التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَـٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ وَيَسۡتَـٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا} (13)

{ وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ ياأهل يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فارجعوا . . . } .

أى : واذكروا - كذلك - أيها المؤمنون - وقت أن قالت لكم طائفة من هؤلاء المنافقين : { ياأهل يَثْرِبَ } أى : يا أهل المدينة ، لا مقام لكم فى هذا المكان الذى تقيمون فيه بجوار الخندق لحماية بيوتكم ومدينتكم ، فارجعوا إلى مساكنكم ، واستسلموا لأعدائكم .

قال الشوكانى : وذلك أن المسلمين خرجوا فى غزوة الخندق ، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سلع ، وجعلوا وجوههم إلى العدو ، وجعلوا الخندق بينهم وبين القوم . فقال هؤلاء المنافقون : ليس ها هنا موضع إقامة وأمروا الناس بالرجوع إلى منازلهم بالمدينة .

ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المنافقين لم يكتفوا بهذا القول الذميم ، بل كانوا يهربون من الوقوف إلى جانب المؤمنين ، فقال - تعالى - : { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } .

أى : أنهم كانوا يحرضون غيرهم على ترك مكانه فى الجهاد ، ولا يكتفون بذلك ، بل كان كل فريق منهم يذهب إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فيستأذنه فى الرجوع إلى بيوتهم ، قائلين له : يا رسول الله : { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أى : خالية ممن يحرسها .

يقال : دار ذات عورة إذا سهل دخولها لقلة حصانتها .

وهنا يكشف القرآن عن حقيقتهم ويكذبهم فى دعواهم فيقول { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } أى : والحال أن بيوتهم كما يزعمون ، وإنما الحق أنهم يريدون الفرار من ميدان القتال ، لضعف إيمانهم ، وجب نفوسهم .

روى " أن بنى حارثة بعثوا أحدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول له : إن بيوتنا عورة ، وليست دار من دور الأنصار مثل دورنا ، وليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا ، فأذن لنا كى نرجع إلى دورنا ، فمنع ذرارينا ونساءنا . فأذن لهم صلى الله عليه وسلم .

فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال : يا رسول الله ، لا تأذن لهم ، إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة إلا فعلوا ذلك . . فردهم " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَـٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ وَيَسۡتَـٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا} (13)

9

( وإذ قالت طائفة منهم : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ) . .

فهم يحرضون أهل المدينة على ترك الصفوف ، والعودة إلى بيوتهم ، بحجة أن إقامتهم أمام الخندق مرابطين هكذا ، لا موضع لها ولا محل ، وبيوتهم معرضة للخطر من ورائهم . . وهي دعوة خبيثة تأتي النفوس من الثغرة الضعيفة فيها ، ثغرة الخوف على النساء والذراري . والخطر محدق والهول جامح ، والظنون لا تثبت ولا تستقر !

( ويستأذن فريق منهم النبي ، يقولون : إن بيوتنا عورة ) . .

يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو . متروكة بلا حماية .

وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة ، ويجردهم من العذر والحجة :

( وما هي بعورة ) . .

ويضبطهم متلبسين بالكذب والاحتيال والجبن والفرار :

( إن يريدون إلا فرارا ) . .

وقد روي أن بني حارثة بعثت بأوس بن قيظي إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقولون : ( إن بيوتنا عورة ) ، وليس دار من دور الأنصار مثل دورنا . ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا ، فأذن لنا فلنرجعإلى دورنا ، فنمنع ذرارينا ونساءنا . فأذن لهم [ صلى الله عليه وسلم ] فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال : يا رسول الله لا تأذن لهم . إنا والله ما اصابنا وإياهم شدة إلا صنعوا هكذا . . فردهم . .

فهكذا كان أولئك الذين يجبههم القرآن بأنهم : ( إن يريدون إلا فرارا ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَـٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ وَيَسۡتَـٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا} (13)

وقوم آخرون قالوا كما قال الله : { وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ } يعني : المدينة ، كما جاء في الصحيح : " أريت [ في المنام ]{[23245]} دارَ هجرتكُم ، أرض بين حَرّتين فذهب وَهْلي أنها هَجَر ، فإذا هي يثرب " {[23246]} ، ش وفي لفظ : " المدينة " .

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن مهدي ، حدثنا صالح بن عمر ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن البراء ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سَمَّى المدينة يثرب ، فليستغفر الله ، هي طابة ، هي طابة " {[23247]} .

تفرد به الإمام أحمد ، وفي{[23248]} إسناده ضعف ، والله أعلم .

ويقال : إنما كان أصل تسميتها " يثرب " برجل نزلها من العماليق ، يقال له : يثرب بن عبيل بن مهلابيل بن عوص بن عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح . قاله السهيلي ، قال : وروي عن بعضهم أنه قال : إن لها [ في التوراة ]{[23249]} أحد عشر اسما : المدينة ، وطابة ، وطيبة ، المسكينة ، والجابرة ، والمحبة ، والمحبوبة ، والقاصمة ، والمجبورة ، والعذراء ، والمرحومة .

وعن كعب الأحبار قال : إنا نجد في التوراة يقول الله للمدينة : يا طيبة ، ويا طابة ، ويا مسكينة [ لا تقلي الكنوز ، أرفع أحاجرك على أحاجر القرى ]{[23250]} .

وقوله : { لا مُقَامَ لَكُمْ } أي : هاهنا ، يعنون عند النبي صلى الله عليه وسلم في مقام المرابطة ، { فَارْجِعُوا } أي : إلى بيوتكم ومنازلكم . { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ } : قال العوفي ، عن ابن عباس : هم بنو حارثة قالوا : بيوتنا نخاف عليها السَّرَقَ . وكذا قال غير واحد .

وذكر ابن إسحاق : أن القائل لذلك هو أوس بن قَيظيّ ، يعني : اعتذروا في الرجوع إلى منازلهم بأنها عَورة ، أي : ليس دونها ما يحجبها عن العدو ، فهم يخشون عليها منهم . قال الله تعالى : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } أي : ليست كما يزعمون ، { إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا } أي : هَرَبًا من الزحف .


[23245]:- زيادة من ت ، ف ، والبخاري.
[23246]:- رواه البخاري في صحيحه برقم (7035) من حديث أبي موسى ، رضي الله عنه.
[23247]:- المسند (4/285).
[23248]:- في ت: "ففي".
[23249]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
[23250]:- زيادة من ف ، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَـٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ وَيَسۡتَـٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا} (13)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَت طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ يَأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النّبِيّ يَقُولُونَ إِنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مّنْ أَقْطَارِهَا ثُمّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لاَتَوْهَا وَمَا تَلَبّثُواْ بِهَآ إِلاّ يَسِيراً } .

يعني تعالى ذكره بقوله : وَإذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ وإذ قال بعضهم : يا أهل يثرب ، ويثرب : اسم أرض ، فيقال : إن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية من يثرب . وقوله : «لا مَقامَ لَكُمْ فارْجِعُوا » بفتح الميم من مقام . يقول : لا مكان لكم ، تقومون فيه ، كما قال الشاعر :

فأيّيّ ما وأَيّكَ كانَ شَرّا *** فَقيدَ إلى المَقامَةِ لا يَرَاها

قوله فارْجِعُوا يقول : فارجعوا إلى منازلكم أمرهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والفرار منه ، وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : إن ذلك من قيل أوس بن قيظي ومن وافقه على رأيه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد ، بن رومان وَإذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أهْلَ يَثْرِبِ . . . إلى فِرَارا يقول : أوس بن قيظي ، ومن كان على ذلك من رأيه من قومه . والقراءة على فتح الميم من قوله : «لا مَقامَ لَكُمْ » بمعنى : لا موضع قيام لكم ، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها . وذُكر عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قرأ ذلك : لا مُقامَ لَكُمْ بضم الميم ، يعني : لا إقامة لكم .

وقوله : وَيَسْتأذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النّبِيّ يَقُولُونَ إنّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ يقول تعالى ذكره : ويستأذن بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإذن بالانصراف عنه إلى منزله ، ولكنه يريد الفرار والهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَيَسْتأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النّبِيّ . . . إلى قوله إلاّ فِرَارا قال : هم بنو حارثة ، قالوا : بيوتنا مخلية نخشى عليها السرق .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ قال : نخشى عليها السرق .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَسْتأذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النّبِيّ يَقُولُونَ إنّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بعَوْرَةٍ وإنها مما يلي العدوّ ، وإنا نخاف عليها السرّاق ، فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلا يجد بها عدوّا ، قال الله : إنْ يُرِيدُونَ إلاّ فِرَارا يقول : إنما كان قولهم ذلك إنّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ إنما كان يريدون بذلك الفرار .

حدثنا محمد بن سنان القزاز ، قال : حدثنا عبيد الله بن حمران ، قال : حدثنا عبد السلام بن شدّاد أبو طالوت عن أبيه في هذه الاَية إنّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ ، وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ قال : ضائعة .