ثم بين - سبحانه - أن النجاة من هول هذا اليوم غنيمة ليس بعدها غنيمة فقال : { مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الفوز المبين } .
أى : من يصرف عنه عذاب هذا اليوم ، فإنه يكون ممن شملتهم رحمة الله ورعايته ، وذلك هو الفوز الذى ليس بعده فوز .
والضمير الذى يعتبر نائب فاعل ليصرف ، يعود على العذاب العظيم الذى سيحل بالمجرمين يوم القيامة .
وفى قراءة لحمزة والكسائى وأبى بكر عن عاصم ( من يصرف ) بفتح الياء فيكون الضمير عائدا على الله - ويكون المفعول محذوفاً . والتقدير من يصرف الله عنه هذا العذاب العظيم فى ذلك اليوم فقد شملته رحمة الله ، وعلى كلتا القراءتين فالضمير فى قوله ( فقد رحمه ) يعود على الله - تعالى - :
هذا ، وفى هذه الآيات الخمس نجد القرآن قد أمر النبى صلى الله عليه وسلم بقوله { قُلْ } خمس مرات وهو أسلوب إنذارى تلقينى كثر استعماله فى هذه السورة - كما سبق أن قلنا فى التمهيد لها - لأنه يلقن النبى صلى الله عليه وسلم الحجج التى تزلزل كيان المشركين وتأتى على بنيانهم من القواعد .
وفضلا عن ذلك فهو لون من التفنن فى أسلوب الدعوة إلى أن يحتاج إليه المرشدون والدعاة . لأن التزام أسلوب واحد فى إقامة الحجة على الخصم يفضى إلى السآمة والملل ، ومن هنا فقد لون القرآن أساليبه حتى تناسب العقول على اختلاف مداركها ، وصدق الله إذ يقول { انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ
وأمر كذلك أن يقذف في قلوبهم بالرعب والترويع ؛ في الوقت الذي يعلن فيه تصوره لجدية الأمر والتكليف ولخوفه هو من عذاب ربه ، إن عصاه فيما أمر به من الإسلام والتوحيد :
( قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ، وذلك الفوز المبين ) . .
إنه تصوير لحقيقة مشاعر الرسول [ ص ] تجاه أمر ربه له ؛ وتجسيم لخوفه من عذابه . العذاب الذي يعتبر مجرد صرفه عن العبد رحمه من الله وفوزا مبينا . ولكنه في الوقت ذاته حمله مزلزلة على قلوب المشركين في ذلك الزمان ، وقلوب المشركين بالله في كل زمان . حملة مزلزلة تصور العذاب في ذلك اليوم العظيم ؛ يطلب الفريسة ، ويحلق عليها ، ويهجم ليأخذها . فلا تصرفه عنها إلا القدرة القادرة التي تأخذ بخطامه فتلويه عنها ! وإن أنفاس القاريء لهذا التصوير لتحتبس - وهو يتمثل المشهد - في انتظار هذه اللقطة الأخيرة !
{ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ } يعني : العذاب { يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } يعني : فقد رحمه الله { وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ }{[10598]} كما قال : { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [ آل عمران : 185 ] ، والفوز : هو حصول الربح ونفي الخسارة .
القول في تأويل قوله تعالى : { مّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } . .
اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قراء الحجاز والمدينة والبصرة : مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ بضم الياء وفتح الراء ، بمعنى : من يصرف عنه العذاب يومئد . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة «مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ » بفتح الياء وكسر الراء ، بمعنى : من يصرف الله عنه العذاب يومئذ .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي ، قراءة من قرأه : «يَصْرِفْ عَنْهُ » بفتح الياء وكسر الراء ، لدلالة قوله : فَقَدْ رَحِمَهُ على صحة ذلك ، وأن القراءة فيه بتسمية فاعله . ولو كانت القراءة في قوله : مَنْ يُصْرَفُ على وجه ما لم يسمّ فاعله ، كان الوجه في قوله : فَقَدْ رَحِمَهُ أن يقال : «فقد رُحِم » غير مسمى فاعله وفي تسمية الفاعل في قوله : فَقَدْ رَحِمَهُ دليل على بين أن ذلك كذلك في قوله : «مَنْ يَصْرِفُ عَنْهُ » . وإذا كان ذلك هو الوجه الأولى بالقراءة ، فتأويل الكلام : مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ من خلقه يَوْمِئِذٍ عذابه فَقَدْ رَحِمَهُ وذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ المُبِينُ . ويعني بقوله : ذَلِكَ : وصرف الله عنه العذاب يوم القيامة ، ورحمته إياه الفَوْزُ أي النجاة من الهلكة والظفر بالطلبة المُبِينُ يعني الذي بين لمن رآه أنه الظفر بالحاجة وإدراك الطلبة .
وبنحو الذي قلنا في قوله : مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ قال : من يصرف عنه العذاب .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «من يُصرَف عنه » بضم الياء وفتح الراء ، والمفعول الذي أسند إليه الفعل هو الضمير العائد على العذاب فهو مقدر ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم أيضاً : «من يصرف عنه » فيسند الفعل إلى الضمير العائد إلى { ربي } ويعمل في ضمير العذاب المذكور آنفاً لكنه مفعول محذوف ، وحكي أنه ظهر في قراءة عبد الله وهي «من يصرفه عنه يومئذ » ، وفي قراءة أبيّ بن كعب «من يصرفه الله عنه » وقيل : إنها من يصرف الله عنه ، قال أبو علي وحذف هذا الضمير لا يحسن كما يحسن حذف الضمير من الصلة ، كقوله عز وجل :{ أهذا الذي بعث الله رسولاً }{[4842]} وكقوله : { وسلام على عباده الذين اصطفى }{[4843]} معناه بعثه . واصطفاهم فحسن هذا للطول كما علله سيبويه ، ولا يحسن هذا لعدم الصلة ، قال بعض الناس القراءة بفتح الياء «من يَصرف » أحسن لأنه يناسب { فقد رحمه } وكان الأولى على القراءة الأخرى «فقد رحم » ليتناسب الفعلان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا توجيه لفظي تعلقه خفيف ، وأما بالمعنى فالقراءتان واحد ، ورجح قوم قراءة ضم الياء لأنها أقل إضماراً ، وأشار أبو علي إلى تحسين القراءة بفتح الياء بما ذكرناه ، وأما مكي بن أبي طالب رحمه الله فتخبط في كتاب الهداية في ترجيح القراءة بفتح الياء ، ومثل في احتجاجه بأمثلة فاسدة والله ولي التوفيق{[4844]} .
و( رحم ) عامل في الضمير المتصل وهو ضمير [ من ] ومستند إلى الضمير العائد إلى ربي ، وقوله : { وذلك } إشارة إلى صرف العذاب وإلى الرحمة ، والفوز والنجاة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.