التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن الصيام ، وما يتعلق به من أحكام ، أردف ذلك بالنهي عن أكل الحرام ، لأنه يؤدي إلى عدم قبول العبادات من صيام واعتكاف ودعاء وغير ذلك فقال - تعالى - : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام . . . }

الخطاب في الآية الكريمة موجه إلى المؤمنين كافة في كل زمان ومكان .

والمراد بالأكل مطلق الأخذ بغير وجه حق ، وعبر عنه بالأكل ، لأن الأكل أهم وسائل الحياة ، وفيه تصرف الأموال غالباً .

والباطل في اللغة : الزائل الذاهب ، يقال : بطل يبطل بطولا وبطلانا . أي ذهب ضياًعا وخسراً . وجمع الباطل أباطيل . ويقال : بطل الأجير يبطل بطالة إذا تعطل واتبع اللهو .

والمراد هنا : كل ما لم يبح الشرع أخذه من المال وإن طابت به النفس ، كالربا والميسر وثمن الخمر ، والرشوة ، وشهادة الزور ، والسرقة ، والغصب ، ونحو ذلك مما حرمه الله - تعالى - .

والباء للسببية ، والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله ، وكذلك قوله : { بَيْنَكُمْ } .

والمعنى : لا يأخذ بعضكم مال بعض ، ويستولي عليه بغير حق ، متذرعا بالأسباب الباطلة ، والحيل الزائفة ، وما إلى ذلك من وجوه التعدي والظلم .

وفي قوله - تعالى - : { أَمْوَالَكُمْ } - مع أن أكل المال يتناول مال الإِنسان ومال غيره - في هذا القول إشعار بوحدة الأمة وتكافلها ، وتنبيه إلى أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك أنت ، ففي هذه الإضافة البليغة تعليل للنهي ، وبيان لحكمة الحكم ، إذا استحلال الإِنسان لمال غيره يجرئ هذا الغير على استحلال مال ذلك الإِنسان المتعدي ، وإذا فشا هذا السلوك في أمة من الأمم أدى بها إلى الضعف والتعادي والتباغض .

فما أحكم هذا التعبير ، وما أجمل هذا التصوير .

وقوله : { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام } معطوف على { وَلاَ تأكلوا } .

والإِدلاء في الأصل : إرسال الدلو في البئر للاستقاء . ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء ؛ ومنه أدلى فلان بحجته ، أي : أرسلها ليصل إلى مراده .

والمراد بالإِدلاء هنا : الدفع والإِلقاء بالأموال إلى الغير من أجل الوصول إلى أمر معين .

والحكام : جمع حاكم ، وهو الذي يتصدى للفصل بين الناس في خصوماتهم وقضاياهم .

والفرق : الطقعة المعزولة من جملة الشيء ، ومنه قيل للقطعة من الغنم تشذ عن معظمها فريق .

والإِثم : الفعل الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب . وجمعه آثام .

والمعنى : لا يأخذ بعضكم أموال بعض - أيها المسلمون - ولا يستولي عليها بغير حق ، ولا تدلوا بها الى الحكام ، أي ولا تلقوا أمرها والتحاكم فيها إلى القضاة ، لا من أجل الوصول إلى الحق ، وإنما من أجل أن تأخذوا عن طريق التحاكم قطعة من أموال غيركم متلبسين بالإِثم الذي يؤدي إلى عقابكم ، حال كونكم تعلمون أنكم على باطل ، ولا شك أن إتيان الباطل مع العلم بأنه باطل أدعى إلى التوبيخ من إتيانه على جهالة به .

فعلى هذا الوجه يكون المراد بالإِدلاء بالأموال إلى الحكام طرحها أمامهم ليقضوا فيها ، وليتوسل بعض الخصوم عن طريق هذا القضاء إلى أكل الأموال بالباطل حين عجزوا عن أكلها بالمغالبة .

وهناك وجه آخر تحتمله الآية احتمالا قريباً ، وبه قال كثير من العلماء وهو أن المراد بالإِدلاء بالأموال إلى الحكام ، إلقاءؤها إليهم على سبيسل الرشوة ليصلوا من وراء ذلك إلى أن يحكموا لصالحهم بالباطل ، وعليه يكون المعنى .

لا يأخذ بضعكم أموال بعض أيها المسلمون ، ولا تلقوا ببعضها إلى حكام السوء على سبيل الرشوة ، لتتوصلوا بأحكامهم الجائرة إلى أكل فريق من أموال الناس بغير حق . ولا غربة في أن يعني القرآن في سياسته الرشيدة بالتحذير من جريمة الرشوة ، فإنها المعول الذي يهدم صرح العدل من أساسه وبها تفقد مجالس القضاء حرمتها وكرامتها ، وتصير تلك المجالس موطنا للظلم لا للعدل .

وخص القرآن الكريم هذه الصورة بالنهي - وهي صورة الإِدلاء بالأموال إلى الحكام - مع أنه قد ذكر ما يشملها بقوله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } لأنها على وجهي تفسيرها شديدة الشناعة ، جامعة لمنكرات كثيرة ، كالظلم ، والتباغض والرشوة ، والغصب وغير ذلك . والحق ، أن هذه الآية الكريمة أصل من الأصول التي يقوم عليها إصلاح المعاملات ، وقد أخذ العلماء منها حرمة أكل أموال الناس بالباطل ، وحرمة إرشاء الحكام ليقضي للراشي بمال غيره ، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الجميع في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله الراشي والمرتشي والرائش " وهو الواسطة الذي يمشي بينهما .

كما أخذوا منها أن حكم الحاكم على ما يقتضيه الظاهر من أمر القضية لا يحل في الواقع حراماً ، ولا يحرم حلالاً ، والدليل على ذلك ما أخرجه الشيخان عن أم سلمة - رضي الله عنها - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " إنما أنا بشر وإنه ليأتيني الخصم . فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ، فأحسب أنه قد صدق ، فأقضى له بذلك . فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها " .

قال الإِمام ابن كثير : فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر ، فلا يحل في نفس الأمر حراماً ولا يحرم حلالا ، وإنماهو ملزم في الظاهر فإن طبق في نفس الأمر فذاك وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره . ولهذا قال - تعالى - في آخر الآية { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . أي تعلمون بطلان ما تدعونه وترجونه في كلامكم . وبذلك تكون الآية الكريمة قد رسمت طريق الحق لمن يريد أن يسير فيه { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

178

وفي ظل الصوم ، والامتناع عن المأكل والمشرب ، يرد تحذير من نوع آخر من الأكل : أكل أموال الناس بالباطل ، عن طريق التقاضي بشأنها أمام الحكام اعتمادا على المغالطة في القرائن والأسانيد ، واللحن بالقول والحجة . حيث يقضي الحاكم بما يظهر له ، وتكون الحقيقة غير ما بدا له . ويجيء هذا التحذير عقب ذكر حدود الله ، والدعوة إلى تقواه ، ليظللها جو الخوف الرادع عن حرمات الله :

( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ) .

ذكر ابن كثير في تفسير الآية : " قال علي بن أبي طلحة وعن ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال ، وليس عليه فيه بينة ، فيجحد المال ، ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أن الحق عليه ، وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام . وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير ، وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم . وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله [ ص ] قال : " إنما أنا بشر ، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار . فليحملها أو ليذرها " . .

وهكذا يتركهم لما يعلمونه من حقيقة دعواهم . فحكم الحاكم لا يحل حراما ، ولا يحرم حلالا . إنما هو ملزم في الظاهر . وإثمه على المحتال فيه .

وهكذا يربط الأمر في التقاضي وفي المال بتقوى الله . كما ربط في القصاص ، وفي الوصية وفي الصيام . فكلها قطاعات متناسقة في جسم المنهج الإلهي المتكامل . وكلها مشدودة إلى تلك العروة التي تربط قطاعات المنهج كله . . ومن ثم يصبح المنهج الإلهي وحدة واحدة . لا تتجزأ ولا تتفرق . ويصبح ترك جانب منه وإعمال جانب ، إيمانا ببعض الكتاب وكفرا ببعض . . فهو الكفر في النهاية . والعياذ بالله . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } أي ولا يأكل بعضكم مال بعض بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى . وبين نصب على الظرف ، أو الحال من الأموال . { وتدلوا بها إلى الحكام } عطف على المنهي ، أو نصب بإضمار أن ، والإدلاء الإلقاء ، أي ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام . { لتأكلوا } بالتحاكم . { فريقا } طائفة . { من أموال الناس بالإثم } بما يوجب إثما ، كشهادة الزور واليمين الكاذبة ، أو ملتبسين بالإثم . { وأنتم تعلمون } أنكم مبطلون ، فإن ارتكاب المعصية مع العلم بها أقبح . روي أن عبدان الحضرمي ادعى على امرئ القيس الكندي قطعة من أرض ولم يكن له بينة ، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس ، فهم به فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } الآية . فارتدع عن اليمين ، وسلم الأرض إلى عبدان ، فنزلت . وفيه دليل على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : " إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلي . ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار " .