التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (97)

ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة المؤمنين الذين يحرصون على العمل الصالح فقال - تعالى - : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .

أي : من عمل عملا صالحا ، بأن يكون خالصا لوجه الله - تعالى - وموافقا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، سواء أكان هذا العامل المؤمن ذكرا أم أنثى ، فلنحيينه حياة طيبة ، يظفر معها بصلاح البال ، وسعادة الحال .

وقال - سبحانه - : { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } ، مع أن لفظ " مَنْ " في قوله : { من عمل } ، يتناول الذكور والإِناث ؛ للتنصيص على النوعين ، حتى يكون أغبط لهما ، ولدفع ما قد يتوهم من أن الخطاب للذكور وحدهم .

ولذا قال صاحب الكشاف : فإن قلت : " مَن " متناول في نفسه للذكر والأنثى ، فما معنى تبيينه بهما ؟ قلت : هو مبهم صالح على الإِطلاق للنوعين ، إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور ، فقيل : { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } ، على التبيين ليعم الوعد النوعين جميعا .

وقيد - سبحانه - العامل بكونه مؤمنا فقال : { وهو مؤمن } ؛ لبيان أن العمل لا يكون مقبولا عند الله - تعالى - إلا إذا كان مبنيا على العقيدة الصحيحة ، وكان صاحبه يدين بدين الإِسلام ، وقد أوضح القرآن هذا المعنى فى آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } والمراد بالحياة الطيبة في قوله - تعالى - : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } ، الحياة الدنيوية التي يحياها المؤمن إلى أن ينقضي أجله .

قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : هذا وعد من الله - تعالى - لمن عمل صالحا من ذكر أوأنثى ، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا . . والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت . وقد روى عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال ، وعن علي بن أبى طالب أنه فسرها بالقناعة .

والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإِمام أحمد عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافا ، وقنعه الله بما آتاه " .

وقيل : المراد بالحياة الطيبة هنا : الحياة الأخروية ، وقد صدر الشيخ الآلوسي تفسيره بهذا الرأي فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } ، والمراد بالحياة الطيبة : التي تكون في الجنة ، إذ هناك حياة بلا موت ، وغنى بلا فقر ، وصحة بلا سقم ، وسعادة بلا شقاوة . . فعن الحسن : لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة .

وقال شريك : هي حياة تكون في البرزخ . . وقال غير واحد : هي في الدنيا .

ويبدو لنا أن تفسير الحياة الطيبة هنا بأنها الحياة الدنيوية أرجح ؛ لأن الحياة الأخروية جاء التصريح بها بعد ذلك في قوله - تعالى - : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (97)

90

وبمناسبة العمل والجزاء ، يعقب بالقاعدة العامة فيهما :

( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ، فلنحيينه حياة طيبة ، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) . . فيقرر بذلك القواعد التالية :

أن الجنسين : الذكر والأنثى . متساويان في قاعدة العمل والجزاء ، وفي صلتهما بالله ، وفي جزائهما عند الله . ومع أن لفظ( من )حين يطلق يشمل الذكر والأنثى إلا أن النص يفصل : ( من ذكر أو أنثى )لزيادة تقرير هذه الحقيقة . وذلك في السورة التي عرض فيها سوء رأي الجاهلية في الأنثى ، وضيق المجتمع بها ، واستياء من يبشر بمولدها ، وتواريه من القوم حزنا وغما وخجلا وعارا !

وأن العمل الصالح لا بد له من القاعدة الأصيلة يرتكز عليها . قاعدة الإيمان بالله ( وهو مؤمن ) فبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء ، وبغير هذه الرابطة لا يتجمع شتاته ، إنما هو هباء كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . والعقيدة هي المحور الذي تشد إليه الخيوط جميعا ، وإلا فهي أنكاث . فالعقيدة هي التي تجعل للعمل الصالح باعثا وغاية . فتجعل الخير أصيلا ثابتا يستند إلى أصل كبير . لا عارضا مزعزعا يميل مع الشهوات والأهواء حيث تميل .

وأن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض . لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال . فقد تكون به ، وقد لا يكون معها . وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية : فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه . وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة ، وسكن البيوت ومودات القلوب . وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة . . وليس المال إلا عنصرا واحدا يكفي منه القليل ، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله .

وأن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة .

وأن هذا الأجر يكون على أحسن ما عمل المؤمنون العاملون في الدنيا ، ويتضمن هذا تجاوز الله لهم عن السيئات . فما أكرمه من جزاء !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (97)

هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا - وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه{[16682]} من ذكر أو أنثى من بني آدم ، وقلبه مؤمن بالله ورسوله ، وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله - بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه{[16683]} بأحسن ما عمله في الدار الآخرة .

والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت . وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب .

وعن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه فسرها بالقناعة . وكذا قال ابن عباس ، وعِكْرِمة ، ووهب بن منبه .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أنها{[16684]} السعادة .

وقال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة : لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة .

وقال الضحاك : هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا ، وقال الضحاك أيضا : هي{[16685]} العمل بالطاعة والانشراح بها .

والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني شرحبيل بن شريك ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عَمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قد أفلح من أسلم ورُزق كفافا ، وقَنَّعه الله بما آتاه " .

ورواه مسلم ، من حديث عبد الله بن يزيد المقرئ به{[16686]}

وروى الترمذي والنسائي ، من حديث أبي هانئ ، عن أبي علي الجنبي{[16687]} عن فضالة بن عُبَيد ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قد أفلح من هُدي إلى الإسلام ، وكان عيشه كفافا ، وقنع{[16688]} به " . وقال الترمذي : هذا حديث صحيح{[16689]} .

وقال الإمام أحمد ، حدثنا يزيد ، حدثنا هَمَّام ، عن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا [ ويثاب عليها في الآخرة ، وأما الكافر فيعطيه حسناته في الدنيا ]{[16690]} حتى إذا أفضى إلى الآخرة ، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرًا " . انفرد بإخراجه مسلم{[16691]} .


[16682]:في ت: "رسوله".
[16683]:في ت: "يجزى".
[16684]:في ت، ف: "هي".
[16685]:في ت، ف: "هو".
[16686]:المسند (2/ 168) وصحيح مسلم برقم (1054).
[16687]:في ت، ف، أ: "الحسبي".
[16688]:في ت: "ومنع".
[16689]:سنن الترمذي برقم (2349).
[16690]:زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
[16691]:المسند (3/ 123) وصحيح مسلم برقم (2818).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (97)

لما كان الوعد المتقدم بقوله تعالى ؛ { وليجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ سورة النحل : 96 ] خاصاً بأولئك الذين نهوا عن أن يشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً عُقب بتعميمه لكل من ساواهم في الثبات على الإسلام والعمل الصالح مع التبيين للأجر ، فكانت هذه الجملة بمنزلة التذييل للتي قبلها ، والبيان لما تضمّنته من مجمل الأجر . وكلا الاعتبارين يوجب فصلها عمّا قبلها .

وقوله تعالى : { من ذكر أو أنثى } تبيين للعموم الذي دلّت عليه { مَن } الموصولة . وفي هذا البيان دلالة على أن أحكام الإسلام يستوي فيها الذكور والنساء عدا ما خصّصه الدين بأحد الصّنفين . وأكّد هذا الوعدُ كما أكّد المبيّن به .

وذُكر « لنحيينّه » ليبنى عليه بيان نوع الحياة بقوله تعالى : { حياة طيبة } . وذلك المصدر هو المقصود ، أي لنجعلنّ له حياة طيّبة . وابتدىء الوعد بإسناد الإحياء إلى ضمير الجلالة تشريفاً له كأنه قيل : فله حياة طيبة مِنّا . ولما كانت حياة الذّات لها مدّة معيّنة كثُر إطلاق الحياة على مدّتها ، فوصفها بالطيّب بهذا الاعتبار ، أي طيب ما يحصل فيها ، فهذا الوصف مجاز عقلي ، أي طيّباً ما فيها . ويقارنها من الأحول العارضة للمرء في مدّة حياته ، فمن مات من المسلمين الذين عملوا صالحاً عوّضه الله عن عمله ما فاته من وعده .

ويفسّر هذا المعنى ما ورد في الصحيح عن خباب بن الأرت قال : « هاجرنا مع رسول الله نبتغي بذلك وجه الله فوجب أجرنا على الله ، فمنّا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً ، كان منهم مُصعَب بنُ عمير قتل يوم أُحد فلم يترك إلا نَمِرة كنّا إذا غطّينا بها رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غُطي بها رجلاه خرج رأسه ، ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدُبُها » .

والطيِّب : ما يطيب ويحسن . وضد الطيّب : الخبيث والسيّىء . وهذا وعد بخيرات الدنيَا . وأعظمها الرضى بما قسم لهم وحسن أملهم بالعاقبة والصحّة والعافية وعزّة الإسلام في نفوسهم . وهذا مقام دقيق تتفاوت فيه الأحوال على تفاوت سرائر النفوس ، ويعطي الله فيه عبادهُ المؤمنين على مراتب هممهم وآمالهم . ومن راقب نفسه رأى شواهد هذا .

وقد عُقب بوعد جزاء الآخرة بقوله تعالى : { ولنجزينَّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } ، فاختص هذا بأجر الآخرة بالقرينة بخلاف نظيره المتقدّم آنفاً فإنه عامّ في الجَزاءين .