التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمۡزٗاۗ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِيرٗا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ} (41)

ثم حكى القرآن أن زكريا - لشدة لهفته على تحقق البشارة - سأل ربه أن يجعل له علامة تكون دليلا على تحقيق الحمل عند زوجته فقال – تعالى : { قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً } .

أى قال زكريا مناجيا ربه : يا رب إنى أسألك أن تجعل لي { آيَةً } آي : علامة تدلنى على حصول الحمل عند زوجتي : لأبادر إلى القيام بشكر هذه النعمة شكراً جزيلا ولأقوم بحقها حق القيام .

وقد أجابه - سبحانه - إلى طلبه فقال : { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } . أي قال الله - تعالى - لعبده زكريا : آيتك أى علامتك ألا تقدر على كلام الناس من غير آفة في لسانك لمدة ثلاثة أيام إلا { رَمْزاً } أى إلا عن طريق الإيحاء والإشارة .

وأصل الرمز الحركة . يقال ارتمز أى تحرك ، ومنه قيل للبحر الراموز وفعله من باب نصر وضرب . ثم أطلق الرمز على الإيماء بالشفتين أو بالحاجبين وعلى الإشارة باليدين وهو المراد هنا .

قال صاحب الكشاف : قال الله - تعالى - لزكريا آيتك ألا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام : وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله . ولذلك قال : { واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار } يعنى فى أيام عجزك عن تكليم الناس وهى من الآيات الباهرة ، فإن قلت : لم حبس لسانه عن كلام الناس ؟ قلت : ليخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره ، توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها الذي طلب الآية من أجله ، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر . وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه { إِلاَّ رَمْزاً } أى : إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما .

وعلى رأى صاحب الكشاف يكون احتباس لسان زكريا عن كلام الناس اضطراريا وليس عن اختيار منه .

ويمكن أن يقال إن المراد بقوله- تعالى- { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } . . . أن زكريا - عليه السلام - عندما طلب آية يعرف بها أن زوجته قد حملت بهذا الغلام الذى بشره الله به ، أخبره - سبحانه - أن العلامة على ذلك أن يوفق إلى خلوص نفسه من شواغل الدنيا حتى أنه ليجد نفسه متجها اتجاها كليا إلى ذكر الله وتمجيده وتسبيحه ، دون أن يكون عنده أى دافع إلى كلام الناس أو مخالطتهم مع قدرته على ذلك ، وعلى هذا يكون انصراف زكريا - عليه السلام - عن كلام الناس اختيارا وليس اضطراريا كما يرى صاحب الكشاف .

ثم أمره الله - تعالى - بالإكثار وتسبيحه فقال : { واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار } .

و { العشي } جمع عشية وقيل : هو واحد وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب ، وأما { الإبكار } فمصدر أبكر يبكر إذا خرج للأمر في أول النهار .

. . ومنه الباكورة لأول الثمرة . والمراد به هنا الوقت الذى يكون من طلوع الفجر إلى الضحى .

أى عليك أن تكثر من ذكر الله - تعالى - ومن تسبيحه فى أول النهار وفى آخره وفى كل وقت لا سيما فى تلك الأيام الثلاثة شكراً لله - تعالى - على ما أعطاك من نعم جليلة لا تحصى ، فقد وهبك الذرية بعد أن بلغت من الكبر عتيا ، وجعل هذا المولود من أنبياء الله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالته .

وفي هذا الأمر الإلهي لزكريا حصن لكل عاقل على الإكثار من ذكر الله من تسبيحه وتمجيده لن ذكر الله به تطمئن القلوب . وتسكن النفوس وتغسل الخطايا والذنوب ويكفى للدلالة على فضل الذكر أن الله - تعالى - أمر به حتى في حالة الحرب فقال : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ساقت لنا جانبا من قصد زكريا - عليه السلام - فيه الكثير من العبر والعظات لقوم يعقلون .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمۡزٗاۗ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِيرٗا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ} (41)

33

ولكن زكريا لشدة لهفته على تحقق البشرى ، ولدهشة المفاجأة في نفسه ، راح يطلب إلى ربه أن يجعل له علامة يسكن إليها :

( قال : رب اجعل لي آية . . . ) . .

هنا يوجهه الله سبحانه إلى طريق الاطمئنان الحقيقي ؛ فيخرجه من مألوفه في ذات نفسه . . إن آيته أن يحتبس لسانه ثلاثة أيام إذا هو اتجه إلى الناس ؛ وأن ينطلق إذا توجه إلى ربه وحده يذكره ويسبحه :

( قال : آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا . واذكر ربك كثيرا . وسبح بالعشي والإبكار )

ويسكت السياق هنا . ونعرف أن هذا قد كان فعلا . فإذا زكريا يجد في ذات نفسه غير المألوف في حياته وحياة غيره . . لسانه هذا هو لسانه . . ولكنه يحتبس عن كلام الناس وينطلق لمناجاة ربه . . أي قانون يحكم هذه الظاهرة ؟ إنه قانون الطلاقة الكاملة للمشيئة العلوية . . فبدونه لا يمكن تفسير هذه الغريبة . . كذلك رزقه بيحيى وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر ! ! !

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمۡزٗاۗ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِيرٗا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ} (41)

{ قال رب اجعل لي آية } علامة أعرف بها الحبل لاستقبله بالبشاشة والشكر وتزيح مشقة الانتظار . { قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام } أي لا تقدر على تكليم الناس ثلاثا ، وإنما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصة ليخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره ، قضاء لحق النعمة وكأنه قال آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال . { إلا رمزا } إشارة بنحو يد أو رأس ، وأصله التحرك ومنه الراموز للبحر والاستثناء منقطع وقيل متصل والمراد بالكلام ما دل على الضمير . وقرئ { رمزا } بفتحتين كخدم جمع رامز ورمزا كرسل جمع رموز على أنه حال منه ومن الناس بمعنى مترامزين كقوله :

متى ما تلقني فردين ترجف *** روانف أليتيك وتستطارا

{ واذكر ربك كثيرا } في أيام الحبسة ، وهو مؤكد لما قبله مبين للغرض منه ، وتقييد الأمر بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار . { وسبح بالعشي } من الزوال إلى الغروب . وقيل من العصر أو الغروب إلى ذهاب صدر الليل . { والإبكار } من طلوع الفجر إلى الضحى . وقرئ بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمۡزٗاۗ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِيرٗا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ} (41)

قوله : { قال رب اجعل لي آية } أراد آية على وقت حصول ما بُشِّر به ، وهل هو قريب أو بعيد ، فالآية هي العلامة الدالة على ابتداء حمل زوجه . وعن السدي والربيع : آيةَ تحقق كون الخطاب الوارد عليه وارداً من قبل الله تعالى ، وهو ما في إنجيل لوقا . وعندي في هذا نظر ، لأنّ الأنبياء لا يلتبس عليهم الخطاب الوارد عليهم من الله ويعلمونه بعلم ضروري .

وقوله : { آياتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } جعل الله حُبْسة لسانه عن الكلام آية على الوقت الذي تحمل فيه زوجته ، لأنّ الله صرف ما لَه من القوة في أعصاب الكلام المتصلة بالدمَاغ إلى أعصاب التناسل بحكمة عجيبة يقرب منها ما يذكر من سقوط بعض الإحساس لمن يأكل البَلاذر لقوة الفكر . أوْ أمرِه بالامتناع من الكلام مع الناس إعانة على انصراف القوة من المنطق إلى التناسل ، أي متى تمت ثلاثة الأيام كان ذلك أمارة ابتداء الحمل . قال الربيع جعل الله ذلك له عقوبة لتردّده في صحة ما أخبره به الملَك ، وبذلك صرح في إنجيل لوقا ، فيكون الجواب على هذا الوجه من قبيل أسلوب الحكيم لأنه سأل آيةً فأعطي غيرها .

وقوله : { واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار } أمر بالشكر . والذِّكر المراد به : الذِّكر بالقلب والصلاةِ إن كان قد سلب قوة النطق ، أو الذكر اللساني إن كان قد نهي عنها فقط . والاستثناء في قوله إلاّ رمزاً استثناء منقطع .