ثم بين - سبحانه - بعد ذلك بعض الأحكام التى تتعلق بالنساء اللاتى بلغن سن اليأس ، فقال : { والقواعد مِنَ النسآء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ . . . } .
والقواعد : جمع قاعدة - بغير تاء - لاختصاص هذه الكلمة بالنساء كحائض وطامث .
وقالوا : سميت المرأة العجوز بذلك ، لأنها تكثر القعود لكبر سنها .
أى : والنساء العجائز اللاتى قعدن عن الولد أو عن الحيض ، ولا يطمعن فى الزواج لكبرهن ، فليس على هؤلاء النساء حرج أن ينزعن عنهن ثيابهن الظاهرة ، والتى لا يفضى نزعها إلى كشف عورة ، أو إظهار زينة أمر الله - تعالى - بسترها .
فقوله - سبحانه - : { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } بيان لمظهر من مظاهر التيسير فى شريعة الإسلام ، لأن المرأة العجوز إذا تخففت من بعض ثيابها التى لا يفضى التخفف منها إلى فتنة أو إلى كشف عورة . . . فلا بأس بذلك ، لأنها - فى العادة - لا تتطلع النفوس إليها ، وذلك بأن تخلع القناع الذى يكون فوق الخمار ، والرداء الذى يكون فوق الثياب .
وقوله - تعالى - { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ } حال . وأصل التبرج : التكلف والتصنع فى إظهار ما يخفى ، من قولهم سفينة بارجة أى : لا غطاء عليها .
والمراد به هنا : إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال الذين لا يصح لهم الاطلاع عليها .
أى : لا حرج على النساء القواعد من خلع ثيابهن الظاهرة ، حال كونهن غير مظهرات للزينة التى أمرهن الله - تعالى - بإخفائها ، وغير قاصدات بهذا الخلع لثيابهن الظاهرة التبرج وكشف ما أمر الله - تعالى - بستره .
وقوله - سبحانه - : { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } أى : وأن يبقين ثيابهن الظاهرة عليهن بدون خلع ، خير لهن ، وأطهر لقلوبهن ، وأبعد عن التهمة ، وأنفى لسوء الظن بهن .
وسمى الله - تعالى - إبقاء ثيابهن عليهن استعفافا . أى : طلبا للعفة ، للإشعار بأن الاحتشام والتستر . . . خير للمرأة حتى ولو كانت من القواعد .
وقوله - تعالى - { والله سَمِيعٌ عِلِيمٌ } أى : سميع لكل ما من شأنه أن يُسمع ، عليم بأحوال النفوس وحركاتها وسكناتها .
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة ، قد بينت للناس أقوم المناهج ، وأسمى الآداب ، وأفضل الأحكام التى باتباعها يسعد الأفراد والجماعات .
ولقد سبق الأمر كذلك بإخفاء زينة النساء منعا لإثارة الفتن والشهوات . فعاد هنا يستثني من النساء القواعد اللواتي فرغت نفوسهن من الرغبة في معاشرة الرجال ؛ وفرغت أجسامهن من الفتنة المثيرة للشهوات :
( والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا ؛ فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن - غير متبرجات بزينة - وأن يستعففن خير لهن ؛ والله سميع عليم ) . .
فهؤلاء القواعد لا حرج عليهن أن يخلعن ثيابهن الخارجية ، على ألا تنكشف عوراتهن ولا يكشفن عن زينة . وخير لهن أن يبقين كاسيات بثيابهن الخارجية الفضفاضة . وسمي هذا استعفافا . أي طلبا للعفة وإيثارا لها ، لما بين التبرج والفتنة من صلة ؛ وبين التحجب والعفة من صلة . . وذلك حسب نظرية الإسلام في أن خير سبل العفة تقليل فرص الغواية ، والحيلولة بين المثيرات وبين النفوس .
( والله سميع عليم ) . . يسمع ويعلم ، ويطلع على ما يقوله اللسان ، وما يوسوس في الجنان . والأمر هنا أمر نية وحساسية في الضمير .
وقوله : { والقواعد } ، يريد النساء اللائي قد أسنن وقعدن عن الولد واحدتهن قاعد . وقال ربيعة هي هنا التي تستقذر من كبرها ، قال غيره وقد تقعد المرأة عن الولد وفيها مستمتع فلما كان الغالب من النساء أن ذوات هذا السن لا مذهب للرجل فيهن أبيح لهن ما لم يبح لغيرهن .
وأزيل عنهن كلفة التحفظ المتعب إذ علة التحفظ مرتفعة منهن ، وقرأ ابن مسعود «أن يضعن من ثيابهن » وهي قراءة أبي وروي عن ابن مسعود أيضاً «من جلابيبهن » ، والعرب تقول امرأة واضع للتي كبرت فوضعت خمارها ، ثم استثني عليهن في وضع الثياب أن لا يقصدن به التبرج وإبداء الزينة ، فرب عجوز يبدوا منها الحرص على أن يظهر لها جمال ونحو هذا مما هو أقبح الأشياء وأبعده عن الحق ، و «التبرج » طلب البدو والظهور إلخ . . . . والظهور للعيون ومنه { بروج مشيدة } [ النساء : 78 ] وأصل ذلك بروج السماء والأسوار ، والذي أبيح وضعه لهذه الصنيفة الجلباب الذي فوق الخمار والرداء ، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما ، ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزمه الشباب من الستر أفضل لهن وخير ، وقرأ ابن مسعود «وأن يعففن » بغير سين ، ثم ذكر تعالى { سيمع } لما يقول كل قائل وقائلة ، { عليم } بمقصد كل أحد في قوله ، وفي هاتين الصفتين توعد ، وتحذير والله الموفق للصواب برحمته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.