التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} (28)

وخلا هذا الوعيد والتهديد من فرعون وملئه لموسى - عليه السلام - ، قيض الله - تعالى - لموسى رجلا مؤمنا من آل فرعون كان يخفى إيمانه . هذا الرجل أخذ يدافع عن موسى دفاعا حكيما مؤثرا ، يحمل الترغيب تارة والترهيب أخرى ، والإِرشاد تارة والتأنيب أخرى . . ويحكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فيقول :

{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ . . . } .

قال الإِمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما حكى عن موسى - عليه السلام - أنه ما زاد فى دفع مكر فرعون وشره على الاستعاذة بالله ، بين أنه - تعالى - قيض إنسانا أجنبيا غير موسى حتى ذب عنه على أحسن الوجوه ، وبالغ فى تسكين تلك الفتنة ، واجتهد فى إزالة ذلك الشر .

ثم قال - رحمه الله - يقول مصنف هذا الكتاب : ولقد جريت فى أحوال نفسى أنه كلما قصدنى شرير بشر ولم أتعرض له ، وأكتفى بتفويض ذلك الأمر إلى الله ، فإنه - سبحانه - يقيض أقواما لا أعرفهم ألبتة . يبالغون فى دفع ذلك الشر . .

وظاهر الآية الكريمة يفيد أن هذا الرجل المؤمن كان من حاشية فرعون بدليل قوله - تعالى - : { مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } ولم يكن من بنى إسرائيل .

وقد رجح ابن جرير - رحمه الله - ذلك فقال : وأولى القولين فى ذلك بالصواب عندى : القول الذى قاله السدى من أن الرجل المؤمن كان من آل فرعون ، ولذا فقد أصغى لكلامه واستمع منه ما قاله ، وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله . . ولو كان إسرائيليا لكان حريا أن يعاجل هذا القائل له ولملئه بالعقوبة على قوله ، لأنه لم يكن ستنصح بنى إسرائيل لاعتداده إياهم أعداء له . . ولكنه لما كان من ملأ قومه ، استمع إليه ، وكف فرعون عما كان قد هم به من قتل موسى . .

قالوا : وهذا الرجل المؤمن هو الذى نصح موسى - عليه السلام - بقوله : { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين } وكان اسمه " حزقيل " او " حبيب " .

أى : وقال رجل مؤمن من آل فرعون وحاشيته ، وكان يكتم إيمانه عنهم ، حتى لا يصيبه أذى منهم ، فعندما سمع فرعون يقول : { ذروني أَقْتُلْ موسى } قال لهم : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ } .

أى : أتقتلون رجلا لأنه يقول ربى الله وحده ، وقد جاءكم بالحجج البينات ، وبالمعجزات الواضحة من عند ربكم ، كدليل على صدقه فيما يبلغه عنه .

فقوله : { أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله } فى موضع المفعول لأجله . أى : أتقتلونه من أجل قوله هذا . وجملة { وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ } حالية من فاعل يقول وهو موسى - عليه السلام - .

والمقصود بهذا الاستفهام : الإِنكار عليهم والتبكيت لهم ، حيث قصدوا قتل رجل كل ذنبه أنه عبد الله - تعالى - وحده وقد جاءهم بالمعجزات الواضحات الدالة على صحة فعله وقوله .

قال الإِمام ابن كثير : وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط ، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون { ذروني أَقْتُلْ موسى }

فأخذت الرجل غضبه لله - تعالى - و " أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " اللهم إلا ما رواه البخارى فى صحيحه حيث قال :

حدثنا على بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعى ، حدثنى عروة بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرنى بأشد شئ صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة ، إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه فى عنقه ، فخنقه خنقا شديدا . فأقبل أبو بكر - رضى الله عنه - فأخذ بمنكبه ودفع عن النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " .

وقال القرطبى : وعن على - رضى الله عنه - قال : اجتمعت قريش بعد وفاة أبى طالب بثلاث : فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل هذا يجؤه - أى يضربه - ، وهذا يُتَلْتِلهُ - أى : يحركه تحريكا شديدا - فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان ، فأقبل يجأ هذا ويتلتل ذا ، ويقول بأعلى صوته : ويلكم : أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله ، والله إنه لرسول الله ، فقطعت إحدى ضفيرتى أبى بكر يومئذ .

ثم يحكى القرآن أن ذلك الرجل المؤمن ، لم يكتف بالإِنكار على قومه قصدهم موسى بالقتل بل أخذ فى محاولة إقناعهم بالعدول عن هذا القصد بشتى الأساليب والحجج فقال : { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ . . } .

أى : أنه قال لهم : إن كان موسى - على سبيل الفرض - كاذبا فيما يقوله ويفعله فعليه وحده يقع ضرر كذبه ، وليس عليكم منه شئ ، وإن كان صادقا فيما يقوله ويفعله فعليه وحده يقع ضرر كذبه ، وليس عليكم منه شئ ، وإن كان صادقا فيما يقوله ويفعله ، فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذى يعدكم به من سوء عاقبة مخالفة ما أتاكم به من عند ربه . .

فأنت ترى أن الرجل كان فى نهاية الحكمة والإِنصاف وحسن المنطق ، فى مخاطبته لقومه ، حيث بين لهم أن الأمر لا يخرج عن فرضين ، وكلاهما لا يوجب قصد موسى - عليه السلام - بالقتل .

ورحم الله صاحب الكشاف : فقد أجاد عند تفسير لهذه الآية فقال ما ملخصه : وقوله : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله . . . } هذا إنكار عظيم منه ، وتبكيت شديد لهم ، كأنه قال : أترتكبون الفعلة الشنعاء التى هى قتل نفس محرمة ، وما لكم علة قط فى ارتكابها إلا كلمة الحق التى نطق بها وهى قوله { رَبِّيَ الله } . .

ثم أخذ فى الاحتجاج عليهم على طريقة التقسيم فقال : لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا ، فإن يك كاذبا فعليه يعود كذبه ولا يتخطاه ضرره ، وإن يك صادقا يصبكم بعض ما يعدكم به إن تعرضتم له .

فإن قلت : لم قال : { بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ } وهو - أى موسى - نبى صادق ، لابد لما يعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه ؟

قلت : لأنه احتاج فى مقاولة خصوم موسى ومنا كريه ، إلى أن يلاوصهم - أى يحايلهم - ويداريهم ، ويسلك معهم طريق الإِنصاف فى القول ويأتيهم من جهة المناصحة ، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله ، وأدخل فى تصديقهم له وقبولهم منه ، فقال { وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ } وهو كلام المنصف فى مقاله ، غير المشتط فيه ، ليسمعوا منه ولا يردوا عليه ، وذلك أنه حين فرضه صادقا ، فقد أثبت أنه صادق فى جميع ما يعد ، ولكنه أردفه بقوله : { يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ } ليهضمه بعض حقه فى ظاهر الكلام ، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا ، فضلا عن أن يتعصب له ، وتقديم الكاذب على الصادق أيضا من هذا القبيل .

ثم أرشد الرجل المؤمن الحصيف قومه إلى سنة من سنن الله التى لا تتغير فقال : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } .

أى : إن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أنه - سبحانه - لا يهدى إلى الحق والصواب ، من كان مسرفا فى أموره ، متجاوزا الحدود التى شرعها الله - تعالى - ومن كان كذابا فى إخباره عن الله - تعالى - ، ولو كان موسى مسرفا أو كذابا ، لما أيده الله - تعالى - بالمعجزات الباهرة . وبالحجج الساطعة الدالة على صدقه .

فالجملة الكريمة إرشاد لهم عن طريق خفى إلى صدق موسى فيما يبلغه عن ربه ، وتعريض بما عليه فرعون من ظلم وكذب .

قال الجمل فى حاشيته : فالجملة الكريمة كلام ذو وجهين نظرا لموسى وفرعون .

الوجه الأول : أن هذا إشارة إلى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى ، والمعننى : إن الله هدى موسى إلى الإِتيان بالمعجزات الباهرة ، ومن هداه الله إلى ذلك لا يكون مسرفا ولا كذابا .

الوجه الثانى : أن يكون المراد أن فرعون مسرف فى عزمه على قتل موسى . وكاذب فى ادعائه الألوهية ، والله لا يهدى من كان كذلك . . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} (28)

21

هنا انتدب رجل من آل فرعون ، وقع الحق في قلبه ، ولكنه كتم إيمانه . انتدب يدفع عن موسى ، ويحتال لدفع القوم عنه ، ويسلك في خطابه لفرعون وملئه مسالك شتى ، ويتدسس إلى قلوبهم بالنصيحة ويثير حساسيتها بالتخويف والإقناع :

وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه : أتقتلون رجلاً أن يقول : ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم ? وإن يك كاذباً فعليه كذبه ، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم ، إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب . يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض ، فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ? قال فرعون : ما أريكم إلا ما أرى ، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد . وقال الذي آمن : يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب . مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، وما الله يريد ظلماً للعباد . ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد . يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ، ومن يضلل الله فما له من هاد . ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات ؛ فما زلتم في شك مما جاءكم به ، حتى إذا هلك قلتم : لن يبعث الله من بعده رسولاً . كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب . الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا ، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار . .

إنها جولة ضخمة هذه التي جالها الرجل المؤمن مع المتآمرين من فرعون وملئه . وإنه منطق الفطرة المؤمنة في حذر ومهارة وقوة كذلك .

إنه يبدأ بتفظيع ما هم مقدمون عليه : ( أتقتلون رجلاً أن يقول : ربي الله ) . . فهل هذه الكلمة البريئة المتعلقة باعتقاد قلب ، واقتناع نفس ، تستحق القتل ، ويرد عليها بإزهاق روح ? إنها في هذه الصورة فعلة منكرة بشعة ظاهرة القبح والبشاعة .

ثم يخطو بهم خطوة أخرى . فالذي يقول هذه الكلمة البريئة : ربي الله . . يقولها ومعه حجته ، وفي يده برهانه : ( وقد جاءكم بالبينات من ربكم ) . . يشير إلى تلك الآيات التي عرضها موسى - عليه السلام - ورأوها ، وهم - فيما بينهم وبعيداً عن الجماهير - يصعب أن يماروا فيها !

ثم يفرض لهم أسوأ الفروض ؛ ويقف معهم موقف المنصف أمام القضية ؛ تمشياً مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه : ( وإن يك كاذباً فعليه كذبه ) . . وهو يحمل تبعة عمله ، ويلقى جزاءه ، ويحتمل جريرته . وليس هذا بمسوغ لهم أن يقتلوه على أية حال !

وهناك الاحتمال الآخر ، وهو أن يكون صادقاً . فيحسن الاحتياط لهذا الاحتمال ، وعدم التعرض لنتائجه : ( وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم ) . . وإصابتهم ببعض الذي يعدهم هو كذلك أقل احتمال في القضية ، فهو لا يطلب إليهم أكثر منه . وهذا منتهى الإنصاف في الجدل والإفحام .

ثم يهددهم من طرف خفي ، وهو يقول كلاماً ينطبق على موسى كما ينطبق عليهم : ( إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ) . . فإذا كان موسى فإن الله لا يهديه ولا يوفقه ، فدعوه له يلاقي منه جزاءه . واحذروا أن تكونوا أنتم الذين تكذبون على موسى وربه وتسرفون ، فيصيبكم هذا المآل !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} (28)

ثم حكى مقالة رجل مؤمن من آل فرعون وشرفه بالذكر ، وخلد ثناءه في الأمم ، سمعت أبي رضي الله عنه يقول : سمعت أبا الفضل الجوهري على المنبر وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة ، فأطرق قليلاً ثم رفع رأسه وأنشد [ عدي بن زيد ] : [ الطويل ]

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه . . . فكل قرين بالمقارن مقتد{[9985]}

ماذا تريدون من قوم قرنهم الله بنبيه صلى الله عليه وسلم وخصهم بمشاهدته وتلقي الوحي منه ؟ وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسره ، فجعله الله تعالى في كتابه وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر ، وأين هو من عمر بن الخطاب رضي الله عنه جرد سيفه بمكة وقال : والله لا عبد الله سراً بعد اليوم .

وقرأت فرقة : «رجْل » بسكون الجيم ، كعضد وعضد ، وسبع وسبع ، وقراءة الجمهور بضم الجيم واختلف الناس في هذا الرجل ، فقال السدي وغيره : كان من آل فرعون وأهله ، وكان يكتم إيمانه ، ف { يكتم } على هذا في موضع الصفة دون تقديم وتأخير ، وقال مقاتل : كان ابن عم فرعون . وقالت فرقة : لم يكن من أهل فرعون . ( وقالت فرقة : لم يكن من أهل فرعون ) . بل من بني إسرائيل ، وإنما المعنى : وقال رجل يكتم إيمانه من آل فرعون ، ففي الكلام تقديم وتأخير ، والأول أصح ، ولم يكن لأحد من بني إسرائيل أن يتكلم بمثل هذا عند فرعون ، ويحتمل أن يكون من غير القبط ، ويقال فيه من آل فرعون ، إذ كان في الظاهر على دينه ومن أتباعه ، وهذا كما قال أراكة الثقفي يرثي أخاه ويتعزى برسول الله صلى الله عليه وسلم : [ الطويل ]

فلا تبك مْيتاً بعد مْيت أجنه . . . علي وعباس وآل أبي بكر{[9986]}

يعني المسلمين إذ كانوا في طاعة أبي بكر الصديق .

وقوله : { أن يقول } مفعول من أجله ، أي لأجل أن يقول : وجلح{[9987]} معهم هذا المؤمن في هذه المقالات ثم غالطهم بعد في أن جعله في احتمال الصدق والكذب ، وأراهم أنها نصيحة ، وحذفت النون من : { يك } تخفيفاً على ما قال سيبويه وتشبيهاً بالنون في تفعلون وتفعلان على مذهب المبرد ، وتشبيهاً بحرف العلة الياء والواو على مذهب أبي علي الفارسي وقال : كأن الجازم دخل على «يكن » وهي مجزومة بعد فأشبهت النون الياء من يقضي والواو من يدعو ، لأن خفتها على اللسان سواء .

واختلف المتأولون في قوله : { يصبكم بعض الذي يعدكم } فقال أبو عبيدة وغيره : { بعض } بمعنى كل ، وأنشدوا قول القطامي عمرو بن شييم : [ البسيط ]

قد يدرك المتأني بعض حاجته . . . وقد يكون مع المستعجل الزلل{[9988]}

وقال الزجاج : هو إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر ، وليس فيه نفي إضافة الكل . وقالت فرقة ، أراد : يصبكم بعض العذاب الذي يذكر ، وذلك كاف في هلاككم ، ويظهر إلي أن المعنى : يصبكم القسم الواحد مما يعد به ، وذلك هو بعض ما يعد ، لأنه عليه السلام وعدهم إن آمنوا بالنعيم وإن كفروا بالعذاب فإن كان صادقاً فالعذاب بعض ما وعد به . وقالت فرقة : أراد ببعض ما يعدكم عذاب الدنيا ، لأنه بعض عذاب الآخرة ، أي وتصيرون بعد ذلك إلى الباقي وفي البعض كفاية في الإهلاك ، ثم وعظهم هذا المؤمن بقوله : { إن الله لايهدي من هو مسرف كذاب } قال السدي : معناه : مسرف بالقتل . وقال قتادة : مسرف بالكفر .


[9985]:يستشهد ابن عطية بهذا البيت على أن الصحابة كان لهم من الفضل أنهم عاشوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلموا منه، وكانوا قرناء له، والمرء يعرف بقرينه. والقرين في اللغة هو صاحبك الذي يقارنك، والجمع قرناء.
[9986]:وهذا شاهد على أنه يقال للمرء: (إنه من آل فلان) إذا كان على دينه ومن أتباعه، لأن الشاعر يقول: وآل أبي بكر ويعني بذلك كل من كان على دين أبي بكر رضي الله عنه، وهو في البيت يتعزى عن فقد أخيه بأن هناك من هو أفضل منه وأعظم، وقد مات، فلا يحق لنا أن نبكي عليه بعد أن مات هذا الإنسان العظيم الذي تولى دفنه علي بن أبي طالب والعباس وجميع المؤمنين الذين كانوا في طاعة الصديق رضي الله عنه.
[9987]:جلح في الأمر: أقدم ومضى.
[9988]:القطامي اسمه عمير بن شييم، وهو من بني تغلب، والبيت مما يتمثل به من شعره، وهو في البحر المحيط، وفي القرطبي وفي اللسان، وقبله: والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبل والمتأني في الأمر: المترفق فيه المتمهل، والزلل: الخطأ والسقوط. وقد نقل في اللسان عن أبي إسحق قوله: (من لطيف المسائل أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا وعد وعدا وقع الوعد بأسره ولم يقع بعضه، فمن أين جاز أن يقول: {بعض الذي يعدكم} وهذا باب من النظر يذهب فيه المناظر إلى إلزام حجته بأسير ما في الأمر، وليس في هذا معنى الكل، وإنما ذكر البعض ليوجب له الكل، لأن البعض هو الكل، ومثل هذا قول الشاعر: (قد يدرك المتأني... البيت)، لأن القائل إذا قال: أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض الحاجة، وأقل ما يكون للمستعجل الزلل، فقد أبان فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه. فكأن مؤمن آل فرعون قال لهم: أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم).