التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗاۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٞ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

ثم حكى القرآن لونا آخر من ألوان مزاعم اليهود الباطلة ، وأقاويلهم الكاذبة ، وهو دعواهم أنهم ليس عليهم في الأميين سبيل ، أى أن كل من كان على غير ملتهم فإنه مهدور الحقوق ، ثم رد عليهم بما يدحض مزاعمهم ويثبت أنهم ليسوا أهلا لاختصاصهم بالنبوة والرحمة فقال تعالى : { وَمِنْ أَهْلِ . . . } .

قال الإمام الرازى : اعلم أن تعلق هذه الآية - وهى قوله - ومن أهل الكتاب . . . بما قبلها من وجهين :

الأول : أنه - تعالى - حكى عنهم فى الآية المتقدمة أنهم ادعوا أنهم أوتوا من المناصب الدينية ما لم يؤت أحد غيرهم مثله ، ثم إنه - تعالى - بين أن الخيانة مستقبحة عند جميع أرباب الأديان وهم مصرون عليها فدل هذا على كذبهم .

والثاني : أنه - تعالى - لما حكى عنهم فى الآية المتقدمة قبائح أحوالهم فيما يتعلق بالأديان وهو أنهم قالوا { لاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } حكى فى هذه الآية بعض قبائح أحوالهم فيما يتعلق بمعاملة الناس ، وهو إصرارهم على الخياننة والظلم وأخذ أموال الناس فى القليل والكثير .

قال ابن عباس : أودع رجل عند عبد الله بن سلام ألفا ومائتى أوقية من ذهب فأداها إليه . وأودع رجل آخر عند فنحاص بن عازوراء اليهودى دينارا فخانه فنزلت الآية .

والمعنى : إن من أهل الكتاب فريقاً أن تأتمنه على الكثير والنفيس من الأموال يؤده إليك عند طلبه كاملا غير منقوص ، وإن منهم فريقاً آخر إن تأتمنه على القليل والحقير من حطام الدنيا يستحله ويجحده ولا يؤديه إليك إلا إذا داوم صاحب الحق على المطالبة بحقه واستعمل كل الوسائل فى الحصول عليه .

فالآية الكريمة قد مدحت من يستحق المدح من أهل الكتاب وهو الفريق الذى استجاب للحق وآمن بالنبى صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأمثاله من مؤمنى أهل الكتاب . وذمت من يستحق الذم منهم وهو الفريق الذى لا يؤدى الأمانة ، ولم يستجب للحق ، بل استمر على كفره وجحوده ، وهذا القسم يمثل أكثرية أهل الكتاب .

والمراد من ذكر القنطار والدينار هنا العدد الكثير والعدد القليل . أى أن منهم من هو فى غاية الأمانة حتى أنه لو اؤتمن على الأموال الكثيرة لأداها ، ومنهم من هو فى غاية الخيانة حتى أنه لو اؤتمن على الشىء القليل لجحده .

وقوله { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } استثناء من أعم الأحوال أو الأوقات ، أى لا يؤده إليك فى حال من الأحوال أو فى وقت من الأوقات إلا في حال أو فى وقت مداومتك على طلبه ، والإلحاح فى ذلك ، واستعمال كل الوسائل للوصول إلى حقك .

قال الجمل : و " دمت " هذه هى الناقصة ، ترفع وتنصب ، وشرط أعمالها أن يتقدمها ما الظرفية كهذه الآية : إذ التقدير إلا مدة دوامك . وأصل هذه المادة للدلالة على الثبوت والسكون . يقال : دام الماء ، أى سكن . وفى الحديث : " لا يبولن أحدكم فىالماء الدائم " أى الذى لا يجرى . . . ومنه دام الشىء إذا امتد عليه زمان .

ودامت الشمس إذا وقفت فى كبد السماء وقوله { عَلَيْهِ } متعلق بقوله { قَآئِماً } والمراد بالقيام الملازمة ، لأن الأغلب أن المطالب يقوم على رأس المطالب ، ثم جعل عبارة عن الملازمة وإن لم يكن ثمة قيام .

قال ابن جرير : فإن قال قائل : وما وجه إخبار الله بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم وقد علمت أن الناس لم يزالوا كذلك ، منهم المؤدى أمانته ومنهم الخائن لها ؟ قيل : إنما أراد - عز وجل - بإخباره المؤمنين خبرهم على ما بينه فى كتابه بهذه الآية ، تحذير المؤمنين من أن يأتمنوهم على أموالهم ، وتخويفهم من الاغترار بهم ، لاستحلال كثير منهم أموال المؤمنين .

ثم حكى - سبحانه - بعض الأسباب التى جعلتهم يبررون خيانتهم وجحودهم لحقوق غيرهم فقال - تعالى - : { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } .

وقوله { ذلك } إشارة إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله - سبحانه - { لاَّ يُؤَدِّهِ } .

والمراد بالأميين : العرب ، خصوصا من آمن منهم ، وسمى العرب بالأميين نسبة إلى الأم ، وذلك لغلبة الأمية عليهم لكأن الواحد منهم قد بقى على الحالة التى ولدتهم عليها أمهاتهم من عدم القراءة والكتابة .

والسبيل : المراد به ، الحجة الملزمة والحرج . وأصله الطريق ، ثم أطلق على الحجة باعتبارها طريقا ووسيلة للإلزام وتحمل التبعات .

أى : ذلك الامتناع عن الوفاء بالعهود ، وجحود الأمانات والحقوق من الفريق الخائن سببه زعمهم الباطل أنهم ليس عليهم حرج أو إثم أو تبعة فى استحلال أموال العرب الأميين واستلابها منهم بأية طريقة ، لأن الأميين ليسوا على ملتهم .

واليهود يزعمون أن كتابهم يحل لهم قتل من خالفهم ، كما يحل لهم أخذ ما له بأى وسيلة . وهذا الخلق الذميم معرق فى اليهود ، لأن أنانيتهم جعلتهم يحرفون كتبهم على حسب ما تهوى نفوسهم ، فقد كانت التوراة تحرم الربا تحريما مطلقا فتقول : " لا تأخذ ربا من أخيك إذا أقرضته " فحرف اليهود هذا النص : إذا زادوا فيه كلمة الإسرائيلي فأصبح النص هكذا " لا تأخذ ربا من أخيك الإسرائيلي إذا أقرضته " وبذلك أصبحوا يحرمون الربا عند تعاملهم مع أنفسهم ويحلونه عند تعاملهم مع غيرهم ، لأنهم لا يشعرون بالأخوة الإنسانية العامة .

قال الآلوسى : أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : بايع اليهود رجال من المسلمين فى الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم عن بيوعهم فقال اليهود : ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا ، لأنكم تركتم دينكم الذى كنتم عليه ، وادعوا أنهم وجدوا ذلك فى كتابهم .

وقال الكلبى : قالت اليهود : " الأموال كلها كانت لنا ، فما فى أيدى العرب منها فهو لنا ، وأنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا فى أخذ أموالنا منهم " .

وقوله - تعالى - { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } رد عليهم فيما قالوه من أنهم ليس عليهم فى الأميين سبيل ، وتكذيب لهم فيما زعموه ، لأن قولهم هذا ما أنزل الله به من سلطان ، ولا يؤيده عقل سليم ، إذ المبادئ الخلقية الفاضلة يجب أن تطبق على جميع الناس بدون تفرقة بينهم .

والمعنى : أن هؤلاء اليهود الذين يجحدون الأمانات متذرعين بقولهم { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } ، يفترون على الله الكذب فى قولهم هذا ، وهم يعلمون أنه كاذبون ، لأنهم ليس عندهم فى كتبهم نص يبيح لهم استحلال أموال العرب وخيانتهم ، وإنما الذى تأمرهم به كتبهم هو أداء الأمانة لمستحقيها بالمعروف .

وقوله { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملة حالية من الضمير في { وَيَقُولُونَ } ومفعول العلم محذوف اقتصارا ، أى وهم من ذوى العلم . أو اختصارا ، أى يعلمون كذبهم وافتراءهم .

ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فى أحاديث متعددة أن الأمانة يجب أن تؤدى إلى البار والفاجر ، ومن ذلك ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير أنه قال : لما نزلت : { وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ } الآية . قال النبى صلى الله عليه وسلم : " كذب أعداء الله ! ! ما من شيء كان فى الجاهلية إلا وهو تحت قدمي ، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البار والفاجر " .

ولقد سار أتباع النبى صلى الله عليه وسلم على مبدأ أداء الأمانة ، وعدم أخذ شيء من أموال الغير إلا بوجه مشروع .

قال ابن كثير : " قال عبد الرازق : أنبأنا معمر عن أبى إسحاق الهمدانى عن أبي صعصعة بن يزيد . أن رجلا سأل ابن عباس : إنا نصيب فى الغزو من أموال أهل الذمة : الدجاجة والشاة . قال ابن عباس : فتقولون ماذا ؟ قال نقول : ليس علينا بذلك بأس . قال ابن عباس : هذا كما قال أهل الكتاب { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗاۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٞ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

65

ثم يمضي السياق يصف حال أهل الكتاب ؛ ويبين ما في هذه الحال من نقائص ؛ ويقرر القيم الصحيحة التي يقوم عليها الإسلام دين المسلمين . ويبدأ فيعرض نموذجين من نماذج أهل الكتاب في التعامل والتعاقد :

( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما . ذلك بأنهم قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون . بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين . إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم ) . .

إنها خطة الإنصاف والحق وعدم البخس والغبن يجري عليها القرآن الكريم في وصف حال أهل الكتاب الذين كانوا يواجهون الجماعة المسلمة حينذاك ؛ والتي لعلها حال أهل الكتاب في جميع الأجيال . ذلك أن خصومة أهل الكتاب للإسلام والمسلمين ، ودسهم وكيدهم وتدبيرهم الماكر اللئيم ، وإرادتهم الشر بالجماعة المسلمة وبهذا الدين . . كل ذلك لا يجعل القرآن يبخس المحسنين منهم حقهم ، حتى في معرض الجدل والمواجهة . فهو هنا يقرر أن من أهل الكتاب ناسا أمناء ، لا يأكلون الحقوق مهما كانت ضخمة مغرية :

( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ) . .

ولكن منهم كذلك الخونة الطامعين المماطلين ، الذين لا يردون حقا - وإن صغر - إلا بالمطالبة والإلحاح والملازمة . ثم هم يفلسفون هذا الخلق الذميم ، بالكذب على الله عن علم وقصد :

( ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما . ذلك بأنهم قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل . ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) . .

وهذه بالذات صفة يهود . فهم الذين يقولون هذا القول ؛ ويجعلون للأخلاق مقاييس متعددة . فالأمانة بين اليهودي واليهودي . أما غير اليهود ويسمونهم الأميين وكانوا يعنون بهم العرب [ وهم في الحقيقة يعنون كل من سوى اليهود ] فلا حرج على اليهودي في أكل أموالهم ، وغشهم وخداعهم ، والتدليس عليهم ، واستغلالهم بلا تحرج من وسيلة خسيسة ولا فعل ذميم !

ومن العجب أن يزعموا أن إلههم ودينهم يأمرهم بهذا . وهم يعلمون أن هذا كذب . وأن الله لا يأمر بالفحشاء . ولا يبيح لجماعة من الناس أن يأكلوا أموال جماعة من الناس سحتا وبهتانا ، وألا يرعوا معهم عهدا ولا ذمة ، وأن ينالوا منهم بلا تحرج ولا تذمم . ولكنها يهود ! يهود التي اتخذت من عداوة البشرية والحقد عليها ديدنا ودينا :

( ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗاۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٞ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

يخبر تعالى عن اليهود بأن فيهم الخونة ، ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم ، فإن منهم { مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } أي : من المال { يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } أي : وما دونه بطريق الأولى أن يؤديه إليك { وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } أي : بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك ، وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فما فوقه أولى ألا يؤديه .

وقد تقدم الكلام على القنطار في أول السورة ، وأما الدينار فمعروف .

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا سعيد بن عمرو السَّكُوني ، حدثنا بَقِيَّة ، عن زياد بن الهيثم ، حدثني مالك بن دينار قال : إنما سمي الدينار لأنه دين ونار . وقال : معناه : أنه{[5182]} من أخذه بحقه فهو دينه ، ومن أخذه بغير حقه فله النار .

ومناسب أن يكون{[5183]} هاهنا الحديث الذي علقه البخاري في غير موضع من{[5184]} صحيحه ، ومن أحسنها سياقه في كتاب الكفالة حيث قال : وقال الليث : حدثني جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ [ بَعْضَ ]{[5185]} بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَقَالَ : ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ . فَقَالَ : كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا . قَالَ : ائْتِنِي بِالْكَفِيلِ . قَالَ : كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلا . قَال{[5186]} َ : صَدَقْتَ . فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكِبًا ، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا ، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي استَسْلَفْت{[5187]} ُ فُلانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلا فَقُلْتُ : كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلا فَرَضِيَ بِكَ{[5188]} . وَسَأَلَنِي شَهِيدًا ، فَقُلْتُ : كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ ، وَإِنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ ، وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا{[5189]} . فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ{[5190]} وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا يَجِيئُهُ بِمَالِهِ ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ ، فَأَخَذَهَا لأهْلِهِ حَطَبًا ، فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ تَسَلَّف مِنْهُ ، فَأَتَاه بِأَلْفِ دِينَارٍ ، وَقَالَ : وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ . قَالَ : هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ ؟ قَالَ : أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا ؟ قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ ، فَانْصَرِفْ بِأَلْفِ دِينَارٍ رَاشِدًا .

هكذا رواه{[5191]} البخاري في موضعه مُعَلَّقًا بصيغة الجزم ، وأسنده في بعض المواضع من الصحيح عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه . ورواه الإمام أحمد في مسنده هكذا مطولا عن يونس بن محمد المؤدب ، عن الليث به{[5192]} ورواه البزار في مسنده ، عن الحسن بن مُدْرِك ، عن يحيى بن حماد ، عن أبي عَوَانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، ثم قال : لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد . كذا قال ، وهو خطأ ، لما تقدم{[5193]} .

وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ } أي : إنَّمَا حَمَلهم على جُحود الحق أنهم يقولون : ليس علينا في ديننا حَرَج في أكل أموال الأمييّن ، وهم العرب ؛ فإن الله قد أحلها لنا . قال الله تعالى : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : وقد اختلقوا هذه المقالة ، وائتفكوا بهذه الضلالة ، فَإن الله حَرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها ، وإنما هم قوم بُهْت .

قال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن [ أبي ]{[5194]} صَعْصَعَة بن يزيد{[5195]} ؛ أن رجلا سأل ابن عباس ، قال : إنا نُصِيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجةَ والشاةَ ؟ قال {[5196]} ابن عباس : فَتَقولون{[5197]} ماذا ؟ قال : نقول{[5198]} ليس علينا بذلك بأس . قال : هذا كما قال أهل الكتاب : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ } إنهم إذا{[5199]} أدوا الجزية لم تَحل لكم أموالهُم إلا بِطِيب أنفسهم .

وكذا رواه الثوري ، عن أبي إسحاق{[5200]} بنحوه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن يحيى ، أخبرنا أبو الربيع الزهراني{[5201]} حدثنا يعقوب ، حدثنا جعفر ، عن سعيد بن جبير قال : لما قال أهل الكتاب : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ } قال نبي الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[5202]} كَذَبَ أَعْدَاءُ اللهِ ، مَا مِنْ شِيٍء كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ إِلا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلا الأمَانَةَ ، فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْبَرِّ وَالفَاجِرِ " {[5203]}


[5182]:في جـ، ر: "أن".
[5183]:في جـ، ر: "يذكر".
[5184]:في جـ، ر: "في".
[5185]:في ر: "رجلا".
[5186]:في جـ، ر، أ: "فقال".
[5187]:في جـ، أ، و: "تسلفت"، وفي ر: "استلفت".
[5188]:في أ: "ذلك".
[5189]:في و: "استودعكها".
[5190]:في و: "انصرفت".
[5191]:في أ: "أورد".
[5192]:صحيح البخاري في الكفالة برقم (2291) وفي غيرها برقم (1498)، (2404)، (2430)، (2744)، (6261) والمسند (2/348).
[5193]:وذكره المؤلف في البداية والنهاية (2/128) ووجه الخطأ أنه قد جاء من وجه آخر وهي رواية أحمد والبخاري.
[5194]:زيادة من جـ، ر.
[5195]:في أ: "مرثد".
[5196]:في أ: "فقال".
[5197]:في ر، أ: "فيقولون".
[5198]:في أ: "يقول".
[5199]:في أ: "لو".
[5200]:تفسير عبد الرازق (1/130).
[5201]:في ر: "الزهري".
[5202]:زيادة من جـ، أ، و.
[5203]:تفسير ابن أبي حاتم (2/349) ورواه الطبري في تفسيره (6/522) وهو مرسل.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗاۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٞ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاّ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ إِلاّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

وهذا الخبر من الله عزّ وجلّ أن من أهل الكتاب ، وهم اليهود من بني إسرائيل أهل أمانة يؤدونها ولا يخونونها ، ومنهم الخائن أمانته ، الفاجر في يمينه المستحلّ .

فإن قال قائل : وما وجه إخبار الله عزّ وجلّ بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم ، وقد علمت أن الناس لم يزالوا كذلك منهم المؤدّي أمانته والخائنها ؟ قيل : إنما أراد جلّ وعزّ بإخباره المؤمنين خبرهم على ما بينه في كتابه بهذه الاَيات تحذيرهم أن يأتمنوهم على أموالهم ، وتخويفهم الاغترار بهم ، لاستحلال كثير منهم أموال المؤمنين . فتأويل الكلام : ومن أهل الكتاب الذي إن تأمنه يا محمد على عظيم من المال كثير ، يؤدّه إليك ، ولا يخنك فيه¹ ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنك فيه ، فلا يؤدّه إليك إلا أن تلحّ عليه بالتقاضي والمطالبة . والباء في قوله : { بِدِينارٍ } وعلى يتعاقبان في هذا الموضع ، كما يقال : مررت به ، ومررت عليه .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائما } فقال بعضهم : إلا ما دمت له متقاضيا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائما } : إلا ما طلبته واتبعته .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائما } قال : تقتضيه إياه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قَائما } قال : مواظبا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

وقال آخرون : معنى ذلك : إلا ما دمت عليه قائما على رأسه . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : { إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائما } يقول : يعترف بأمانته ما دمت قائما على رأسه ، فإذا قمت ثم جئت تطلبه كافَرَك الذي يؤدي ، والذي يجحد .

وأولى القولين بتأويل الآية قول من قال : معنى ذلك : إلا ما دمت عليه قائما بالمطالبة والاقتضاء ، من قولهم : قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي ، أي عمل في تخليصه ، وسعى في استخراجه منه حتى استخرجه ، لأن الله عزّ وجلّ إنما وصفهم باستحلالهم أموال الأميين ، وأن منهم من لا يقضي ما عليه إلا بالاقتضاء الشديد والمطالبة ، وليس القيام على رأس الذي عليه الدين ، بموجب له النقلة عما هو عليه من استحلال ما هو له مستحلّ ، ولكن قد يكون مع استحلاله الذهاب بما عليه لربّ الحق إلى استخراجه السبيلُ بالاقتضاء والمحاكمة والمخاصمة ، فذلك الاقتضاء : هو قيام ربّ المال باستخراج حقه ممن هو عليه .

القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : أن من استحلّ الخيانة من اليهود وجحود حقوق العربي التي هي له عليه ، فلم يؤدّ ما ائتمنه العربي عليه إليه إلا ما دام له متقاضيا مطلبا¹ من أجل أنه يقول : لا حرج علينا فيما أصبنا من أموال العرب ، ولا إثم ، لأنهم على غير الحقّ ، وأنهم مشركون .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو قولنا فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } . . . الاَية ، قالت اليهود : ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } قال ليس علينا في المشركين سبيل ، يعنون : من ليس من أهل الكتاب .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } قال : يقال له : ما بالك لا تؤدّي أمانتك ؟ فيقول : ليس علينا حرج في أموال العرب ، قد أحلها الله لنا .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، لما نزلت : { وَمِنْ أهْلِ الكِتابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدّهِ إلَيْكَ إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائما ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كَذَبَ أعْدَاءُ اللّهِ ما مِنْ شَيْءٍ كانَ فِي الجَاهِليةِ إلاّ وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ ، إلاّ الأمانَةَ فإنّهَا مُؤَدّاة إلى البَرّ والفاجِرِ » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام بن عبيد الله ، عن يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما قالت اليهود : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } يعنون أخذ أموالهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال : «إلاّ وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ ، إلاّ الأمانَةَ فَإنّها مُؤَدّاة » ولم يزد على ذلك .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون : ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء ، لأنهم أميون ، فذلك قوله : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } . . . إلى آخر الآية .

وقال آخرون في ذلك ما :

حدثنا به القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } قال : بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم ثمن بيوعهم ، فقالوا : ليس لكم علينا أمانة ، ولا قضاء لكم عندنا ، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه ، وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم ، فقال الله عزّ وجلّ : { وَيَقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن صعصعة ، قال : قلت لابن عباس : إنا نغزو أهل الكتاب ، فنصيب من ثمارهم ؟ قال : وتقولون كما قال أهل الكتاب : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن صعصعة : أن رجلاً سأل ابن عباس فقال : إنا نصيب في الغزو أو العذق ، الشكّ من الحسن من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ، فقال ابن عباس : فتقولون ماذا ؟ قال نقول : ليس علينا بذلك بأس . قال : هذا كما قال أهل الكتاب : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن القائلين منهم ليس علينا في أموال الأميين من العرب حرج أن نختانهم إياه ، يقولون بقيلهم : إن الله أحلّ لنا ذلك ، فلا حرج علينا في خيانتهم إياه ، وترك قضائهم الكذبَ على الله عامدين الإثم بقيل الكذب على الله أنه أحلّ ذلك لهم ، وذلك قوله عزّ وجلّ : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . كما :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فيقول على الله الكذب ، وهو يعلم ، يعني الذي يقول منهم إذا قيل له : ما لك لا تؤدّي أمانتك ؟ ليس علينا حرج في أموال العرب ، قد أحلها الله لنا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَيَقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } : يعني ادّعاءهم أنهم وجدوا في كتابهم قولهم : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗاۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٞ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأَمْنَهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمَا } .

ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب أنهم قسمان في الأمانة ، ومقصد الآية ذم الخونة منهم ، والتفنيد لرأيهم وكذبهم على الله ، في استحلالهم أموال العرب ، وفي قراءة أبي بن كعب «تيمنه »{[3257]} بتاء وياء في الحرفين وكذلك -تيمنا- في يوسف ، قال أبو عمرو الداني : وهي لغة تميم .

قال القاضي : وما أراها إلا لغة قرشية ، وهي كسر نون الجماعة كنستعين ، وألف المتكلم كقول ابن عمر ، لا إخاله ، وتاء المخاطب كهذه الآية ولا يكسرون الياء في الغائب وبها قرأ أبي بن كعب في «تيمنا » وابن مسعود والأشهب العقيلي وابن وثاب ، وقد تقدم القول في «القنطار » في صدر السورة وقرأ جمهور الناس ، «يؤدهِ إليك » بكسر الهاء التي هي ضمير القنطار ، وكذلك في الأخرى التي هي ضمير «الدينار » ، واتفق أبو عمرو وحمزة وعاصم والأعمش على إسكان الهاء ، وكذلك كل ما أشبهه في القرآن ، نحو { نصله جهنم }{[3258]} و{ نؤته } { نوله } إلا حرفاً حكي عن أبي عمرو أنه كسره ، وهو قوله تعالى : { فألقه إليهم }{[3259]} قال أبو إسحاق : وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بين لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل ، وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة فغلط عليه ، كما غلط عليه في بارئكم ، وقد حكى عنه سيبويه ، وهو ضابط لمثل هذا : أنه يكسر كسراً خفيفاً ، و«القنطار » في هذه الآية : مثال للمال الكثير يدخل فيه أكثر من القنطار وأقل ، وأما «الدينار » فيحتمل أن يكون كذلك ، مثالاً لما قل ، ويحتمل أن يريد طبقة لا تخون إلا في دينار فما زاد ، ولم يعن لذكر الخائنين في أقل إذ هم طغام حثالة ، وقرأ جمهور الناس «دُمت » بضم الدال ، وقرأ ابن وثاب والأعمش وأبو عبد الرحمن السلمي وابن أبي ليلى والفياض بن غزوان{[3260]} وغيرهم : «دِمت ودِمتم » ، بكسر الدال في جميع القرآن ، قال أبو إسحاق : من قوله : «دمت » ، تدام ، نمت ، تنام ، وهي لغة ، ودام معناه ثبت على حال ما ، والتدويم على الشيء الاستدارة حول الشي ومنه قول ذي الرمة{[3261]} : [ البسيط ]

والشمس حَيرَىَ لهَا في الْجوَّ تَدْوِيمْ . . .

والدوام ، الدوار يأخذ في رأس الإنسان ، فيرى الأشياء تدور له ، وتدويم الطائر في السماء ، هو ثبوته إذا صفّ واستدار والماء الدائم وغيره هو الذي كأنه يستدير حول مركزه ، وقوله { قائماً } يحتمل معنيين قال الزجّاج وقتادة ومجاهد : معناه قائماً على اقتضاء دينك .

قال الفقيه الإمام أبو محمد : يريدون بأنواع الاقتضاء من الحفز والمرافعة إلى الحكام ، فعلى هذا التأويل ، لا تراعى هيئة هذا الدائم بل اللفظة من قيام المرء على أشغاله ، أي اجتهاده فيها ، وقال السدي وغيره : { قائماً } في هذه الآية معناه : قائماً على رأسه ، على الهيئة المعروفة ، وتلك نهاية الحفز ، لأن معنى ذلك أنه في صدر شغل آخر ، يريد أن يستقبله ، وذهب إلى هذا التأويل جماعة من الفقهاء وانتزعوا من الآيات جواز السجن ، لأن الذي يقوم عليه غريمه فهو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء ، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين السجن ، وهذه الآية وما بعدها نزلت فيما روي ، بسبب أن جماعة من العرب كانت لهم ديون في ذمم قوم من أهل الكتاب ، فلما أسلم أولئك العرب قالت لهم اليهود : نحن لا نؤدي إليكم شيئاً حين فارقتم دينكم الذي كنتم عليه ، فنزلت الآية في ذلك وروي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان ، فلما جاء الإسلام واسلم من أسلم من العرب بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد ، فنزلت الآية حامية من ذلك ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي ، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر »{[3262]} .

قوله تعالى :

{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

الإشارة ب { ذلك } إلى كونهم لا يؤدون الأمانة في دينار فما فوقه ، على أحد التأويلين ، والضمير في ، { قالوا } ، يعني به لفيف بني إسرائيل ، لأنهم كانوا يقولون : نحن أهل الكتاب ، والعرب أميون أصحاب أوثان ، فأموالهم لنا حلال متى قدرنا على شيء منها لا حجة علينا في ذلك ولا سبيل لمعترض وناقد إلينا في ذلك ، و «الأميون » القوم الذين لا يكتبون لأنهم لا يحسنون الكتابة ، وقد مر في سورة البقرة اشتقاق اللفظ واستعارة السبيل ، هنا في الحجة هو على نحو قول حميد بن ثور{[3263]} :

وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة . . . من السرح موجود عليَّ طريق

وقوله تعالى : { فأولئك ما عليهم من سبيل }{[3264]} هو من هذا المعنى ، وهو كثير في القرآن وكلام العرب ، وروي أن رجلاً قال لابن عباس : إنا نمر في الغزو بأموال أهل الذمة فنأخذ منها الشاة والدجاجة ونحوها قال : وتقولون ماذا ؟ قال نقول : ليس علينا بأس ، فقال ابن عباس : هذا كما قال أهل الكتاب : { ليس علينا في الأميين سبيل } ، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم ، وقوله تعالى : { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } ذم لبني إسرائيل بأنهم يكذبون على الله تعالى في غير ما شيء ، وهم علماء بمواضع الصدق لو قصدوها ، ومن أخطر ذلك أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، هذا قول جماعة من المتأولين ، وروي عن السدي وابن جريج وغيرهما : أن طائفة من أهل الكتاب ادعت أن في التوراة إحلال الله لهم أموال الأميين كذباً منها وهي عالمة بكذبها في ذلك وقالا : والإشارة بهذه الآية إلى ذلك الكذب المخصوص في هذا الفصل .


[3257]:- في سورة يوسف الآية (11) [قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف].
[3258]:- في سورة النساء: الآية (116) [نوله ما تولى ونصله جهنم].
[3259]:- من الآية (28) من سورة النمل [اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم].
[3260]:- هو فياض بن غزوان الضبي الكوفي مقرئ موثق، أخذ القراءة عرضا عن طلحة بن مصرف وسمع من زبيد اليامي، قال الداني: ويروى عنه حروف شواذ من اختياره تضاف إليه، روى الحروف عنه طلحة بن سليمان السمان، وقرأ عليه القرآن بحروف طلحة بن مصرف، وروى عنه عبد الله بن المبارك، وعمر بن شعبان، ونعيم بن مسيرة، وثقه أحمد بن حنبل. "طبقات القراء لابن الجزري. 2/13).
[3261]:- صدر البيت: معروريا رمض الرضراض يركضه ........................... واعرورى: سار في الأرض وحده، والفرس ركبه عريانا. والرمض: شدة الحر. والرضراض: الحصى الصغار، والتدويم: الدوران. يصف بذلك جنديا يركض ويضرب برجله الحصى والبيت من قصيدة أولها: أعن ترسمت من خرقاء منزلة ماء الصبابة من عينيك مسجوم ومثل البيت الذي رواه ابن عطية قول علقمة في وصف الخمر. تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها ولا يخالطها في الرأس تدويم
[3262]:- أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم (عن سعيد بن جبير) انظر (فتح القدير: 1/32).
[3263]:- كنى بالسرحة –وهي الشجرة- عن امرأة، وعلل نفسه: شغلها (انظر ديوان حميد والإصابة: 1/316). وقد قال حميد هذه القصيدة بعد أن نهى عمر بن الخطاب الشعراء عن التشبيب بالنساء.
[3264]:- من الآية (41) من سورة الشورى