار من الأرض التي تنبت البقول وأشباهها .
وقد عارض الإِمام ابن كثير في تفسيره رأى ابن جرير فقال :
وهذا الذي قاله - أي ابنُ جرير - فيه نظر ، والحق أن المراد مصر من الأمصار ، كما روى عن ابن عباس وغيره والمعنى على ذلك ، لأن موسى - عليه السلام - يقول لهم : هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها ، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه ، ولهذا قال : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } أي ما طلبتم ، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم .
وبذلك يظهر لنا أن ابن كثير - رحمه الله - يرى أن المراد بالمصر مكان غير معين وأن موسى - عليه السلام - لم يسأل ربه إجابة طلبهم لأنهم كانوا متعنتين . بطرين ، والله - تعالى - يكره من كان كذلك ، وأن قول موسى - عليه السلام - لهم " اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم " من باب التوبيخ والتجهيل لهم ، إذ ليس حينئذ بلد قريب يستطيعون الوصول إليه .
هذا ، والذي نرجحه في هذا المقام هو ما ذهب إليه الإِمام ابن كثير لما يأتي :
أولا : أن القراءة بالتنوين متواترة ، وابن جرير نفسه لم يجاوز القراءة بغيرها ، وهذه القراءة المتواترة ، نص في أن المراد من مصر ، أي بلد كان ، لا مصر فرعون ، ثم إذا كان المراد به ذلك فليس لنا أن نقول إنه يصدق على مصر فرعون ، وذلك لأن الأمصار التي تنبت ما طلبوا من البقول والخضر أقرب إليهم من مصر ، فليس من المعقول أن يؤمروا بالذهاب إلى مصر فرعون وهي بعيدة عن مكانهم بعداً شاسعاً ، ويتركوا الأمصار الأقرب إليهم وفيها ما يريدون .
ثانياً : لم ينقل أحد من المؤرخين أنهم رجعوا إلى مصر بعد خروجهم منها كما قال أبو حيان وغيره ، بل الثابت أن بني إسرائيل خرجوا من مصر ، وأمروا بعد خروجهم بدخول الأرض المقدسة لقتال الجبارين ، ولعصيانهم أمر نبيهم وماتوا جميعاً في التيه ، وبقي أبناؤهم فامتثلوا أمر الله - تعالى - وهبطوا إلى الشام . وقاتلوا الجبارين ودخلوا الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون .
ثالثاً : ليس في الآية ما يشعر بأن موسى - عليه السلام - طلب من ربه أن يجيبهم إلى رغبتهم فكيف نقول بما لم يدل عليه القرآن الكريم ولو من طريق الإِشارة ؟
رأبعاً : دخولهم في التيه كان عقوبة لهم على نكوصهم عن قتال الجبارين ، ليدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم .
فالتيه والحالة هذه كان بمثابة سجن لهم يعاقبون فيه ، كما يشعر بذلك قوله تعالى : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } فكيف يخرج السجين من سجنه تلبية لبعض رغباته المنكرة . وبناء على ذلك يكون الأمر في قول موسى لهم : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } للتهديد والتوبيخ والتجهيل .
ثم بين - سبحانه - العقوبات التي حلت بهم جزاء ظلمهم وفجورهم فقال تعالى :
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } :
ضرب الذلة والمسكنة عليهم كنية عن لزومهما لهم ، وإحاطتهما بهم ، كما يحيط السرادق بمن بداخله .
قال صاحب الكشاف : ( جعلت الذلة محيطة بهم ، مشتملة عليهم ، فهم فيها كمن يكون في القبة من ضربت عليهم ، أو ألصقت به حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه ، فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة ) .
وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم ، بظاهر جسم آخر بشدة ، يقال : ضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها ، وتفرعت عن هذا معان مجازية ترجع إلى شدة اللصوق .
والذلة : على وزن فعلة من قول القائل : ذل فلان يذل ذلة وذلة ، والمراد بها الصغار والهوان والحقارة .
والمسكنة ، مفعلة من السكون ، ومنها أخذ لفظ المسكين ، لأن الهم قد أثقلة فجعله قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفاقه والفقر ، والمراد بها في الآية : الضعف النفسي ، والفقر القلبي الذي يستولي على الشخص ، فيجعله يحس بالهوان ، مهما يكن لديه من أسباب القوة .
والفرق بينها وبين الذلة . أن الذلة هوان تجيء أسبابه من الخارج ، كأن يغلب المرء على أمره نتيجة انتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو .
أما المسكنة فهي هوان ينشأ من داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق واستيلاء المطامع والشهوات عليها ، وتوارث الذلة قروناً طويلة يورث هذه المسكنة ، ويجعلها كالطبيعة الثابتة في الشخص المستذل . ولقد عاش اليهود قروناً وأحقاباً مستعبدين لمختلف الأمم ، فأكسبهم هذا الاستعباد ضعفاً نفسياً جعلهم لا يفرقون بين الحياة الذليلة والكريمة ، بل إنهم ليفضلوا الأولى على الثانية ما دامت تجلب لهم غرضاً من أغراض الدنيا ، ومهما كثر المال في أيديهم ، فإنهم لا يتحولون عن فقرهم النفسي وظهورهم أمام الناس بمظهر البائس الفقير .
وقوله تعالى : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } بيان لسوء عاقبتهم في الآخرة ومبالغة في إهانتهم وتحقيرهم ، فهم في الدنيا أذلاء حقراء ، وفي الآخرة سيرجعون بغضب من الله بسبب أفعالهم القبيحة .
قال ابن جرير - رحمه الله - يعني بقوله تعالى { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } : انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال باءوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر يقال منه باء فلان بذنبه يبوء بوأ وبواء ، ومنه قوله تعالى :
{ إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } يعني تنصرف متحملهما ، وترجع بهما قد صارا عليك دوني ، فمعنى الكلام إذا . ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم منه سخط .
وقال صاحب الكشاف : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } من قولك باء فلان بفلان ، إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته ، أي صاروا أحقاء بغضبه .
ثم صرح - سبحانه - بعد ذلك بسبب ما أحاط بهم من الذلة والمسكنة واستحقاقهم غضب الله وسخطه ، فقال تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } . والجملة الكريمة استئناف بيان جواب عن سؤال تقديره : لم فعل بهم كل ذلك ؟ فكان الجواب ، فعلنا بهم بسبب جحودهم لآيات الله ، وبسبب قتلهم لأنبيائه ، وخروجهم عن طاعته ؛ ومجاوزتهم حدودهم والآيات تطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على وحدانية الله تعالى وربوبيته ، وتطلق ويراد بها النصوص التي تشتمل عليها الكتب السماوية ، وتطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على صدق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيما يبلغون عن الله - تعالى - وهي التي يسميها علماء التوحيد المعجزات ، وقد كفر اليهود بكل هذه الضروب من الآيات ، ومردوا على ذلك كما يفيده التعبير بالفعل المضارع { يَكْفُرُونَ } .
وقوله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } أي ويقتلون أنبياء الله الذين بعثهم مبشرين ومنذرين ، ولقد قتل اليهود - فيمن قتلوا من الأنبياء - زكريا وابنه يحيى - عليهما السلام - لأنهما أبيا الانقياد وراء شهواتهم وأهوائهم .
وقال - سبحانه - { بِغَيْرِ الحق } مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبداً ، لإِفادة أن قتلهم لهم كان بغير وجه معتبر في شريعتهم لأنها تحرمه ، { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } فهذا القيد المقصود به الاحتجاج عليهم بأصول دينهم وتخليد مذمتهم ، وتقبيح إجرامهم ، حيث إنهم قتلوا أنبياءهم بدون خطأ في الفهم ، أو تأول في الحكم ، أو شبهة في الأمر ، وإنما فعلوا ما فعلوا وهم عالمون بقبح ما ارتكبوا ، وخالفوا شرع الله عن تعمد وإصرار .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره ؟
قلت : معناه أنهم قتلوهم بغيرا لحق عندهم ، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا ، وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم ، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقون به للقتل عندهم " .
وقال الإِمام الرازي : " فإن قيل : قال هنا { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } وقال في آل عمران { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } فما الفرق ؟ قلت . إن الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل يتجلى في حديث : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : " كفر بعد إيمان ، وزناً بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق " فالحق المذكور هنا بحرف التعريف إشارة إلى هذا وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم ، أي لم يكن هناك أي حق يستندون إليه ، لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره البتة " .
ثم قال تعالى : { ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
العصيان : الخروج عن طاعة الله . والاعتداء : تجاوز الحد الذي حده الله - تعالى - لعباده إلى غيره وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه . وللمفسرين في مرجع الإِشارة " ذلك " رأيان :
أحدهما : أنه يعود إلى كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ، وعليه يكون المعنى :
إن هؤلاء اليهود قد مروا على عصيانهم لخالقهم ، وتعديهم حدوده بجرأة وعدم مبالاة فنشأ عن هذا التمرد والطغيان أن كفروا بآيات الله - تعالى - وامتدت أيديهم الأثيمة إلى قتل الأنبياء بقلوب كالحجارة أو أشد قسوة .
والجملة الكريمة على هذا الرأي تفيد أن التردي في المعاصي وارتكاب المناهي ، وتجاوز الحدود المشروعة ، يؤدي إلى الانتقال من غصير الذنوب إلى كبيرها ، ومن حقيرها إلى عظيمها ، لأن هؤلاء اليهود لما استمروا المعاصي وداوموا على تعدي الحدود ، هانت على نفوسهم الفضائل ، وانكسرت أمام شهواتهم كل المثل العليا ، فكذبوا بآيات الله تكذيباً وقتلوا من جاءهم بالهدى ودين الحق .
والثاني : يرى أصحابه أن اسم الإشارة الثاني يعود إلى نفس المشار إليه باسم الإِشارة الأول ، وتكون الحكمة في تكرار الإِشارة هو تمييز المشار إليه حرصاً على معرفته ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة عليهم ، واستحقاقهم لغضب الله - تعالى - كما بينا ، والإِشارة حينئذ من قبيل التكرير المغنى عن العطف كما في قوله تعالى : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } والمعنى أن هؤلاء اليهود قد لزمتهم الذلة والمسكنة ، وصاروا أحقاء بسخط الله بسبب كفرهم بآياتنا . وقتلهم أنبياءنا ، وخروجهم عن طاعتنا وتعديهم لحدودنا .
وعلى هذا الرأي يكون ذكر أسباب العقوبة التي حلت بهم في الدرجة العليا من حسن الترتيب ، فقد بدأ - سبحانه - بما فعلوه في حقه وهو كفرهم بآياته ، ثم ثنى بما يتلوه في العظم وهو قتلهم لأنبيائهم ، ثم وصمهم بعد ذلك بالعصيان والخروج عن طاعته ثم ختم أسباب العقوبة بدمغهم بالاعتداء ، وتخطى الحدود ، وعدم المبالاة بالعهود ، وهذا الترتيب من لطائف أسلوب القرآن الكريم في سوق الأحكام ، مشفوعة بعللها وأسبابها .
وبهذا تكون الآية الكريمة قد وصفت بني إسرائيل بجحود النعم ، وسوء الأدب وحمق التفكير ، وهوان النفس ، وبلادة الطبع ، وبطر الحق ، والبغي على أنفسهم وعلى غيرهم ، وما وصفتهم به أيدته الأيام وصدقته الأحداث في كل زمان ومكان .
لقد كانوا بين الصحراء بجدبها وصخورها ، والسماء بشواظها ورجومها . فأما الحجر فقد أنبع الله لهم منه الماء ، وأما السماء فأنزل لهم منها المن والسلوى : عسلا وطيرا . . ولكن البنية النفسية المفككة ، والجبلة الهابطة المتداعية ، أبت على القوم أن يرتفعوا إلى مستوى الغاية التي من أجلها أخرجوا من مصر ، ومن أجلها ضربوا في الصحراء . . لقد أخرجهم الله - على يدي نبيهم موسى - عليه السلام - من الذل والهوان ليورثهم الأرض المقدسة ، وليرفعهم من المهانة والضعة . . وللحرية ثمن ، وللعزة تكاليف ، وللأمانة الكبرى التي ناطهم الله بها فدية . ولكنهم لا يريدون أن يؤدوا الثمن ، ولا يريدون أن ينهضوا بالتكاليف ، ولا يريدون أن يدفعوا الفدية . حتى بأن يتركوا مألوف حياتهم الرتيبة الهينة . حتى بأن يغيروا مألوف طعامهم وشرابهم ، وأن يكيفوا أنفسهم بظروف حياتهم الجديدة ، في طريقهم إلى العزة والحرية والكرامة . إنهم يريدون الأطعمة المنوعة التي ألفوها في مصر . يريدون العدس والثوم والبصل والقثاء . . وما إليها ! وهذا ما يذكرهم القرآن به . وهم يدعون في المدينة دعاواهم العريضة :
( وإذ قلتم : يا موسى لن نصبر على طعام واحد ، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها . قال : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم . . وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، وباؤوا بغضب من الله ، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) . .
ولقد تلقى موسى - عليه السلام - طلبهم بالاستنكار :
( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ ) . .
أتريدون الدنية وقد أراد الله لكم العلية ؟
( اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ) . .
إما بمعنى أن ما يطلبونه هين زهيد ، لا يستحق الدعاء ؛ فهو موفور في أي مصر من الأمصار ، فاهبطوا أية مدينة فإنكم واجدوه فيها . . وإما بمعنى عودوا إذن إلى مصر التي أخرجتم منها . . عودوا إلى حياتكم الدارجة المألوفة . إلى حياتكم الخانعة الذليلة . . حيث تجدون العدس والبصل والثوم والقثاء ! ودعوا الأمور الكبار التي ندبتم لها . . ويكون هذا من موسى - عليه السلام - تأنيبا لهم وتوبيخا .
وأنا أرجح هذا التأويل الذي استبعده بعض المفسرين ، أرجحه بسبب ما أعقبه في السياق من قوله تعالى :
( وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ) . .
فإن ضرب الذلة والمسكنة عليهم ، وعودتهم بغضب الله ، لم يكن - من الناحية التاريخية - في هذه المرحلة من تاريخهم ؛ إنما كان فيما بعد ، بعد وقوع ما ذكرته الآية في ختامها :
( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير الحق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) .
وقد وقع هذا منهم متأخرا بعد عهد موسى بأجيال . إنما عجل السياق بذكر الذلة والمسكنة والغضب هنا لمناسبته لموقفهم من طلب العدس والبصل والثوم والقثاء ! فناسب أن يكون قول موسى لهم ، ( اهبطوا مصرا ) هو تذكير لهم بالذل في مصر ، وبالنجاة منه ، ثم هفوة نفوسهم للمطاعم التي ألفوها في دار الذل والهوان !
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ( 61 )
كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى ، وتذكروا عيشهم الأول بمصر ، وكنى عن المن والسلوى { بطعام واحد } ، وهما طعامان ، لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد ، ولتكرارهما سواء أبداً( {[667]} ) قيل لهما { طعام واحد } ، ولغة( {[668]} ) بني عامر «فادعِ » بكسر العين .
و { يخرج } : جزم بما تضمنه الأمر من معنى الجزاء( {[669]} ) ، وبنفس الأمر على مذهب أبي عمر الجرمي والمفعول على مذهب سيبويه مضمر تقديره مأكولاً مما تنبت الأرض ، وقال الأخفش : «من » في قوله : { مما } زائدة «وما » مفعولة ، وأبى سيبويه أن تكون «من » ملغاة في غير النفي ، كقولهم : ما رأيت من أحد ، و { من } في قوله : { من بقلها } لبيان الجنس ، و { بقلها } بدل بإعادة الحرف ، والبقل كل ما تنبته الأرض من النجم( {[670]} ) ، والقثاء جمع قثأة( {[671]} ) .
وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب : «قُثائها » ، بضم القاف .
وقال ابن عباس وأكثر المفسرين : «الفوم الحنطة » .
وقال عطاء وقتادة : «الفوم جميع الحبوب التي يمكن أن تختبز كالحنطة والفول والعدس ونحوه » .
وقال الضحاك : «الفوم الثوم » ، وهي قراءة عبد الله بن مسعود بالثاء ، وروي ذلك عن ابن عباس( {[672]} ) ، والثاء تبدل من الفاء ، كما قالوا ، مغاثير ومغافير( {[673]} ) ، وجدث وجدف ، ووقعوا في عاثور شر ، وعافور شر ، على أن البدل لا يقاس عليه ، والأول أصح : أنها الحنطة ، وأنشد ابن عباس قول أحيحة بن الجلاح : [ الطويل ]
قد كنت أغنى الناس شخصاً واجداً . . . ورد المدينة عن زراعة فوم
قال ابن دريد( {[674]} ) : «الفوم الزرع أو الحنطة » ، وأزد السراة( {[675]} ) يسمون السنبل فوماً « ، والاستبدال طلب وضع الشيء موضع الآخر( {[676]} ) ، و { أدنى } مأخوذ عند أبي إسحاق الزجاج من الدنو أي القرب( {[677]} ) في القيمة .
وقال علي بن سليمان : هو مهموز من الدنيء البين الدناءة ، بمعنى الأخس ، إلا أنه خففت همزته .
وقال غيره : هو مأخوذ من الدون أي الأحط ، فأصله أدون أفعل ، قلب( {[678]} ) فجاء أفلع ، وقلبت الواو ألفاً لتطرفها .
وقرأ زهير للكسائي( {[679]} ) : » أدنأ ، ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل التي هي أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير ؟ والوجه الذي يوجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه ، يحتمل أن يكون تفاضلها في القيمة ، لأن هذه البقول لا خطر لها ، وهذا قول الزجاج ، ويحتمل أن يفضل المن والسلوى لأنه الطعام الذي من الله به وأمرهم بأكله ، وفي استدامة أمر الله تعالى وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوا عارٍ من هذه الخصال ، فكان أدنى من هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل في الطيب واللذة به ، فالبقول لا محالة أدنى من هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل في حسن الغذاء ونفعه ، فالمن والسلوى خير لا محالة في هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل من جهة أنه لا كلفة فيه ولا تعب ، والذي طلبوا لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب ، فهو { أدنى } في هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل في أنه لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخللها البيوع( {[680]} ) والغصوب وتدخلها الشبه ، فهي { أدنى } في هذا الوجه .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : ويترتب الفضل للمن والسلوى بهذه الوجوه كلها ، وفي الكلام حذف ، تقديره : فدعا موسى ربه فأجابه( {[681]} ) ، فقال لهم : { اهبطوا } ، وتقدم ذكر معنى( {[682]} ) الهبوط ، وكأن القادم على قطر منصب( {[683]} ) عليه ، فهو من نحو الهبوط ، وجمهور الناس يقرؤون «مصراً » بالتنوين وهو خط المصحف ، إلا ما حكي عن بعض مصاحف عثمان رضي الله عنه( {[684]} ) .
وقال مجاهد وغيره ممن صرفها : «أراد مصراً من الأمصار غير معين » ، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية ، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه .
وقالت طائفة ممن صرفها( {[685]} ) : أراد مصر فرعون بعينها ، واستدلوا بما في القرآن من أن الله تعالى أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم ، وأجازوا صرفها .
وقال الأخفش : «لخفتها وشبهها بهند ودعد » وسيبويه لا يجيز هذا( {[686]} ) .
وقال غير الأخفش : «أراد المكان فصرف » .
وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وغيرهما : «اهبطوا مصر » بترك الصرف ، وكذلك هي في مصحف أبيّ بن كعب وقالوا : «هي مصر فرعون » .
قال الأعمش : «هي مصر التي عليها صالح بن علي » .
وقال أشهب : «قال لي مالك : هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون » .
وقوله تعالى : { فإن لكم ما سألتم } يقتضي أنه وكلهم إلى أنفسهم .
وقرأ النخغي وابن وثاب «سِألتم » بكسر السين( {[687]} ) وهي لغة ، { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } معناه ألزموها وقضي عليهم بها ، كما يقال ضرب الأمير البعث( {[688]} ) ، وكما قالت العرب ضربة لازب ، أي إلزام ملزوم أو لازم ، فينضاف المصدر إلى المفعول بالمعنى ، وكما يقال ضرب الحاكم على اليد ، أي حجر وألزم ؛ ومنه ضرب الدهر ضرباته ، أي ألزم إلزاماته ، و { الذلة } فعلة من الذل كأنها الهيئة والحال ، { والمسكنة } من المسكين ، قال الزجاج : «هي مأخوذة من السكون وهي هنا : زي الفقر وخضوعه( {[689]} ) ، وإن وجد يهودي غني فلا يخلو من زي الفقر ومهانته » .
قال الحسن وقتادة : «المسكنة الخراج أي الجزية » .
وقال أبو العالية : «المسكنة الفاقة والحاجة » .
{ وباؤوا بغضب من الله } معناه : مروا متحملين له( {[690]} ) ، تقول : بؤت بكذا إذا تحملته ، ومنه قول مهلهل ليحيى بن الحارث بن عباد : «بؤ( {[691]} ) بشسع نعل كليب » .
والغضب بمعنى الإرادة صفة ذات ، وبمعنى إظهاره على العبد بالمعاقبة صفة فعل ، والإشارة بذلك إلى ضرب الذلة وما بعده ، والباء في { بأنهم } باء السبب .
وقال المهدوي : «إن الباء بمعنى اللام » والمعنى : لأنهم ، والآيات هنا تحتمل أن يراد بها التسع( {[692]} ) وغيرها مما يخرق العادة ، وهو علامة لصدق الآية به ، ويحتمل أن يراد آيات التوراة التي هي كآيات القرآن .
وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «وتقتلون » بالتاء على الرجوع إلى خطابهم( {[693]} ) ، وروي عنه أيضاً بالياء .
وقرأ نافع : بهمز «النبيئين » ، وكذلك حيث وقع في القرآن ، إلا في موضعين( {[694]} ) : في سورة الأحزاب : { أن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي } [ الأحزاب : 50 ] بلا مد ولا همز ، { ولا تدخلوا بيوت النبي إلا } [ الأحزاب : 53 ] ، وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد ، وترك الهمز في جميع ذلك الباقون ، فأما من همز فهو عنده من «أنبأ » إذا أخبر ، واسم فاعله منبىء فقيل نبيء ، بمعنى منبىء ، كما قيل : سميع بمعنى مسمع ، واستدلوا بما جاء من جمعه على نبآء . قال الشاعر( {[695]} ) : [ الطويل ]
يا خاتم النبآء إنك مرسل . . . بالحقّ كلّ هدى الإله هداكا
فهذا كما يجمع فعيل في الصحيح «كظريف » وظرفاء وشبهه .
قال أبو علي : «زعم سيبويه أنهم يقولون في تحقير النبوة : كان مسيلمة نبوته نبيئة( {[696]} ) سوء ، وكلهم يقولون تنبأ مسيلمة ، فاتفاقهم على ذلك دليل على أن اللام همزة » ، واختلف القائلون بترك الهمز في نبيء ، فمنهم من اشتق النبي من همز ثم سهل الهمز ، ومنهم من قال : هو مشتق من نبا ينبو إذا ظهر ، فالنبي الطريق الظاهر ، وكان النبي من عند الله طريق الهدى والنجاة ، وقال الشاعر( {[697]} ) : [ البيسط ] .
لما وردنا نبياً واستتبّ بنا . . . مسحنفر كخطوط السيح منسحل( {[698]} )
واستدلوا بأن الأغلب في جمع أنبياء كفعيل في المعتل ، نحو ولي وأولياء وصفي وأصفياء ، وحكى الزهراوي أنه يقول نبوء إذا ظهر فهو نبيء ، والطريق الظاهر نبيء بالهمز ، وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : السلام عليك يا نبيء الله ، وهمز ، فقال له النبي صلى عليه السلام : لست بنبيء الله ، وهمز ، ولكني نبيّ الله ، ولم يهمز .
قال أبو علي : «ضعف سند هذا الحديث ، ومما يقوي ضعفه أنه صلى الله عليه وسلم ، قد أنشده المادح يا خاتم النبآء ولم يؤثر في ذلك إنكار ، والجمع كالواحد » .
وقوله تعالى : { بغير الحق } تعظيم( {[699]} ) للشنعة والذنب الذي أتوه ، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق ، ولكن من حيث قد يتخيل متخيل لذلك وجهاً ، فصرح قوله : { بغير الحق } عن شنعة الذنب ووضوحه ، ولم يجترم( {[700]} ) قط نبي ما يوجب قتله ، وإنما أتاح الله تعالى من أتاح منهم . وسلط عليه ، كرامة لهم ، وزيادة في منازلهم ، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين( {[701]} ) ، قال ابن عباس وغيره : «لم يقتل قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر »( {[702]} ) .
وقوله تعالى : { ذلك } رد على الأول وتاكيد للإشارة إليه( {[703]} ) ، والباء في { بما } باء السبب ، و { يعتدون } معناه : يتجاوزون الحدود ، والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء ، وعرفه في الظلم والمعاصي .