التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا} (66)

ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله على الناس ، ورحمته بهم . فقال - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } .

والمراد بقوله { كَتَبْنَا } : فرضنا وأوجبنا .

والمراد ( بقتل النفس ) تعريضا للهلاك من غير أمل فى النجاة ، وقيل : المراد به تعريضها للقتل عن طريق الجهاد .

والمراد بالخروج من الديار : الهجرة فى سبيل الله ، والخروج من الأوطان إلى أماكن فيها إستجابة لأمر الله .

قال الفخر الرازى : الضمير فى قوله { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } فيه قولان :

الأول : وهو قول ابن عباس ومجاهد - أنه عائد إلى المنافقين ، وذلك لأنه - تعالى - كتب على بنى إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم ، وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم . فقال - تعالى - : ولو أنا كتبنا القتل والخروج عن الوطن عن هؤلاء المنافقين ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة ، وحينئذ يصعب الأمر عليهم ، وينكشف كفرهم ، فإذا مل نفعل ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة ، فليتركوا النفاق ، وليقبلوا الإِيمان على سبيل الإِخلاص . وهذا القول اختيار أبى بكر الأصم والقفال .

الثانى : أن المراد لو كتب الله على الناس ما ذكر لم يفعله إلا قليل منهم ، فلما لم يفعل - سبحانه - ذلك رحمة بعباده ، بل اكتفى بتكليفهم بالأمور السهلة ، فعليهم أن يقبلوا عليها بإخلاص حتى ينالوا خير الدارين .

وعلى هذا التقدير دخل تحت هذا الكلام المؤمن والمنافق .

وأما الضمير فى قوله { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } فهو مختص بالمنافقين ، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا .

وعلى هذا التقدير يجب أن يكون المراد بالقليل المؤمنين .

وعلى كلا التقديرين : فإن الآية الكريمة تدل على أن الله - تعالى - لم يكلف هذه الأمة إلا بما تستطيعه ، لأنه - سبحانه - لو كلف الناس جميعا بالتكاليف الشاقة ، لما استطاع أن يقوم بها إلا عدد قليل منهم ، وهذا الدين لم يجئ لهذا العدد القليل من الناس وإنما جاء للناس جميعا .

والمراد : أننا لم نكتب على الناس قتل أنفسهم أو خروجهم من ديارهم لأننا لو فعلنا ذلك لما استطاعه إلا عدد قليل منهم . وإنما الذى كتبناه عليهم هو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والخضوع لحكمه فى الظاهر والباطن والاستجابة لتوجيهاته فى السر والعلن .

فالمقصود من الآية الكريمة بيان لمظهر من مظاهر فضل الله على هذه الأمة ، ورحمته بها ، وتحريض الناس على الامتثال لشريعة الله - تعالى - .

والضمير فى قوله { مَّا فَعَلُوهُ } للمكتوب عليهم الشامل للقتل والخروج من الديار . لدلالة قوله { كَتَبْنَا } عليه .

وقوله " قليل " مرفوع على أنه بدل من الواو فى قوله { فَعَلُوهُ } والتقدير : ما فعله أحد إلا قليل منهم . وقرأه ابن عامر بالنصب على الاستثناء . والأول أولى ، لأنه استثناء من كلام تام غير موجب فيترجح الرفع .

قال ابن كثير : لما نزلت { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } . . . الآية . . قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذى عافانا . فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فقال : " إن من أمتى رجالا ، الإِيمان أثبت فى قلوبهم من الرواسى " .

وعن عامر بن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم " - أى : لو فرض ذلك لكان عبد الله بن مسعود من الذين يفعلونه .

" وعن شريح بن عبيد قال : لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، أشار بيده إلى عبد الله بن رواحة فقال : " لو أن الله كتب ذلك ، لكان هذا من أولئك القليل " " .

وقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } بيان للنتائج الطيبة التى تترتب على امتثالهم لأمر الله .

أى : ولو ثبت أن هؤلاء الذين أمرناهم بطاعتنا { أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } أى : ما أمرناهم به من اتباع لرسولنا صلى الله عليه وسلم وانقياد لحكمه ، لأنه الصادق المصدوق الذى لا ينطق عن الهوى . .

لو ثبت أنهم فلعوا ذلك لكان ما فعلوه { خَيْراً لَّهُمْ } فى دنياهم وآخرتهم . ولكان { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } لهم على الحق والصواب ، وأمنع لهم من الضلال .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا} (66)

58

وبعد أن يقرر أن لا إيمان قبل تحكيم رسول الله [ ص ] وقبل الرضى والتسليم بقضائه ، يعود ليقول : إن هذا المنهج الذي يدعون إليه ؛ وهذه الشريعة التي يقال لهم : تحاكموا إليها - لا لسواها - وهذا القضاء الذي يتحتم عليهم قبوله والرضاء به . . . إنه منهج ميسر ، وشريعة سمحة ، وقضاء رحيم . . إنه لا يكلفهم شيئا فوق طاقتهم ؛ ولا يكلفهم عنتا يشق عليهم ؛ ولا يكلفهم التضحية بعزيز عليهم . . فالله يعلم ضعف الإنسان ؛ ويرحم هذا الضعف . والله يعلم أنهم لو كلفوا تكاليف شاقة ، ما أداها إلا قليل منهم . . وهو لا يريد لهم العنت ، ولا يريد لهم أن يقعوا في المعصية . . ومن ثم لم يكتب عليهم ما يشق ، وما يدعو الكثيرين منهم للتقصير والمعصية . ولو أنهم استجابوا للتكاليف اليسيرة التي كتبها الله عليهم ؛ واستمعوا للموعظة التي يعظهم الله بها ؛ لنالوا خيرا عظيما في الدنيا والآخرة ؛ ولأعانهم الله بالهدى ، كما يعين كل من يجاهد للهدى بالعزم والقصد والعمل والإرادة ، في حدود الطاقة :

( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ، أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه - إلا قليل منهم - ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ، لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ؛ وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ؛ ولهديناهم صراطا مستقيمًا ) . .

إن هذا المنهج ميسر لينهض به كل ذي فطرة سوية . إنه لا يحتاج للعزائم الخارقة الفائقة ، التي لا توجد عادة إلا في القلة من البشر . وهذا الدين لم يجيء لهذه القلة القليلة . إنه جاء للناس جميعا . والناس معادن ، وألوان ، وطبقات . من ناحية القدرة على النهوض بالتكاليف . وهذا الدين ييسر لهم جميعا أن يؤدوا الطاعات المطلوبة فيه ، وأن يكفوا عن المعاصي التي نهى عنها .

وقتل النفس ، والخروج من الديار . . مثلان للتكاليف الشاقة ، التي لو كتبت عليهم ما فعلها إلا قليل منهم . وهي لم تكتب لأنه ليس المراد من التكاليف أن يعجز عنها عامة الناس ؛ وأن ينكل عنها عامة الناس . بل المراد أن يؤديها الجميع ، وأن يقدر عليها الجميع ، وأن يشمل موكب الإيمان كل النفوس السوية العادية ؛ وأن ينتظم المجتمع المسلم طبقات النفوس ، وطبقات الهمم ، وطبقات الاستعدادات ؛ وأن ينميها جميعا ويرقيها ، في أثناء سير الموكب الحافل الشامل العريض !

قال ابن جريج : حدثنا المثنى إسحاق أبو الأزهر ، عن إسماعيل ، عن أبى إسحاق السبيعي قال : لما نزلت : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ) . . . الآية : قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا . . فبلغ ذلك النبي [ ص ] فقال : " إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبالالرواسي " .

وروى ابن أبي حاتم - بإسناده - عن مصعب بن ثابت . عن عمه عامر بن عبدالله بن الزبير . قال : لما نزلت ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ) قال رسول الله [ ص ] : " لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم " .

وفي رواية له - بإسناده - عن شريح بن عبيد : قال : لما تلا رسول الله [ ص ] هذه الآية : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم . . . ) الآية ، أشار رسول الله [ ص ] بيده إلى عبدالله ابن رواحة ، فقال : " لو أن الله كتب هذا ، لكان هذا من أولئك القليل " :

وكان رسول الله [ ص ] يعرف رجاله معرفة وثيقة عميقة دقيقة ؛ ويعرف من خصائص كل منهم ما لا يعرفه كل منهم عن نفسه ! وفي السيرة من هذا الكثير من الشواهد على خبرة الرسول [ ص ] بكل واحد من رجاله ؛ وخبرته كذلك بالرجال والقبائل التي كانت تحاربه . . خبرة القائد البصير بكل ما حوله ومن حوله . . في دقة عجيبة . . لم تدرس بعد الدراسة الواجبة .

وليس هذا موضوعنا . ولكن موضوعنا أن رسول الله [ ص ] كان يعرف أن في أمته من ينهض بالتكاليف الشاقة لو كتبت عليهم . ولكنه كان يعرف كذلك أن الدين لم يجيء لهذه القلة الممتازة في البشرية كلها . وكان الله - سبحانه - يعلم طبيعة هذا " الإنسان " الذي خلقه ؛ وحدود طاقته ؛ فلم يكتب على الناس في الدين الذي جاء للبشر أجمعين ، إلا ما هو ميسر للجميع ؛ حين تصح العزيمة ، وتعتدل الفطرة ، وينوي العبد الطاعة ، ولا يستهتر ولا يستهين .

وتقرير هذه الحقيقة ذو أهمية خاصة ؛ في مواجهة الدعوات الهدامة ؛ التي تدعو الإنسان إلى الانحلال والحيوانية ، والتلبط في الوحل كالدود ! بحجة أن هذا هو " واقع " الإنسان ، وطبيعته وفطرته وحدود طاقته ! وأن الدين دعوة " مثالية " لم تجيء لتحقق في واقع الأرض ؛ وإذا نهض بتكاليفها فرد ، فإن مائة لا يطيقون !

هذه دعوى كاذبة أولا ؛ وخادعة ثانيا ؛ وجاهلة ثالثا . . لأنها لا تفهم " الإنسان " ولا تعلم منه ما يعلمه خالقه ، الذي فرض عليه تكاليف الدين ؛ وهو يعلم - سبحانه - أنها داخلة في مقدور الإنسان العادي . لأن الدين لم يجيء للقلائل الممتازين !

وإن هي إلا العزيمة - عزيمة الفرد العادي - وإخلاص النية . والبدء في الطريق . وعندئذ يكون ما يعد الله به العاملين :

( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ) .

فمجرد البدء ، يتبعه العون من الله . ويتبعه التثبيت على المضي في الطريق .

ويتبعه الأجر العظيم .

وتتبعه الهداية إلى الطريق المستقيم . . وصدق الله العظيم . . فما يخدع الله - سبحانه وتعالى - عباده ؛ ولا يعدهم وعدا لا يفي لهم به ؛ ولا يحدثهم إلا حديث الصدق . . ( ومن أصدق من الله حديثًا ) ؟

في الوقت ذاته ليس اليسر - في هذا المنهج - هو الترخص . ليس هو تجميع الرخص كلها في هذا الدين وجعلها منهج الحياة . فهذا الدين عزائم ورخص . والعزائم هي الأصل والرخص للملابسات الطارئة . . وبعض المخلصين حسني النية ، الذين يريدون دعوة الناس إلى هذا الدين ، يعمدون إلى " الرخص " فيجمعونها ويقدمونها للناس ، على أنها هي هذا الدين . ويقولون لهم : انظروا كم هو ميسر هذا الدين ! وبعض الذين يتملقون شهوات السلطان أو شهوات الجماهير ، يبحثون عن " منافذ " لهذه الشهوات من خلال الأحكام والنصوص ؛ ويجعلون هذه المنافذ هي الدين !

وهذا الدين ليس هذا وليس ذاك . إنما هو بجملته . برخصه وعزائمة . ميسر للناس يقدر عليه الفرد العادي ، حين يعزم . ويبلغ فيه تمام كماله الذاتي - في حدود بشريته - كما يبلغ تمام كماله الذاتي في الحديقة الواحدة : العنب والخوخ والكمثرى والتوت والتين والقثاء . . ولا تكون كلها ذات طعم واحد . . ولا يقال عن أحدها : إنه غير ناضج - حين يبلغ نضجه الذاتي - إذا كان طعمه أقل مرتبة من النوع الآخر !

في حديقة هذا الدين ينبت البقل والقثاء ؛ وينبت الزيتون والرمان ، وينبت التفاح والبرقوق ، وينبت العنب والتين . . . وينضج كله ؛ مختلفة طعومه ورتبه . . ولكنه كله ينضج . ويبلغ كماله المقدر له . . إنها زرعة الله . . في حقل الله . . برعاية الله . . وتيسير الله . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا} (66)

{ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } تعرضوا بها للقتل في الجهاد ، أو اقتلوها كما قتل بنو إسرائيل وأن مصدرية أو مفسرة لأن كتبنا في معنى أمرنا . { أو اخرجوا من دياركم } خروجهم حين استتيبوا من عبادة العجل ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب أن اقتلوا بكسر النون على أصل التحريك ، أو اخرجوا بضم الواو للاتباع والتشبيه بواو الجمع في نحو قوله تعالى : { ولا تنسووا الفضل } وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل والباقون بضمهما إجراء لهما مجرى الهمزة المتصلة بالفعل . { ما فعلوه إلا قليل منهم } إلا أناس قليل وهم المخلصون . لما بين أن إيمانهم لا يتم إلا بأن يسلموا حق التسليم ، نبه على قصور أكثرهم ووهن إسلامهم ، والضمير للمكتوب ودل عليه كتبنا ، أو لأحد مصدري الفعلين -وقرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء أو على إلا فعلا قليلا . { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم مطاوعته طوعا ورغبة . { لكان خيرا لهم } في عاجلهم وآجلهم . { وأشد تثبيتا } في دينهم لأنه أشد لتحصيل العلم ونفي الشك أو تثبيتا لثواب أعمالهم ونصبه على التمييز . والآية أيضا مما نزلت في شأن المنافق اليهودي . وقيل إنها والتي قبلها نزلتا في حاطب بن أبي بلتعة خاصم زبيرا في شراج من الجرة كانا يسقيان بها النخل ، فقال عليه الصلاة والسلام : " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ، فقال حاطب : لأن كان ابن عمتك . فقال عليه الصلاة والسلام أسق يا زبير ثم احبس الماء إلى الجدر واستوف حقك ، ثم أرسله إلى جارك " .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا} (66)

و { كتبنا } معناه فرضنا ، و { اقتلوا أنفسكم } معناه ليقتل بعضكم بعضاً ، وقد تقدم نظيره في البقرة ، وضم النون من { أن } وكسرها جائز ، وكذلك الواو من { أو أخرجوا } وبضمها قرأ ابن عامر ونافع وابن كثير والكسائي ، وبكسرها قرأ حمزة وعاصم ، وكسر أبو عمرو النون وضم الواو ، و { قليل } رفع على البدل من الضمير في { فعلوه } ، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب «إلا قليلاً » ، وذلك جائز أجرى النفي مجرى الإيجاب .

وسبب الآية على ما حكي : أن اليهود قالوا لما لم يرض المنافق بحكم النبي عليه السلام : ما رأينا أسخف من هؤلاء ، يؤمنون بمحمد ويتبعونه ، ويطؤون عقبه ، ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا ، وبلغ القتل فينا سبعين ألفاً فقال ثابت بن قيس : لو كتب ذلك علينا لفعلناه ، فنزلت الآية معلمة حال أولئك المنافقين ، وأنه لو كتب ذلك على الأمة لم يفعلوه ، وما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون ، كثابت وغيره ، وكذلك روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ثابت بن قيس وعمار وابن مسعود من القليل . وشركهم في ضمير { منهم } لما كان المنافقون والمؤمنون مشتركين في دعوة الإسلام وظواهر الشريعة ، وقال أبو إسحاق السبيعي : لما نزلت { ولو أنا كتبنا عليهم } الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «إن من أمتي رجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي »{[4139]} وذكر مكي أن الرجل هو أبو بكر الصديق ، وذكر النقاش : أنه عمر بن الخطاب ، وذكر عن أبي بكر أنه قال : لو كتب علينا لبدأت بنفسي وبأهل بيتي وقوله تعالى : { ولو أنهم فعلوا } أي لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيراً لهم ، و { تثبيتاً } معناه : يقيناً وتصديقاً ونحوهذا ، أي يثبتهم الله .


[4139]:- رواه ابن جرير عن أبي إسحاق السبيعي، ورواه ابن أبي حاتم عن الأعمش (ابن كثير).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا} (66)

لم يظهر وجه اتّصاله بما قبله ليعطف عليه ، لأنّ ما ذكر هنا ليس أولى بالحكم من المذكور قبله ، أي ليس أولى بالامتثال حتّى يقال : لو أنّا كلّفناهم بالرضا بما هو دون قطع الحقوق لما رضوا ، بل المفروض هنا أشدّ على النفوس ممّا عصوا فيه . فقال جماعة من المفسّرين : وجه اتّصالها أنّ المنافق لمّا لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم وأراد التحاكم إلى الطاغوت ، وقالت اليهود : ما أسخف هؤلاء يؤمنون بمحمّد ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمَرنَا نبيئُنا بقتل أنفسنا ففعلنْا وبلغت القتلى منّا سبعين ألفاً ؛ فقال ثابت بن قيس بن شماس : لو كتب ذلك علينا لفعلنا ، فنزلت هذه الآية تصديقاً لثابت بن قيس ، ولا يخفى بعده عن السياق لأنّه لو كان كذلك لما قيل { ما فعلوه إلاّ قليل منهم } بل قيل : لفعله فريق منهم . وقال الفخر : هي توبيخ للمنافقين ، أي لو شدّدنا عليهم التكليف لما كان من العجب ظهور عنادهم ، ولكنّا رحمناهم بتكليفهم اليسر فليْتركوا العناد . وهي على هذا الوجه تصلح لأن تكون تحريضاً للمؤمنين على امتثال الرسول وانتفاء الحرج عنهم من أحكامه ، فإنّه لم يكلّفهم إلاّ اليسر ، كلّ هذا محمول على أنّ المراد بقتل النفوس أن يقتل أحد نفسه بنفسه .

وعندي أنّ ذكر ذلك هنا من براعة المقطع تهيئة لانتقال الكلام إلى التحريض على الجهاد الآتي في قوله : { يأيّها الذين آمنوا خذوا حذركم } [ النساء : 71 ] وأنّ المراد ب { اقتلوا أنفسكم } : ليقتل بعضكم بعضاً فإنّ المؤمنين يقاتلون قومهم وأقاربهم من المشركين في الجهاد المأمور به بدليل قوله : { ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به } الآية . والمراد بالخروج من الديار الهجرة ، أي كتبنا عليهم هجرة من المدينة ، وفي هذا تنويه بالمهاجرين والمجاهدين .

وقرأ الجمهور { إلاّ قليل } بالرفع على البدل من الواو في { ما فعلوه } على الاستثناء . وقرأه ابن عامر بالنصب على أحد وجهي الاستثناء من الكلام المنفي .

ومعنى { ما يوعظون به } علم من قوله : { فأعرض عنهم وعظهم } [ النساء : 63 ] ، أي ما يؤمرون به أمر تحذير وترقيق ، أي مضمون ما يوعظون لأنّ الوعظ هو الكلام والأمر ، والمفعول هو المأمور به ، أي لو فعلوا كلّ ما يبلّغهم الرسول ، ومن ذلك الجهاد والهجرة . وكونُه خيراً أنّ فيه خير الدنيا لأنّ الله يعلم وهم لا يعلمون .

ومعنى كونه { أشدّ تثبيتاً } يحتمل أنّه التثبيت على الإيمان وبذلك فسّروه ويحتمل عندي أنّه أشدّ تثبيتاً لهم ، أي لبقائهم بين أعدائهم ولعزّتهم وحياتهم الحقيقية فإنّهم إنّما يكرهون القتال استبقاء لأنفسهم ، ويكرهون المهاجرة حبّاً لأوطانهم ، فعلّمهم الله أنّ الجهاد والتغرب فيه أو في غيره أشدّ تثبيتاً لهم ، لأنّه يذود عنهم أعداءهم ، كما قال الحصين بن الحُمَام :

تأخَّرْتُ أسْتَبْقِي الحياة فلم أجد *** لنفسي حياةً مثلَ أن أتقدّما

وممّا دلّ على أنّ المراد بالخير خير الدنيا ، وبالتثبيت التثبيت فيها ، قوله عاطفاً عليه { وإذن لآتيناهُم من لَدُنَّا أجراً عظيماً } .