لنستمع إلى السورة الكريمة وهى تحكى أحوالهم فى السراء والضراء فتقول : { فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ . . . }
والمراد بالإِنسان هنا هو جنس الكفار ، بدليل سياق ، الآيات وسباقها ويصح أن يراد به جنس الإِنسان عموما ، ويدخل فيه الكفار دخولا أولياً .
أى : فإذا أصاب الإِنسان ضر ، من مرض أو فقر أو نحوهما ، دعانا قاعدا أو قائما . لكى نكشف عنه ما نزل به من بلاء .
{ ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا . . . } أى : ثم إذا أجبنا لهذا الإِنسان دعوته وكشفنا عنه الضر وأعطيناه على سبيل التفضل والإِحسان نعمة من عندنا ، بأن حولنا مرضه إلى صحة ، وفقره إلى غنى .
{ قَالَ } هذا الإِنسان الظلوم الكفار { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ } منى بوجوه المكاسب ، أو على علم منى بأن سأعطى هذه النعمة ، بسبب استعدادى واجتهادى وتفوقى فى مباشرة الأسباب التى توصل إلى الغنى والجاه .
وقال - سبحانه - : { خَوَّلْنَاهُ } لأن التخويل معناه العطاء بدون مقابل ، مع تكراره مرة بعد مرة .
وجاء الضمير فى قوله { أُوتِيتُهُ } مذكرا مع أنه يعود إلى النعمة . لأنها بمعنى الإِنعام . أى : إذا خولناه شيئاً من الإِنعام الذى تفضلنا به عليه ، قال إنما أوتيته على علم وتبوغ عندى .
وقوله - تعالى - { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } رد لقوله ذلك ، وزجر لهذا الجاحد عما تفوه به .
أى : ليس الأمر كما زعم هذا الجاحد ، فإننا ما أعطيناه هذه النعم بسبب علمه - كما زعم - وإنما أعطيناه ما أعطيناه على سبيل الإِحسان منا عليه ، وعلى سبيل الابتلاء والاختبار له ، ليتبين قوى الإِيمان من ضعيفه ، وليتميز الشاكر من الجاحد .
{ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أى : ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقائق ، ولا يفطن إليها إلا من استنارت بصيرته ، وطهرت سيريرته .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما السبب فى عطف هذه الآية بالفاء ، وعطف مثلها فى أول السورة بالواو ؟ قلت : السبب فى ذلك أن هذه وقعت مسببة من قوله { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } على معنى أنهم يشمئزون من ذكر الله .
ويستبشرون بذكر الآلهة . فإذا مس أحدهم ضر دعا من أشمأز من ذكره ، دون من استبشر بذكره ، وما يبنهما من الآى اعتراض . .
وبعد هذا المشهد المعترض لبيان حالهم يوم يرجعون إلى الله الذي به يشركون ، والذي تشمئز قلوبهم حين يذكر وحده ، وتستبشر حينما تذكر آلهتهم المدعاة . بعد هذا يعود إلى تصوير حالهم العجيب . فهم ينكرون وحدانية الله . فأما حين يصيبهم الضر فهم لا يتوجهون إلا له وحده ضارعين منيبين . حتى إذا تفضل عليهم وأنعم راحوا يتبجحون وينكرون :
( فإذا مس الإنسان ضر دعانا . ثم إذا خولناه نعمة منا ، قال : إنما أوتيته على علم . بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . .
والآية تصور نموذجاً مكرراً للإنسان ، ما لم تهتد فطرته إلى الحق ، وترجع إلى ربها الواحد ، وتعرف الطريق إليه ، فلا تضل عنه في السراء والضراء .
إن الضر يسقط عن الفطرة ركام الأهواء والشهوات ، ويعريها من العوامل المصطنعة التي تحجب عنها الحق الكامن فيها وفي ضمير هذا الوجود . فعندئذ ترى الله وتعرفه وتتجه إليه وحده . حتى إذا مرت الشدة وجاء الرخاء ، نسي هذا الإنسان ما قاله في الضراء ، وانحرفت فطرته بتأثير الأهواء . وقال عن النعمة والرزق والفضل : ( إنما أوتيته على علم ) . . قالها قارون ، وقالها كل مخدوع بعلم أو صنعة أو حيلة يعلل بها ما اتفق له من مال أو سلطان . غافلاً عن مصدر النعمة ، وواهب العلم والقدرة ، ومسبب الأسباب ، ومقدر الأرزاق .
( بل هي فتنة . ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . .
هي فتنة للاختبار والامتحان . ليتبين إن كان سيشكر أو سيكفر ؛ وإن كان سيصلح بها أم سيفسد ؛ وإن كان سيعرف الطريق أم يجنح إلى الضلال .
والقرآن - رحمة بالعباد - يكشف لهم عن السر ، وينبههم إلى الخطر ، ويحذرهم الفتنة . فلا حجة لهم ولا عذر بعد هذا البيان .
وهو يلمس قلوبهم بعرض مصارع الغابرين قبلهم . مصارعهم بمثل هذه الكلمة الضالة التي يقولها قائلهم : ( إنما أوتيته على علم ) . .
يقول تعالى مخبرا عن{[25175]} الإنسان أنه في حال الضراء يَضْرَع إلى الله ، عز وجل ، وينيب إليه ويدعوه ، وإذا{[25176]} خوله منه نعمة بغى وطغى ، وقال : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } أي : لما يعلم الله من استحقاقي له ، ولولا أني عند الله تعالى خصيص لما خَوَّلني هذا !
قال قتادة : { عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } على خيرٍ عندي .
قال الله عز وجل : { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } أي : ليس الأمر كما زعموا ، بل [ إنما ]{[25177]} أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه ، أيطيع أم يعصي ؟ مع علمنا المتقدم بذلك ، فهي فتنة أي : اختبار ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } فلهذا يقولون ما يقولون ، ويدعون ما يدعون .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا مَسّ الإِنسَانَ ضُرّ دَعَانَا ثُمّ إِذَا خَوّلْنَاهُ نِعْمَةً مّنّا قَالَ إِنّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىَ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلََكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فإذا أصاب الإنسان بؤس وشدّة دعانا مستغيثا بنا من جهة ما أصابه من الضرّ ، ثُمّ إذَا خَوّلْناهُ نِعْمَةً مِنّا يقول : ثم إذا أعطيناه فرجا مما كان فيه من الضرّ ، بأن أبدلناه بالضرّ رخاء وسعة ، وبالسقم صحة وعافية ، فقال : إنما أعطيت الذي أعطيت من الرخاء والسعة في المعيشة ، والصحة في البدن والعافية ، على علم عندي ، يعني على علم من الله بأني له أهل لشرفي ورضاه بعملي ( عندي ) يعني : فيما عندي ، كما يقال : أنت محسن في هذا الأمر عندي : أي فيما أظنّ وأحسب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ثُمّ إذَا خَوّلْناهُ نِعْمَةً مِنّا حتى بلغ عَلى عِلْمِ عندي : أي على خير عندي .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إذَا خَوّلْناهُ نِعْمَةً مِنّا قال : أعطيناه .
وقوله : أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ : أي على شرف أعطانيه .
وقوله : بَلْ هَيَ فِتْنَةٌ يقول تعالى ذكره : بل عطيتنا إياهم تلك النعمة من بعد الضرّ الذي كانوا فيه فتنة لهم يعني بلاء ابتليناهم به ، واختبارا اختبرناهم به وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ لجهلهم ، وسوء رأيهم لا يَعْلَمُونَ لأي سبب أعطوا ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ : أي بلاء .
هذه حجة تلزم عباد الأوثان التناقض في أعمالهم ، وذلك أنهم يعبدون الأوثان ويعتقدون تعظيمها ، فإذا أزفت آزفة ونالت شدة نبذوها ونسوها ودعوا الخالق المخترع رب السماوات والأرض . و : { الإنسان } في هذه الآية للجنس . و : { خولناه } معناه : ملكناه . قال الزجاج وغيره : التخويل : العطاء عن غير مجازاة . والنعمة هنا : عامة في جميع ما يسديه الله إلى العبد ، فمن ذلك إزالة الضر المذكور ، ومن ذلك الصحة والأمن والمال ، وتقوى الإشارة إليه في الآية بقوله : { إنما أوتيته على علم } وبقوله آخراً { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } ، وبذكر الكسب ، وكذلك الضمير في : { أوتيته } وذلك يحتمل وجوهاً ، منها : أن يريد بالنعمة المال كما قدمناه ، ومنها أن يعيد الضمير على المذكور ، إذ اسم النعمة يعم ما هو مذكر وما هو مؤنث ، ومنها : أن يكون «ما » في قوله : { إنما } بمعنى الذي ، وعلى الوجهين الأولين كافة .
وقوله : { على علم } في موضع نصب على الحال مع أن تكون «ما » كافة ، وأما إذا كانت بمعنى الذي ، ف { على علم } في موضع خبر «إن » ودال على الخبر المحذوف ، كأنه قال : هو على علم ، يحتمل أن يريد على علم مني بوجه المكاسب والتجارات وغير ذلك ، قاله قتادة . ففي هذا التأويل أعجاب بالنفس وتعاط{[9909]} مفرط ونحو هذا ، ويحتمل أن يريد على علم من الله في ، وشيء سبق لي ، واستحقاق حزته عند الله لا يضرني معه شيء ، ففي هذا التأويل اغترار بالله تعالى وعجز وتمن على الله . ثم قال تعالى : { بل هو فتنة } أي ليس الأمر كما قال ، بل هذه الفعلة به فتنة له وابتلاء .