ثم أوجب - سبحانه - على المؤمنين مصاحبة رسولهم - صلى الله عليه وسلم - في غزواته فقال : { مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله . . } .
والمراد بالنفى هنا النهى . أى : ليس لأهل المدينة أو لغيرهم من الأعراب سكان البادية الذين يسكنون في ضواحى المدينة ، كقبائل مزينة وجهينة وأشجع وغفار .
ليس لهؤلاء جميعا أن يتخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ما خرج للجهاد ، كما فعل بعضهم في غزوة تبوك ، لأن هذا التخل فيتنافى مع الإِيمان بالله ورسوله .
وليس لهم كذلك { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } أى ليس لهم أن يؤثروا أنفسهم بالراحة على نفسه ، بأن يتركوه ويتعرض لللآلام والأخطار . دون أن يشاركوه في ذلك ، بل من الواجب عليهم أن يكونوا من حوله في البأساء والضراء ، والعسر واليسر ؛ والمنشط والمكره .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة : أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه ، علما بأنها أعز نفس على الله وأكرمها ، فإذا تعرضت - مع كرامتها وعزتها - للخوض في شدة وهول ، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت - أى تتساقط - فيما تعرضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ، ولا يقيمون له وزنا ، وتكون أخف شئ عليهم وأهونه ، فضلا عن أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمع بنفسه عليه .
وهذا نهى بليغ ، مع تقبيح لأمره ، وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية .
واسم الإِشارة في قوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله . . } يعود على ما دل عليه الكلام من وجوب مصاحبته وعدم التخلف عنه .
أى : ذلك الذي كلفانهم به من وجوب مصاحبته - صلى الله عليه وسلم - والنهى عن التخلف عنه ، سبب أنهم { لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } أى عطش { وَلاَ نَصَبٌ } أى : تعب ومشقة { وَلاَ مَخْمَصَةٌ } أى : مجاعة شديدة تجعل البطون خامصة ضامرة { فِي سَبِيلِ الله } أى : في جهاد أعدائه وإعلاء كلمة الحق { وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار } أى : ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بأرجلهم أو بحوافر خيولهم من أجل إغاظتهم وإزعاجهم . . { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً } أى : ولا يصيبون من عدو من أعدائهم إصابة كقتل أو أسر أو غنيمة .
إنهم لا يفعلون شيئا { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } أى : إلا كتب لهم بكل واحد مما ذكر عمل صالح ، ينالون بسببه الثواب الجزيل من الله ، لأنه - سبحانه - { لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } وإنما يكافئهم إلى إحسانهم بالأجر العظيم .
ثم يمضي السياق بعد هذا الهتاف مستنكراً مبدأ التخلف عن رسول اللّه :
( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) .
وفي التعبير تأنيب خفي . فما يؤنب أحد يصاحب رسول اللّه - [ ص ] بأوجع من أن يقال عنه : إنه يرغب بنفسه عن نفس رسول اللّه ، وهو معه ، وهو صاحبه !
وإنها لإشارة تلحق أصحاب هذه الدعوة في كل جيل . فما كان لمؤمن أن يرغب بنفسه عن مثل ما تعرضت له نفس رسول الله في سبيل هذه الدعوة ؛ وهو يزعم أنه صاحب دعوة ؛ وأنه يتأسى فيها برسول الله [ ص ] إنه الواجب الذي يوجبه الحياء من رسول اللّه - فضلاً على الأمر الصادر من اللّه ومع هذا فالجزاء عليه ما أسخاه !
ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل اللّه ، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً ، إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين . ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، ولا يقطعون وادياً ، إلا كتب لهم ، ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون . .
إنه على الظمأ جزاء ، وعلى النصب جزاء ، وعلى الجوع جزاء . وعلى كل موطئ قدم يغيظ الكفار جزاء . وعلى كل نيل من العدو جزاء . يكتب به للمجاهد عمل صالح ، ويحسب به من المحسنين الذين لا يضيع لهم اللّه أجراً .
يعاتب تعالى المتخلّفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوك ، من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب ، ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل من المشقة ، فإنهم نَقَصُوا أنفسهم من الأجر ؛ لأنهم{[13989]} { لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } وهو : العطش { وَلا نَصَبٌ } وهو : التعب { وَلا مَخْمَصَةٌ } وهي : المجاعة{[13990]} { وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ } أي : ينزلون منزلا{[13991]} يُرهبُ عدوهم { وَلا يَنَالُونَ } منه ظفرًا وغلبة عليه إلا كتب الله لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرتهم ، وإنما هي ناشئة عن أفعالهم ، أعمالا صالحة وثوابا جزيلا { إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } كما قال تعالى : { إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا } [ الكهف : 30 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعْرَابِ أَن يَتَخَلّفُواْ عَن رّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نّيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : لم يكن لأهل المدينة ، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن حولهم من الأعراب سكان البوادي ، الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وهم من أهل الإيمان به أن يتخلفوا في أهاليهم ولا دارهم ، ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه في صحبته في سفره والجهاد معه ومعاونته على ما يعانيه في غزوه ذلك . يقول : إنه لم يكن لهم هذا بأنهم من أجل أنهم وبسبب أنهم لا يصيبهم في سفرهم إذا كانوا معه ظمأ وهو العطش ولا نصب ، يقول : ولا تعب ، وَلا مَخْمَصَة فِي سَبِيلِ اللّهِ يعني : ولا مجاعة في إقامة دين الله ونصرته ، وهدم منار الكفر . وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئا يعني أرضا ، يقول : ولا يطئون أرضا يغيظ الكفار وطؤهم إياها . وَلا يَنالُونَ منْ عَدُوّ نَيْلاً يقول ولا يصيبون من عدوّ الله وعدوّهم شيئا في أموالهم وأنفسهم وأولادهم إلا كتب الله لهم بذلك كله ثواب عمل صالح قد ارتضاه . إنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ يقول : إن الله لا يدع محسنا من خلقه أحسن في عمله فأطاعه فيما أمره وانتهى عما نهاه عنه ، أن يجازيه على إحسانه ويثيبه على صالح عمله فلذلك كتب لمن فعل ذلك من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ما ذكر في هذه الآية الثواب على كل ما فعل فلم يضيع له أجر فعله ذلك .
وقد اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية ، فقال بعضهم : هي محكمة ، وإنما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، لم يكن لأحد أن يتخلف إذا غزا خلافه فيقعد عنه إلا من كان ذا عذر ، فأما غيره من الأئمة والولاة فإن لمن شاء من المؤمنين أن يتخلف خلافه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ ولا يَرْغَبُوا بأنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِه هذا إذا غزا نبيّ الله بنفسه ، فليس لأحد أن يتخلف . ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «لَوْلا أنْ أشُقّ على أُمّتِي ما تَخَلّفْتُ خَلْفَ سَرِيّة تَغْزُو في سَبِيلِ اللّهِ ، لكِنّي لا أجِدُ سَعَةً فانْطَلِقْ بِهِمْ مَعِي ، وَيَشُقّ عَليّ أو أكْرَهُ أنْ أدَعَهُمْ بَعْدِي » .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : سمعت الأوزاعي ، وعبد الله بن المبارك ، والفزاري ، والسبيعي ، وابن جابر ، وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية : ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ . . . إلى آخر الآية . إنها لأوّل هذه الأمة وآخرها من المجاهدين في سبيل الله .
وقال آخرون : هذه الآية نزلت وفي أهل الإسلام قلة ، فلما كثروا نسخها الله وأباح التخلف لمن شاء ، فقال : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ فقرأ حتى بلغ : ليَجْزِيَهُمُ اللّهُ أحْسَنَ ما كانُوا يعْمَلُونَ قال : هذا حين كان الإسلام قليلاً ، فلما كثر الإسلام بعد قال : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَةٌ . . . إلى آخر الآية .
والصواب من القول في ذلك عندي ، أَن الله عني بها الذين وصفهم بقوله : وجاءَ المُعَذّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ . . . الآية ، ثم قال جلّ ثناؤه : ما كان لأهل المدينة الذين تخلفوا عن رسول الله ولا لمن حولهم من الأعراب الذين قعدوا عن الجهاد معه أن يتخلفوا خلافه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ندب في غزوته تلك كلّ من أطاق النهوض معه إلى الشخوص إلا من أذن له أو أمره بالمقام بعده ، فلم يكن لمن قدر على الشخوص التخلف ، فعدّد جلّ ثناؤه من تخلف منهم ، فأظهر نفاق من كان تخلفه منهم نفاقا وعذر من كان تخلفه لعذر ، وتاب على من كان تخلفه تفريطا من غير شكّ ولا ارتياب في أمر الله إذ تاب من خطأ ما كان منه من الفعل . فأما التخلف عنه في حال استغنائه فلم يكن محظورا إذا لم يكن عن كراهته منه صلى الله عليه وسلم ذلك ، وكذلك حكم المسلمين اليوم إزاء إمامهم ، فليس بفرض على جميعهم النهوض معه إلا في حال حاجته إليهم لما لا بدّ للإسلام وأهله من حضورهم واجتماعهم واستنهاضه إياهم فيلزمهم حينئذ طاعته . وإذا كان ذلك معنى الآية لم تكن إحدى الاَيتين اللتين ذكرنا ناسخة للأخرى ، إذ لم تكن إحداهما نافية حكم الأخرى من كلّ وجوهه ، ولا جاء خبر يوجه الحجة بأن إحداهما ناسخة للأخرى .
وقد بيّنا معنى المخمصة وأنها المجاعة بشواهده ، وذكرنا الرواية عمن قال ذلك في موضع غير هذا ، فأغني ذلك عن إعادته ههنا .
وأما النيل : فهو مصدر من قول القائل : نالني ينالني ، ونلت الشيء : فهو منيل ، وذلك إذا كنت تناله بيدك ، وليس من التناول ، وذلك أن التناول من النوال ، يقال منه : نلت له أنول له من العطية . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : النيل مصدر من قول القائل : نالني بخير ينولني نوالاً ، وأنالني خيرا إنالة وقال : كأنّ النيل من الواو أبدلت ياء لخفتها وثقل الواو . وليس ذلك بمعروف في كلام العرب ، بل من شأن العرب أن تصحح الواو من ذوات الواو إذا سكنت وانفتح ما قبلها ، كقولهم : القَوْل ، والَعْول ، والحَوْل ، ولو جاز ما قال لجاز القَيْل .
{ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول الله } نهي عبر به بصيغة النفي للمبالغة . { ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } ولا يصونوا أنفسهم عما لم يصن نفسه عنه ويكابدوا معه ما يكابده من الأهوال . روي : ( أن أبا خيثمة بلغ بستانه ، وكانت له زوجة حسناء فرشت في الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب والماء البارد ، فنظر فقال : ظل ظليل ، ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح ما هذا بخير ، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح ، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال : كن أبا خيثمة فكأنه ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر له ) وفي { لا يرغبوا } يجوز النصب والجزم . { ذلك } إشارة إلى ما دل عليه قوله ما كان من النهي عن التخلف أو وجوب المشايعة . { بأنهم } بسبب أنهم . { لا يصيبهم ظمأ } شيء من العطش . { ولا نصب } تعب . { ولا مخمصة } مجاعة . { في سبيل الله ولا يطئون } ولا يدوسون . { موطئا } مكانا . { يغيظ الكفار } يغضبهم وطؤه . { ولا ينالون من عدو نيلا } كالقتل والأسر والنهب . { إلا كُتب لهم به عمل صالح } إلا استوجبوا به الثواب و ذلك مما يوجب المشايعة . { إن الله لا يضيع المحسنين } على إحسانهم ، وهو تعليل ل { كتب } وتنبيه على أن الجهاد إحسان ، أما في حق الكفار فلأنه سعى في تكميلهم بأقصى ما يمكن كضرب المداوي للمجنون ، وأما حق المؤمنين فلأنه صيانة لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر المؤمنين الذين لم يتخلفوا عن غزاة تبوك، فقال: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله}، عن غزاة تبوك، {ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ}، يعني عطشا، {ولا نصب}، يعني ولا مشقة في أجسادهم، {ولا مخمصة} يعني الجوع والشدة، {في سبيل الله ولا يطئون موطئا} من سهل، ولا جبل، {يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو} من عدوهم، {نيلا} من قتل فيهم، أو غارة عليهم، {إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين، يعني جزاء المحسنين، ولكن يجزيهم بإحسانهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لم يكن لأهل المدينة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حولهم من الأعراب سكان البوادي، الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهم من أهل الإيمان به أن يتخلفوا في أهاليهم ولا دارهم، ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه في صحبته في سفره والجهاد معه ومعاونته على ما يعانيه في غزوه ذلك. يقول: إنه لم يكن لهم هذا بأنهم من أجل أنهم وبسبب أنهم لا يصيبهم في سفرهم إذا كانوا معه "ظمأ "وهو العطش "ولا نصب"، يقول: ولا تعب، "وَلا مَخْمَصَة فِي سَبِيلِ اللّهِ" يعني: ولا مجاعة في إقامة دين الله ونصرته، وهدم منار الكفر. "وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئا" يعني أرضا، يقول: ولا يطئون أرضا يغيظ الكفار وطؤهم إياها. "وَلا يَنالُونَ منْ عَدُوّ نَيْلاً" يقول ولا يصيبون من عدوّ الله وعدوّهم شيئا في أموالهم وأنفسهم وأولادهم إلا كتب الله لهم بذلك كله ثواب عمل صالح قد ارتضاه. "إنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ" يقول: إن الله لا يدع محسنا من خلقه أحسن في عمله فأطاعه فيما أمره وانتهى عما نهاه عنه، أن يجازيه على إحسانه ويثيبه على صالح عمله فلذلك كتب لمن فعل ذلك من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ما ذكر في هذه الآية الثواب على كل ما فعل فلم يضيع له أجر فعله ذلك.
وقد اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية؛
فقال بعضهم: هي محكمة، وإنما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، لم يكن لأحد أن يتخلف إذا غزا خلافه فيقعد عنه إلا من كان ذا عذر، فأما غيره من الأئمة والولاة فإن لمن شاء من المؤمنين أن يتخلف خلافه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة...
وقال آخرون: هذه الآية نزلت وفي أهل الإسلام قلة، فلما كثروا نسخها الله وأباح التخلف لمن شاء، فقال: "وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً"...
والصواب من القول في ذلك عندي، أَن الله عني بها الذين وصفهم بقوله: "وجاءَ المُعَذّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ..."، ثم قال جلّ ثناؤه: ما كان لأهل المدينة الذين تخلفوا عن رسول الله ولا لمن حولهم من الأعراب الذين قعدوا عن الجهاد معه أن يتخلفوا خلافه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ندب في غزوته تلك كلّ من أطاق النهوض معه إلى الشخوص إلا من أذن له أو أمره بالمقام بعده، فلم يكن لمن قدر على الشخوص التخلف، فعدّد جلّ ثناؤه من تخلف منهم، فأظهر نفاق من كان تخلفه منهم نفاقا وعذر من كان تخلفه لعذر، وتاب على من كان تخلفه تفريطا من غير شكّ ولا ارتياب في أمر الله إذ تاب من خطأ ما كان منه من الفعل. فأما التخلف عنه في حال استغنائه فلم يكن محظورا إذا لم يكن عن كراهته منه صلى الله عليه وسلم ذلك، وكذلك حكم المسلمين اليوم إزاء إمامهم، فليس بفرض على جميعهم النهوض معه إلا في حال حاجته إليهم لما لا بدّ للإسلام وأهله من حضورهم واجتماعهم واستنهاضه إياهم فيلزمهم حينئذ طاعته. وإذا كان ذلك معنى الآية لم تكن إحدى الآيتين اللتين ذكرنا ناسخة للأخرى، إذ لم تكن إحداهما نافية حكم الأخرى من كلّ وجوهه، ولا جاء خبر يوجه الحجة بأن إحداهما ناسخة للأخرى.
وقد بيّنا معنى المخمصة وأنها المجاعة بشواهده...
وقوله: {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} أي يطلبون المنفعة بتوقية أنفسهم دون نفسه، بل كان الفرض عليهم أن يقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم. وقد كان من المهاجرين والأنصار من فعل ذلك وبذل نفسه للقتل ليقي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {وَلا يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً}؛ فيه الدلالة على أن وَطءَ ديارهم بمنزلة النَّيْلِ منهم، وهو قتلهم أو أخذ أموالهم أو إخراجهم عن ديارهم، هذا كله نيل منهم؛ وقد سَوَّى بين وطء موضع يغيظ الكفار وبين النيل منهم، فدل ذلك على أن وطء ديارهم وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم هو بمنزلة نيل الغنيمة والقتل والأسر، وفي ذلك دليل على أن الاعتبار فيما يستحقه الفارس والراجل من سهامهما بدخول أرض الحرب لانحيازه الغنيمة والقتال، إذْ كان الدخول بمنزلة حيازة الغنائم وقتلهم وأسرهم. ونظيره في الدلالة على ما ذكرنا قوله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} [الحشر: 6]، فاقتضى ذلك اعتبار إيجاف الخيل والركاب في دار الحرب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا يجوز لهم أن يؤثِروا على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- شيئاً من نَفْسٍ وروح، ومالٍ ووَلَدٍ وأهلٍ، وليسوا يخسرون على الله وأنَّى ذلك..؟ وإنهم لا يرفعون لأجْلِه خطوةً إلاَّ قابَلَهم بأَلفِ خطوة، ولا ينقلون إليه قَدَماً إلا لقَّاهم لطفاً وكرماً، ولا يُقاسُون فيه عَطَشاً إلا سقاهم من شراب محابِّه كاسا، ولا يتحملون لأجله مشقةً إلا لقَّاهم لطفاً وإيناساً، ولا ينالون من الأعداء أَذَىً إلا شَكَرَ اللهُ سَعْيَهم بما يوجب لهم سعادة الدارين!.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة} ظاهره خبر، ومعناه نهي، كقوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} [الأحزاب -53] {ومن حولهم من الأعراب}، سكان البوادي: مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار. {أن يتخلفوا عن رسول الله}، إذا غزا. {ولا يرغبوا}، أي: ولا أن يرغبوا، {بأنفسهم عن نفسه}، في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه. قال الحسن: لا يرغبوا بأنفسهم أن يصيبهم من الشدائد فيختاروا الخفض والدعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مشقة السفر ومقاساة التعب. {ذلك بأنهم لا يصيبهم}، في سفرهم، {ظمأ}، عطش، {ولا نصب}، تعب، {ولا مخمصة}، مجاعة، {في سبيل الله ولا يطئون موطئا}، أرضا، {يغيظ الكفار}، وطؤهم إياه {ولا ينالون من عدو نيلاً}، أي: لا يصيبون من عدوهم قتلا أو أسرا أو غنيمة أو هزيمة، {إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم في الشدائد ما تلقاه نفسه، علماً بأنها أعزُّ نفس عند الله وأكرمها عليه. فإذا تعرضت مع كرامتها وعزّتها للخوض في شدّة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرّضت له، ولا يكترث لها أصحابها ولا يقيموا لها وزناً، وتكون أخفّ شيء عليهم وأهونه، فضلاً عن أن يربئوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ، مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية..
ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة، لا الوطء بالأقدام والحوافر..
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها على التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوه، وقوة الكلام تعطى الأمر بصحبته إلى توجهه غازياً وبذل النفوس دونه...
... وقوله: {ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} يقال: رغبت بنفسي عن هذا الأمر أي توقفت عنه وتركته، وأنا أرغب بفلان عن هذا، أي: أبخل به عليه ولا أتركه. والمعنى: ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول عليه الصلاة والسلام لنفسه.
{ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ} وهو شدة العطش يقال ظمئ فلان إذا اشتد عطشه..
{إلا كتب لهم به عمل صالح} أي إلا كان ذلك قربة لهم عند الله ونقول دلت هذه الآية على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيته وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله. وكذا القول في طرف المعصية فما أعظم بركة الطاعة وما أعظم شؤم المعصية..
وقال عطية: ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم وأمرهم وهذا هو الصحيح، لأنه تتعين الإجابة والطاعة لرسول الله إذا أمر وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا لأنا لو سوغنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض ولأدى ذلك إلى تعطيل الجهاد.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ما نالهم من الأهوال إنما نالهم بتخلفهم عن أشرف الخلق، والذي التفت بهم إلى مرابع الإقبال إنما هو الصدق، قال تعالى ناهياً بصيغة الخبر ليكون أبلغ، جامعاً إليهم من كان على مثل حالهم في مطلق التخلف: {ما كان} أي ما صح وما انبغى بوجه من الوجوه {لأهل المدينة} أي التي هي سكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي دار الهجرة ومعدن النصرة {ومن حولهم} أي في جميع نواحي المدينة الشريفة {من الأعراب} أي من سكان البوادي الذين أقسموا بالإسلام {أن يتخلفوا} أي في أمر من الأمور {عن رسول الله} أي الملك الأعلى، ومن شأن المرسل إليه أن لا يبرح عن جناب الرسول لا سيما وهو رأس الصادقين الذين وقع الأمر بالكون معهم {ولا يرغبوا} أي وما كان لهم أن يرغبوا، ولعله قللهم بصيغة القلة بالنسبة إلى من أيده به صلى الله عليه وسلم من جنوده فقال تعالى: {بأنفسهم عن نفسه} أي التي هي أشرف النفوس مطلقاً بأن يصونوا نفوسهم عما باشره صلى الله عليه وسلم بل يلقونها في المتالف دونه وصيانة لنفسه الشريفة عن أدنى الأذى، فهي كالتعليل للأمر بالتقوى أي خافوا الله وأصدقوه كما صدق هؤلاء ليتوب عليكم كما تاب عليهم فإنه لم يكن لكم التخلف فهو نهي بليغ مع تقبيح وتوبيخ وإلهاب وتهييج.
ولما علل الأمر بالتقوى، علل النهي عن التخلف بما يدل على صدق الإيمان فيصير نقيضه دالاً على نقيضه فقال: {ذلك} أي النهي العظيم عن التخلف في هذا الأسلوب النافي للكون {بأنهم لا يصيبهم ظمأ} أي عطش شديد {ولا نصب} أي تعب بالغ {ولا مخمصة} أي شدة مجاعة {في سبيل الله} أي طريق دين الملك الأعظم المتوصلة به إلى جهاد أعدائه، ورتبت هذه الأشياء ترتيبها في الوجود فإن مطلق الحركة يهيج الحرارة فينشأ العطش وتماديها يورث التعب، والأغلب أن يكون قبل الجوع.
ولما كان المقصود من إجهاد النفس بما ذكر إرغام الكفار باقتحام أرضهم المتوصل به إلى إيهانهم بالنيل منهم، أتبع ذلك قوله: {ولا يطؤون موطئاً} أي وطأً أو مكاناً وطؤه {يغيظ الكفار} أي وطؤهم له بأرجلهم أو دوابهم {ولا ينالون من عدو نيلاً} أي كائناً ما كان صغيراً أو كبيراً {إلا كتب لهم به} أي في صحائف الأعمال، بني للمفعول لأن القصد إثباته لا من معين {عمل صالح} أي ترتب لهم عليه أجر جزيل.
ولما كان فاعل هذه الأشياء مقدماً على المعاطب في نفسه ومحصلاً لغرض الجهاد، أشير على وجه التأكيد في جملة اسمية إلى أنه محسن، أما في حق نفسه فبإقامة الدليل بطاعته على صدق إيمانه. وأما في غيره من المؤمنين فبحمايتهم عن طمع الكافرين. وأما في حق الكفار فبحملهم على الإيمان بغاية الإمكان، فقال تعالى معللاً للمجازاة: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {لا يضيع} أي لا يترك تركه ما من شأنه الإهمال {أجر المحسنين} وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً بالوصف.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هاتان الآيتان في تأكيد وجوب الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه من الأجر العظيم، وحظر تخلف أحد عنه إلا بإذنه، بما فيه من تفضيل أنفسهم على نفسه.
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} ما كان بالذي يصح لأهل المدينة عاصمة الإسلام ومقر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بالذي يستقيم أو يحل لهم.
{ومَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ} كمزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار.
{أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ} إذا خرج غازيا في سبيل الله كما فعل بعضهم في غزوة تبوك، ولا في غير هذا من أمور الملة ومصالح الأمة.
{ولاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي ولا أن يفضلوا أنفسهم على نفسه فيصونوها، ويرغبوا بإيثار راحتها وسلامتها عن بذلها فيما يبذل فيه نفسه الشريفة القدسية مع احتمال الجهد والمشقة في سبيل الله عزّ وجلّ. يقال: رغب في الشيء إذا أحبه وآثره، ورغب عنه إذا كرهه وأعرض عنه، وقد جمع هنا بينهما بهذه العبارة المؤثرة الدالة على أن المتخلف يفضل نفسه ويؤثرها على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا يكمل إيمان أحد حتى يحبه أكثر من حبه لنفسه، وهذا يصح بعده صلى الله عليه وسلم في كل راغب عن سنته والتأسي به، كالملاحدة الذين يقولون لا يجب اتباعه بعد موته، والمبتدعة والمقلدة الذين يؤثرون بدعهم ومذاهبهم على سنته...
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ولاَ نَصَبٌ ولاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ} أي ذلك الذي دل عليه النفي من النهي عن التخلف عنه، ووجوب الاتباع له، بسبب أن كل ما يصيبهم في جهادهم من أذى وإن قلّ، ومن إيذاء للعدو وإن صغر، فهو عمل صالح لهم به أكبر الأجر، فلا يصيبهم ظمأ لقلة الماء، أو نصب لبعد الشقة أو قلة لظهر، أو مجاعة لقلة الزاد، في سبيل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه.
ولاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّار} وطوؤهم إياه لأنه من دارهم، ويعدون وطأه اعتداء عليهم واستهانة بقوتهم، فيغيظهم أن تمسه أقدام المؤمنين أو حوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم، فكيف إذا يسر الله فتحه لهم.
{ولاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً} أي ولا يبلغون من أي عدو من أعداء الله ورسوله شيئا مما أرادوا من جرح أو قتل أو أسر أو هزيمة أو غنيمة.
{إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} أي كتب لهم بكل واحد مما ذكر عمل صالح مرضي لله تعالى مجزي عليه الثواب العظيم، فما أكثر هذه الأعمال الصالحات التي تعم الأمور العارضة كالجوع والعطش، وتشمل كل حركة من بطشة يد أو وطئة قدم؟
{إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} هذا تعليل لهذا الأجر العظيم يدل على عموم الحكم، وإن كان من المعلوم بالضرورة أن هذا الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم أجرا، وأنفس ذخرا، قال قتادة: إن حكم الآية خاص به صلى الله عليه وسلم وبمن جاهد معه، وقال الأوزاعي وعبد الله بن المبارك وغيرهما من علماء التابعين: هذه الآية للمسلمين إلى أن تقوم الساعة. وهذا القول أصح، على ما لا يخفى من التفاوت في الأجر، فالجهاد في سبيل الله إحسان، و {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}؟ [الرحمن: 60] في كل مكان وزمان.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي التعبير تأنيب خفي. فما يؤنب أحد يصاحب رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم] بأوجع من أن يقال عنه: إنه يرغب بنفسه عن نفس رسول اللّه، وهو معه، وهو صاحبه! وإنها لإشارة تلحق أصحاب هذه الدعوة في كل جيل. فما كان لمؤمن أن يرغب بنفسه عن مثل ما تعرضت له نفس رسول الله في سبيل هذه الدعوة؛ وهو يزعم أنه صاحب دعوة؛ وأنه يتأسى فيها برسول الله [صلى الله عليه وسلم] إنه الواجب الذي يوجبه الحياء من رسول اللّه- فضلاً على الأمر الصادر من اللّه ومع هذا فالجزاء عليه ما أسخاه!... إنه على الظمأ جزاء، وعلى النصب جزاء، وعلى الجوع جزاء. وعلى كل موطئ قدم يغيظ الكفار جزاء. وعلى كل نيل من العدو جزاء. يكتب به للمجاهد عمل صالح، ويحسب به من المحسنين الذين لا يضيع لهم اللّه أجراً.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي لإيجاب الغزو على أهل المدينة ومن حولهم من أهل باديتها الحافّين بالمدينة إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو. فهذا وجوب عيني على هؤلاء شرفهم الله بأن جعلهم جند النبي صلى الله عليه وسلم وحَرَس ذاته.
وصيغة {ما كان لأهل المدينة} خبر مستعمل في إنشاء الأمر على طريق المبالغة، إذ جعل التخلف ليس مما ثبت لهم، فهم برآء منه فيثبت لهم ضده وهو الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا.
فيه ثناء على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب لما قاموا به من غزو تبوك، فهو يقتضي تحريضهم على ذلك كما دل عليه قوله: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ} الخ. وفيه تعريض بالذين تخلفوا من أهل المدينة ومن الأعراب.
...والتخلف: البقاء في المكان بعدَ الغير ممن كان معه فيه، وقد تقدم عند قوله: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله} [التوبة: 81]. والرغبة تُعدّى بحرف (في) فتفيد معنى مودة تحصيل الشيء والحرص فيه، وتُعدى بحرف (عن) فتفيد معنى المجافاة للشيء، كما تقدم في قوله تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم} [البقرة: 130] وهي هنا معداة ب (عن). أريد برغبتهم عن نفسه محبتهم أنفسهم وحرصهم على سلامتها دون الحرص على سلامة نفس الرسول، فكأنهم رغبوا عن نفسه إذ لم يخرجوا معه مُلاَبسين لأنفسهم، أي محتفظين بها لأنهم بمقدار من يتخلف منهم يزداد تعرض نفس الرسول من التلف قرباً، فتخلف واحد منهم عن الخروج معه عون على تقريب نفس الرسول عليه الصلاة والسلام من التلف فلذلك استعير لهذا التخلف لفظ الرغبة عنه...
فجملة: كتب لهم به عمل صالح} في موضع الحال، وأغنى حرف الاستثناء عن اقترانها بقد.
{ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ} الخ...أي جعَل الله كل عمل من تلك الأعمال عملاً صالحاً وإن لم يقصِد به عاملوه تقرباً إلى الله فإن تلك الأعمال تصدر عن أصحابها وهم ذاهلون في غالب الأزمان أو جميعها عن الغاية منها فليست لهم نيات بالتقرب بها إلى الله ولكن الله تعالى بفضله جعلها لهم قربات باعتبار شرف الغاية منها. وذلك بأن جعل لهم عليها ثواباً كما جعل للأعمال المقصود بها القربة، كما ورد أن نوم الصائم عبادة.
وقد دل على هذا المعنى التذييل الذي أفاد التعليل بقوله: {إن الله لا يضيع أجر المحسنين}. ودل هذا التذييل على أنهم كانوا بتلك الأعمال محسنين فدخلوا في عموم قضية {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} بوجه الإيجاز.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... {أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ} في نداء المعركة وحركتها، لأن ذلك يعطّل الخطّة، ويعقّد الموقف، لأنّ المعركة قد تحتاج إلى سرعةٍ في التحرك، ما يفرض أن يكون الجيش جاهزاً عند أوّل انطلاقةٍ للتحدي، وقد لا يتيسر ذلك لدى الأفراد البعيدين عن المدينة، إذا تخلف أهل المدينة ومن حولهم عن الاستجابة للنداء.
{وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} فإن من علامة الإيمان أن يعيش المؤمنون الشعور بالمسؤولية عن سلامة الخط وسلامة الموقع وسلامة القيادة المتمثلة بالرسول (صلى الله عليه وسلم)، فلا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، فيستريحوا لحبّ الحياة في الوقت الذي يجدونه خارجاً لملاقاة الموت في سبيل الله، عندما تفرض عليه تحديات المعركة ذلك، لأن قيمة الحياة لدى المؤمن أن يحوّلها إلى طاقةٍ متحركةٍ في سبيل الله، ليفجّرها من أجل البناء في جانب ومن أجل هدم الباطل في جانب آخر. ولذلك فإن الاحتفاظ بها لنوازع ذاتيّة وشهواتٍ طارئةٍ، لا يتناسب مع المفهوم الإسلامي لدور الحياة في حركة الشخصية الإسلامية.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
معاناة المجاهدين لا تبقى بدون ثواب:
كان البحث في الآيات السابقة حول توبيخ وملامة الممتنعين عن الاشتراك في غزوة تبوك، وتبحث هاتان الآيتان البحث النهائي لهذا الموضوع كقانون كلّي.
فالآية الأُولى تقول: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) لأنّه قائد الأُمّة، ورسول الله، ورمز بقاء وحياة الأُمّة الإِسلامية، وإِن تركه وحيداً لا يعرض حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للخطر فحسب، بل يعرّض دين الله، وكذلك وجود وحياة المؤمنين أيضاً أمام الخطر الجدي.
إِنّ القرآن في الواقع يرغّب كل المؤمنين بملازمة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحمايته والدفاع عنه في مقابل كل الأخطار والعقبات باستعمال نوع من البيان والتعبير العاطفي، فهو يقول: إِنّ أرواحكم ليست بأعزّ من روح النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحياتكم ليست بأفضل من حياته، فهل يسمح لكم إِيمانكم أن تدعو النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يواجه الخطر وهو أفضل وأعز موجود إِنساني، وقد بُعث لنجاتكم وقيادتكم نحو الهدى وتستثقلون التضحية في سبيله حفاظاً على أرواحكم وسلامتكم؟!
من البديهي أنّ التأكيد على أهل المدينة وأطرافها إِنّما هو لأنّ المدينة كانت مقرّ الإِسلام يومئذ ومركزه المشع، وإِلاّ فإنّ هذا الحكم غير مختص بالمدينة وأطرافها، وغير مختص بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ واجب كل المسلمين، وفي جميع العصور أن يحترموا ويكرموا قادتهم كأنفسهم، بل أكثر، ويبذلون قصارى جهدهم في سبيل الحفاظ عليهم، ولا يتركوهم يواجهون الصعاب والأخطار وحدهم، لأنّ الخطر الذي يحدق بهؤلاء يحدق بالأُمّة جميعاً.
ثمّ تشير الآية إِلى مكافآت المجاهدين المعدة مقابل كل صعوبة يلاقونها في طريق الجهاد، وتذكر سبعة أقسام من هذه المشاكل والصعاب وثوابها، فتقول: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤؤن موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إِلاّ كتب لهم به عمل صالح)، ومن المحتم أنّهم سيقبضون جوائزهم من الله سبحانه، واحدة بواحدة، ف (إِنّ الله لا يضيع أجر المحسنين).