ثم وجه - سبحانه - إلى عباده المؤمنين نداء خامسا ، نهاهم فيه عن أن يظن بعضهم ببعض ظنا سيئا بدون مبرر ، كما نهاهم عن التجسس وعن الغيبة ، حتى تبقى للمسلم حرمته وكرامته . . فقال - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا . . } .
وقوله - تعالى - { اجتنبوا } من الاجتناب يقال : اجتنب فلان فلانا إذا ابتعد عنه ، حتى لكأنه فى جانب والآخر فى جانب مقابل .
والمراد بالظن المنهى عنه هنا : الظن السيئ بأهل الخير والصلاح بدون دليل أو برهان .
قال بعض العلماء ما ملخصه : والظن أنواع : منه ما هو واجب ، ومنه ما هو محرم ، ومنه ما هو مباح .
فالمحرم : كسوء الظن بالمسلم المستور الحال ، الظاهر العدالة ، ففى الحديث الشريف : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث . . " وفى حديث آخر : " إن الله حرم من المسلم ودمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء " .
وقلنا : كسوء الظن بالناس ، إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدى إلى الغير ، وأما إن تظن شرا لتتقيه ، ولا يتعدى أثر ذلك إلى الغير فذلك محمود غير مذموم ، وهو محل ما ورد من أن " من الحزم سوء الظن " .
أى : يا من آمنتم بالله - تعالى - إيمانا حقا ، ابتعدوا ابتعادا تاما عن الظنون السيئة بأهل الخير من المؤمنين ، لأن هذه الظنون السيئة التى لا تستند إلى دليل أو أمارة صحيحة إنما هى مجرد تم ، تؤدى إلى تولد الشكوك والمفاسد . . فيما بينكم .
وجاء - سبحانه - بلفظ " كثيرا " منكرا لكى يحتاط المسلم فى ظنونه ، فيبتعد عما هو محرم منها ، ولا يقدم إلا على ما هو واجب أو مباح منها - كما سبق أن أشرنا - .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ } .
أى : إن الكثير من الظنون يؤدى بكم إلى الوقوع فى الذنوب والآثام فابتعدوا عنه .
قال ابن كثير : ينهى الله عباده المؤمنين عن كثير من الظن ، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس من غير محله ، لأن بعض ذلك يكون إثما محضا ، فليجتنب كثيرا منه احتياطا . . " عن حارثة بن النعمان : قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ثلاث لازمات لأمتى : " الطيرة والحسد وسوء الظن " : فقال رجل : ما الذى يذهبن يا رسول الله من هن فيه ؟ قال : " إذا حدست فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا تطيرت فامض " " .
وأخرج البيهقى فى شعب الإِيمان عن سعيد بن المسيب قال : كتب إلى بعض إخوانى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ضع أمر أخيك على أحسنه ، ما لم يأتك ما يغلبك ، ولا تظنن يكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها فى الخير محملا ، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه . .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } أى : خذوا ما ظهر من أحوال الناس ولا بتحثوا عن بواطنهم أو أسرارهم .
أو عوراتهم ومعايبهم ، فإن من تتبع عورات الناس فضحه الله - تعالى - .
فالتجسس مأخوذ من الجس ، وهو البحث عما خفى من أمور الناس ، وقرأ الحس وأبو رجاء : { ولا تحسسوا } من الحس ، وهما بمعنى واحد . وقيل هما متغايران التجسس - بالجيم - معرفة الظاهر ، وأن التحسس - بالحاء - تتبع البواطن وقيل بالعكس . .
وعلى أية حال فالمراد هنا من التجسس والتحسس : النهى عن تتبع عورات المسلمين ، أخرج أبو داود وغيره " عن أبى برزة الأسلمى قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإِيمان قلبه . لا تتبعوا عورات المسلمين ، فإن من تتبع عورات المسلمين ، فضحه الله - تعالى - فى قعر بيته " .
وعن معاوية بن أبى سفيان قال : سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم " .
ثم نهى - سبحانه - بعد ذلك عن الغيبة فقال : { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } والغيبة - بكسر الغين - أن تذكر غيرك فى غيابه بما يسوءه يقال : اغتاب فلان فلانا ، إذا ذكره بسوء فى غيبته ، سواء أكان هذا الذكر بريح اللفظ أم بالكناية ، أم بالإِشارة ، أم بغير ذلك .
روى أبو داود وغيره عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ذكرك أخاك بما يركه . قيل : أرأيت إن كان فى أخى ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه " .
ثم ساق - سبحانه - تشبيها ينفر من الغيبة أكمل تنفير فقال : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } . والاستفهام للتقرير لأنه من الأمور المسلمة أن كل إنسان يكره أكل لحم أخيه حيا ، فضلا عن أكله ميتا .
والضمير فى قوله : { فَكَرِهْتُمُوهُ } يعود على الأكل المفهوم من قوله { يَأْكُلَ } و { مَيْتاً } حال من اللحم أو من الأخ .
أى : اجتنبوا أن تذكروا غيركم بسوء فى غيبته ، فإن مثل من يغتاب أخاه المسلم كمثل من يأكل لحمه وهو ميت ، ولا شك أن كل عاقل يكره ذكل وينفر منه أشد النفور .
ورحم الله - صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة : قوله - تعالى - : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ . . } تمثيل وتصوير لما يناله المتغاب من عرض غيره على أفظع وجه وأفحشه .
وفيه مبالغات شتى : منها الاستفهام الذى معناه التقرير ، ومنها : جعل ما هو الغاية فى الكراهة موصولا بالمحبة ، ومنها : إسناد الفعل إلى أحدكم ، والإِشعار بأن أحدا من الأحديث لا يحب ذلك ، ومنها : أنه -سبحانه - لم يقتصر على تمثل الاغتياب بأكل لحم الإِنسان ، وإنما جعله أخا ، ومنها : أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ وإنما جعله ميتا .
وانتصب " ميتا " على الحال من اللحم أو من الأخ . . وقوله : { فَكَرِهْتُمُوهُ } فيه معنى الشرط . أى : إن صح هذا فقد كرهتموه - فلا تفعلوه - وهى الفاء الفصيحة .
والحق أن المتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها قد نفرت من الغيبة بأبلغ أسلوب وأحكمه ، لأنها من الكبائر والقبائح التى إلى تنزق شمل المسلمين ، وإيقاد نار الكراهية فى الصدور .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقد أخرج العلماء أشياء لا يكون لها حكم الغيبة ، وتنحصر فى ستة أسباب :
الأول : التظلم ، إذ من حق المظلوم أن يشكو ظالمه إلى من تتوسم فيه إزالة هذا الظلم .
الثان : الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته .
الثالث : الاستفتاء ، إذ يجوز للمستفتى أن يقول للمفتى : ظلمنى فلان بكذا .
الرابع : تحذير المسلمين من الشر ، كتجريح الشهود والرواة والمتصدين للإِفتاء بغير علم .
الخامس : المجاهرون بالعاصى وبارتكاب المنكرات ، فإنه يجوز ذكرهم بما تجاروا به . .
السادس : التعريف باللقب الذى لا يقصد به الإِساءة كالأعمش والأعرج .
ثم ختم - سبحانه - الاية الكريمة بدعوة المؤمنين إلى التوبة والإِنابة فقال : { واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } . أى : واتقوا - أيها المؤمنون - بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما أمركم - سبحانه - باجتنابه ، إن الله - تعالى - كثير القبول لتوبة عابده ، الذين يتوبون من قريب ، ويرجعون إلى طاعته رجوعا مصحواب بالندم على ما فرط منهم من ذنوب ، ومقرونا بالعزم على عدم العودة إلى تلك الذنوب لا فى الحال ولا فى الاستقبال . ومستوفيا لكل ما تستلزمه التوبة الصادقة من شروط .
وهو - أيضا - واسع الرحمة لعباده المؤمنين ، المستقيمين على أمره .
وبذلك نرى هذه الآية الكريمة قد نهت المسلمين عن رذائل ، يؤدى تركها إلى سعادتهم ونجاحهم ، وفتحت لهم باب التوبة لكى يقلع عنها من وقع فيها . .
( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ، إن بعض الظن إثم ، ولا تجسسوا ، ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ? فكرهتموه . واتقوا الله ، إن الله تواب رحيم ) . .
فأما هذه الآية فتقيم سياجا آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم ، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم ، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم ، في أسلوب مؤثر عجيب . .
وتبدأ - على نسق السورة - بذلك النداء الحبيب : يا أيها الذين آمنوا . . ثم تأمرهم باجتناب كثير من الظن ، فلا يتركوا نفوسهم نهبا لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك . وتعلل هذا الأمر : ( إن بعض الظن إثم ) . وما دام النهي منصبا على أكثر الظن ، والقاعدة أن بعض الظن إثم ، فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيء أصلا ، لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثما !
بهذا يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السيء ، فيقع في الإثم ؛ ويدعه نقيا بريئا من الهواجس والشكوك ، أبيض يكن لإخوانه المودة التي لا يخدشها ظن السوء ؛ والبراءة التي لا تلوثها الريب والشكوك ، والطمأنينة التي لا يعكرها القلق والتوقع . وما أروح الحياة في مجتمع بريء من الظنون !
ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب . بل إن هذا النص يقيم مبدأ في التعامل ، وسياجا حول حقوق الناس الذين يعيشون في مجتمعه النظيف ، فلا يؤخذون بظنة ، ولا يحاكمون بريبة ؛ ولا يصبح الظن أساسا لمحاكمتهم . بل لا يصح أن يكون أساسا للتحقيق معهم ، ولا للتحقيق حولهم . والرسول[ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " إذا ظننت فلا تحقق " . . ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء ، مصونة حقوقهم ، وحرياتهم ، واعتبارهم . حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه . ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم !
فأي مدى من صيانة كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم واعتبارهم ينتهي إليه هذا النص ! وأين أقصى ما تتعاجب به أحسن البلاد ديمقراطية وحرية وصيانة لحقوق الإنسان فيها من هذا المدى الذي هتف به القرآن الكريم للذين آمنوا ، وقام عليه المجتمع الإسلامي فعلا ، وحققه في واقع الحياة ، بعد أن حققه في واقع الضمير ?
ثم يستطرد في ضمانات المجتمع إلى مبدأ آخر يتصل باجتناب الظنون :
والتجسس قد يكون هو الحركة التالية للظن ؛ وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات ، والاطلاع على السوءات .
والقرآن يقاوم هذا العمل الدنيء من الناحية الأخلاقية ، لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين وكشف سوآتهم . وتمشيا مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب .
ولكن الأمر أبعد من هذا أثرا . فهو مبدأ من مباديء الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي ، وفي إجراءاته التشريعية والتنفيذية .
إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور ، ولا أن تمس بحال من الأحوال .
ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم ، آمنين على بيوتهم ، آمنين على أسرارهم ، آمنين على عوراتهم . ولا يوجد مبرر - مهما يكن - لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات . حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسس على الناس . فالناس على ظواهرهم ، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم . وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم . وليس لأحد أن يظن أو يتوقع ، أو حتى يعرف أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما ، فيتجسس عليهم ليضبطهم ! وكل ما له عليهم أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها ، مع الضمانات الأخرى التي ينص عليها بالنسبة لكل جريمة .
قال أبو داود : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب . قال : أتى ابن مسعود ، فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمرا . فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به .
وعن مجاهد : لا تجسسوا ، خذوا بما يظهر لكم ، ودعوا ما ستر الله .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن دجين كاتب عقبة . قال : قلت لعقبة : إن لنا جيرانا يشربون الخمر ، وأنا داع لهم الشرط ، فيأخذونهم . قال : لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم . قال : ففعل فلم ينتهوا . قال : فجاءه دجين فقال : إني قد نهيتهم فلم ينتهوا . وإني داع لهم الشرط فتأخذهم . فقال له عقبة : ويحك ! لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها " .
وقال سفيان الثوري ، عن راشد بن سعد ، عن معاوية بن أبي سفيان ، قال : سمعت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم " . فقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - كلمة سمعها معاوية - رضي الله عنه - من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نفعه الله تعالى بها .
فهكذا أخذ النص طريقه في النظام العملي للمجتمع الإسلامي ! ولم يعد مجرد تهذيب للضمير وتنظيف للقلب ، بل صار سياجا حول حرمات الناس وحقوقهم وحرياتهم ، فلا تمس من قريب أو بعيد ، تحت أي ذريعة أو ستار .
فأين هذا المدى البعيد ? وأين هذا الأفق السامق ? وأين ما يتعاجب به أشد الأمم ديمقراطية وحرية وحفظا لحقوق الإنسان بعد ألف وأربع مائة عام ?
بعد ذلك يجيء النهي عن الغيبة في تعبير عجيب ، يبدعه القرآن إبداعا :
( ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ? فكرهتموه ) . .
لا يغتب بعضكم بعضا . ثم يعرض مشهدا تتأذى له أشد النفوس كثافة وأقل الأرواح حساسية . مشهد الأخ يأكل لحم أخيه . . ميتا . . ! ثم يبادر فيعلن عنهم أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز ، وأنهم إذن كرهوا الاغتياب !
ثم يعقب على كل ما نهاهم عنه في الآية من ظن وتجسس وغيبة باستجاشة شعور التقوى ، والتلويح لمن اقترف من هذا شيئا أن يبادر بالتوبة تطلعا للرحمة :
( واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) . .
ويسري هذا النص في حياة الجماعة المسلمة فيتحول إلى سياج حول كرامة الناس ، وإلى أدب عميق في النفوس والقلوب . ويتشدد فيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] متمشيا مع الأسلوب القرآني العجيب في إثارة الاشمئزاز والفزع من شبح الغيبة البغيض .
في حديث رواه أبو داود : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، ما الغيبة ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " ذكرك أخاك بما يكره " . قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " . . [ ورواه الترمذي وصححه ] .
وقال أبو داود : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] : حسبك من صفية كذا وكذا " قال عن مسدد تعني قصيرة " فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " . قالت : وحكيت له إنسانا . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا " . .
وروى أبو داود بإسناده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم . قلت : من هؤلاء يا جبرائيل ? قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " . .
ولما اعترف ماعز بالزنا هو والغامدية ، ورجمهما رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد إقرارهما متطوعين وإلحاحهما عليه في تطهيرهما ، سمع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رجلين يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ! ثم سار النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حتى مر بجيفة حمار ، فقال : " أين فلان وفلان ? انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار " . قالا : غفر الله لك يا رسول الله ! وهل يؤكل هذا ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه . والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها " .
وبمثل هذا العلاج الثابت المطرد تطهر المجتمع الإسلامي وارتفع ، وانتهى إلى ما صار إليه : حلما يمشي على الأرض ، ومثلا يتحقق في واقع التاريخ .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، لا تقربوا كثيرا من الظنّ بالمؤمنين ، وذلك أن تظنوا سوءا ، فإن الظانّ غير محقّ ، وقال جلّ ثناؤه : اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ ولم يقل : الظنّ كله ، إذ كان قد أذِن للمؤمنين أن يظنّ بعضهم ببعض الخير ، فقال : لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ المُؤْمنُونَ وَالمُؤْمِناتَ بُأنْفُسِهِمْ خَيْرا وَقالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ فأذن الله جلّ ثناؤه للمؤمنين أن يظنّ بعضهم ببعض الخير وأن يقولوه ، وإن لم يكونوا من قيله فيهم على يقين . وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ يقول : نهى الله المؤمن أن يظنّ بالمؤمن شرّا .
وقوله : إنّ بَعْضَ الظّنّ إثْمٌ يقول : إن ظنّ المؤمن بالمؤمن الشرّ لا الخير إثم ، لأن الله قد نهاه عنه ، ففعل ما نهى الله عنه إثم .
وقوله : وَلا تَجَسّسُوا يقول : ولا يتتبع بعضكم عورة بعض ، ولا يبحث عن سرائره ، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه ، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره ، وبه فاحمدوا أو ذموا ، لا على ما لا تعلمونه من سرائره . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَجَسّسُوا يقول : نهى الله المؤمن أن يتتبع عورات المؤمن .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَلا تَجَسّسُوا قال : خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ إنّ بَعْضَ الظّنّ إثْمٌ وَلا تَجَسّسُوا هل تدرون ما التجسس أو التجسيس ؟ هو أن تتبع ، أو تبتغي عيب أخيك لتطلع على سرّه .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَلا تَجَسّسُوا قال : البحث .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ إنّ بَعْضَ الظّنّ إثْمٌ وَلا تَجَسّسُوا قال : حتى أنظر في ذلك وأسأل عنه ، حتى أعرف حقّ هو ، أم باطل ؟ قال : فسماه الله تجسسا ، قال : يتجسس كما يتجسس الكلاب ،
وقرأ قول الله : وَلا تَجَسّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضا وقوله : ولا يغتب بعضكم بعضا يقول : ولا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه . وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك ، والأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
حدثني يزيد بن مخلد الواسطيّ ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله الطحان ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة ، فقال : «هُوَ أنْ تَقُولَ لأخِيكَ ما فِيهِ ، فإنْ كُنْتَ صَادِقا فَقَدِ اغْتَبْتَه ، وَإنْ كُنْتَ كاذِبا فَقَدْ بَهَتّهُ » .
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت العلاء يحدّث ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «هَلْ تَدْرُونَ ما الْغيّبَةُ » ؟ قال : قالوا الله ورسوله أعلم قال : «ذِكْرُكَ أخاكَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ » ، قال : أرأيت إن كان في أخي ما أقول له قال : «إنْ كان فِيهِ ما تَقُولُ فَقَد اغْتَبْتَهُ ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتّهُ » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سعيد بن الربيع ، قال : حدثنا شعبة ، عن العباس ، عن رجل سمع ابن عمر يقول : إذا ذكرت الرجل بما فيه ، فقد اغتبته ، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بَهَتّه . وقال شعبة مرّة أخرى : وإذا ذكرته بما ليس فيه ، فهي فِرْية قال أبو موسى : هو عباس الجَريريّ :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق قال : إذا ذكرت الرجل بأسوإ ما فيه فقد اغتبته ، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بَهتَه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : إذا قلت في الرجل أسوأ ما فيه فقد اغتبته ، وإذا قلت ما ليس فيه فقد بَهتَه .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عمر بن عبيد ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال الغيبة : أن يقول للرجل أسوأ ما يعلم فيه ، والبهتان : أن يقول ما ليس فيه .
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني معاوية بن صالح ، عن كثير بن الحارث ، عن القاسم ، مولى معاوية ، قال : سمعت ابن أمّ عبد يقول : ما التقم أحد لقمة أشرّ من اغتياب المؤمن ، إن قال فيه ما يعلم فقد اغتابه ، وإن قال فيه ما لا يعلم فقد بَهَتَه .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : إذا ذكرت الرجل بما فيه فقد اغتبته ، وإذا ذكرته بما ليس فيه فذلك البهتان .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت يونس ، عن الحسن أنه قال في الغيبة : أن تذكر من أخيك ما تعلم فيه من مساوىء أعماله ، فإذا ذكرته بما ليس فيه فذلك البهتان .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا سليمان الشيبانيّ ، قال : حدثنا حسان بن المخارق أن امرأة دخلت على عائشة فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أي أنها قصيرة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «اغْتَبْتِيها » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : لو مرّ بك أقطع ، فقلت : ذاك الأقطع ، كانت منك غيبة قال : وسمعت معاوية بن قرة يقول ذلك .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت معاوية بن قُرة يقول : لو مرّ بك رجل أقطع ، فقلت له : إنه أقطع كنت قد اغتبته ، قال : فذكرت ذلك لأبي إسحاق الهمداني فقال : صدق .
حدثني جابر بن الكرديّ ، قال : حدثنا ابن أبي أويس ، قال : ثني أخي أبو بكر ، عن حماد بن أبي حميد ، عن موسى بن وردان ، عن أبي هريرة أن رجلاً قام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأوا في قيامه عجزا ، فقالوا : يا رسول الله ما أعجز فلانا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أكَلْتُمْ أخاكُمْ وَاغْتَبْتُمُوه » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا حبان بن علي العنزيّ عن مثنى بن صباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن معاذ بن جبل ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر القوم رجلاً ، فقالوا : ما يأكل إلا ما أطعم ، وما يرحل إلا ما رحل له ، وما أضعفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اغْتَبْتُمْ أخاكُمْ » ، فقالوا يا رسول الله وغيبته أن نحدّث بما فيه ؟ قال : «بحَسْبِكُمْ أنْ تُحَدّثُوا عَنْ أخِيكُمْ ما فِيهِ » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا خالد بن محمد ، عن محمد بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا ذَكَرْتَ أخاكَ بِمَا يَكْرَهُ فإنْ كانَ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتّهُ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كنا نحدّث أن الغيبة أن تذكر أخاك بما يشينه ، وتعيبه بما فيه ، وإن كذبت عليه فذلك البهتان .
وقوله أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا فَكَرِهْتُمُوهُ يقول تعالى ذكره للمؤمنين أيحبّ أحدكم أيها القوم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته ميتا ، فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه ، لأن الله حرّم ذلك عليكم ، فكذلك لا تحبوا أن تغتابوه في حياته ، فاكرهوا غيبته حيا ، كما كرهتم لحمه ميتا ، فإن الله حرّم غيبته حيا ، كما حرّم أكل لحمه ميتا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضا أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا قال : حرّم الله على المؤمن أن يغتاب المؤمن بشيء ، كما حرّم المَيْتة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا قالوا : نكره ذلك ، قال : فكذلك فاتقوا الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا فَكَرِهْتُمُوهُ يقول : كما أنت كاره لو وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها ، فكذلك فاكره غِيبته وهو حيّ .
وقوله : وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ يقول تعالى ذكره : فاتقوا الله أيها الناس ، فخافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظنّ أحدكم بأخيه المؤمن ظنّ السوء ، وتتبع عوراته ، والتجسس عما ستر عنه من أمره ، واغتيابه بما يكرهه ، تريدون به شينه وعيبه ، وغير ذلك من الأمور التي نهاكم عنها ربكم إنّ اللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ يقول : إن الله راجع لعبده إلى ما يحبه إذا رجع العبد لربه إلى ما يحبه منه ، رحيم به بأن يعاقبه على ذنب أذنبه بعد توبته منه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا فقرأته عامة قرّاء المدينة بالتثقيل «مَيّتا » ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة مَيْتا بالتخفيف ، وهما قراءتان عندنا معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
ثم أمر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن . وأن لا يعملوا ولا يتكلموا بحسبه ، لما في ذلك وفي التجسس من التقاطع والتدابر . وحكم على بعضه بأنه { إثم } إذ بعضه ليس بإثم . ولا يلزم اجتنابه وهو ظن الخير بالناس وحسنه بالله تعالى . والمظنون من شهادات الشهود والمظنون به من أهل الشر . فإن ذلك سقوط عدالته وغير ذلك هي من حكم الظن به . وظن الخير بالمؤمن محمود والظن المنهي عنه : هو أن تظن سوءاً برجل ظاهره الصلاح . بل الواجب تنزيل الظن وحكمه وتتأول الخير . وقال بعض الناس : { إثم } معناه : كذب . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث »{[10475]} . وقال بعض الناس . معنى : { إن بعض الظن إثم } أي إذا تكلم الظان أثم . وما لم يتكلم فهو في فسحة . لأنه لا يقدر على دفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى الله عليه وسلم : «الحزم سوء الظن »{[10476]} . وذكر النقاش عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال :( احترسوا من الناس بسوء الظن ){[10477]} .
قال القاضي أبو محمد : وما زال أولو العلم يحترسون من سوء الظن ويسدون ذرائعه .
قال سلمان الفارسي : إني لأعد عراق قِدْري{[10478]} مخافة الظن . وذكر النقاش عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «احترسوا من الناس بسوء الظن . » وكان أبو العالية يختم على بقية طعامه مخافة سوء الظن بخادمه .
وقال ابن مسعود : الأمانة خير من الخاتم . والخاتم خير من ظن السوء .
وقوله : { ولا تجسسوا } أي لا تبحثوا على مخبآت أمور الناس وادفعوا بالتي هي أحسن . واجتزوا بالظواهر الحسنة .
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين والهذليون : «لا تحسسوا » بالحاء غير منقوطة . وقال بعض الناس : التجسس بالجيم في الشر . والتحسس بالحاء في الخير . وهكذا ورد القرآن ، ولكن قد يتداخلان في الاستعمال . وقال أبو عمرو بن العلاء : التجسس : ما كان من وراء وراء . والتحسس بالحاء : الدخول والاستعلام . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً »{[10479]} . وذكر الثعلبي حديث حراسة عمرو بن عوف ووجودهما الشرب في بيت ربيعة بن أمية بن خلف . وذكر أيضاً حديثه في ذلك مع أبي محجن الثقفي{[10480]} . وقال زيد بن وهب . قيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً ؟ فقال : إنا نهينا عن التحسس . فإن يظهر لنا شيء أخذنا به{[10481]} .
{ ولا يغتب } معناه : ولا يذكر أحدكم من أخيه شيئاً هو فيه يكره سماعه . وروي أن عائشة قالت عن امرأة : ما رأيت أجمل منها إلا أنها قصيرة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : «اغتبتها ، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرته »{[10482]} وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا ذكرت ما في أخيك فقد اغتبته . وإذا ذكرت ما ليس فيه فقد بهته »{[10483]} . وفي حديث آخر : «الغيبة أن تذكر المؤمن بما يكره » . قيل : وإن كان حقاً . قال : «إذا قلت باطلاً فذلك هو البهتان »{[10484]} . وقال معاوية بن قرة وأبو إسحاق السبيعي{[10485]} : إذا مر بك رجل اقطع . فقلت : ذلك الأقطع ، كان ذلك غيب . وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الغيبة أشد من الزنا ، لأن الزاني يتوب فيتوب الله عليه . والذي يغتاب يتوب فلا يتاب عليه حتى يستحل »{[10486]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد يموت من اغتيب ، أو يأبى .
وروي أن رجلاً قال لابن سيرين : إني قد اغتبتك فحللني . فقال له ابن سيرين إني لا أحل ما حرم الله . والغيبة مشتقة من غاب يغيب . وهي القول في الغائب واستعملت في المكروه . ولم يبح في هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه من تجريح في الشهود وفي التعريف لمن استنصح في الخطاب ونحوهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
«أما معاوية فصعلوك لا مال له »{[10487]} . وما يقال في الفسقة أيضاً وفي ولاة الجور ويقصد به التحذير منه . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أعن الفاجر ترعون ؟ اذكروا الفاجر بما فيه حتى يعرفه الناس إذا لم تذكروه »{[10488]} ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «بئس ابن العشيرة »{[10489]} . ثم مثل تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم . فمنه قول الشاعر [ سويد بن أبي كاهل اليشكري ] : [ الرمل ]
فإذا لاقيته عظّمني . . . وإذا يخلو له لحمي رتع{[10490]}
ومنه قول الآخر : [ المقنع الكندي ] .
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم . . . وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا{[10491]}
فوقفهم الله تعالى على جهة التوبيخ بقوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } فالجواب عن هذا : لا . وهم في حكم من يقولها . فخوطبوا على أنهم قالوا لا . فقيل لهم : { فكرهتموه } وبعد هذا مقدر تقديره : فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك . وعلى هذا المقدر يعطف قوله : { واتقوا الله } قاله أبو علي الفارسي . وقال الرماني : كراهية هذا اللحم يدعو إليها الطبع . وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل . وهو أحق أن يجاب . لأنه بصير عالم . والطبع أعمى جاهل .
وقرأ الجمهور : «ميْتاً » بسكون الياء . وقرأ نافع وابن القعقاع وشيبة ومجاهد : «ميِّتاً » بكسرها والشد . وقرأ أبو حيوة : «فكُرّهتموه » بضم الكاف وشد الراء .
ورواها أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم . ثم أعلم بأنه { تواب رحيم } إبقاء منه تعالى وإمهالاً وتمكيناً من التوبة .
{ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم }
أعيد النداء خامس مرة لاختلاف الغرض والاهتمام به وذلك أن المنهيات المذكورة بعد هذا النداء من جنس المعاملات السيئة الخفية التي لا يتفطن لها من عومل بها فلا يدفعها فما يزيلها من نفس من عامله بها .
ففي قوله تعالى : { اجتنبوا كثيراً من الظن } تأديب عظيم يبطل ما كان فاشياً في الجاهلية من الظنون السيئة والتهم الباطلة وأن الظنون السيئة تنشأ عنها الغيرة المفرطة والمكائد والاغتيالات ، والطعن في الأنساب ، والمبادأة بالقتال حذراً من اعتداء مظنون ظناً باطلاً ، كما قالوا : خذ اللص قبْلَ أن يَأخُذَك .
وما نجمت العقائد الضالة والمذاهب الباطلة إلا من الظنون الكاذبة قال تعالى : { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } [ آل عمران : 154 ] وقال : { وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } [ الزخرف : 20 ] وقال : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرَّمنا من شيء } [ الأنعام : 148 ] ثم قال : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } [ الأنعام : 148 ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » ولما جاء الأمر في هذه الآية باجتناب كثير من الظن علمنا أن الظنون الآثمة غير قليلة ، فوجب التمحيص والفحص لتمييز الظن الباطل من الظن الصادق .
والمراد ب { الظن } هنا : الظن المتعلق بأحوال الناس وحذف المتعلّق لتذهب نفس السامع إلى كل ظن ممكن هو إثم . وجملة { إن بعض الظن إثم } استئناف بياني لأن قوله : { اجتنبوا كثيراً من الظن } يستوقف السامع ليتطلب البيان فأعلموا أن بعض الظن جرم ، وهذا كناية عن وجوب التأمل في آثار الظنون ليعرضوا ما تفضي إليه الظنون على ما يعلمونه من أحكام الشريعة ، أو ليسألوا أهل العلم على أن هذا البيان الاستئنافي يقتصر على التخويف من الوقوع في الإثم . وليس هذا البيان توضيحاً لأنواع الكثير من الظن المأمور باجتنابه ، لأنها أنواع كثيرة فنبه على عاقبتها وتُرك التفصيل لأن في إبهامه بعثاً على مزيد الاحتياط .
ومعنى كونه إثماً أنه : إمّا أن ينشأ على ذلك الظن عمل أو مجرد اعتقاد ، فإن كان قد ينشأ عليه عمل من قول أو فعل كالاغتياب والتجسس وغير ذلك فليقدِّر الظانّ أن ظنه كاذب ثم لينظر بعدُ في عمله الذي بناه عليه فيجده قد عامل به من لا يستحق تلك المعاملة من اتهامه بالباطل فيأثم مما طوى عليه قلبه لأخيه المسلم ، وقد قال العلماء : إن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز . وإن لم ينشأ عليه إلا مجرد اعتقاد دون عمل فليقدِّر أن ظنه كان مخطئاً يجد نفسه قد اعتقد في أحد ما ليس به ، فإن كان اعتقادا في صفات الله فقد افترى على الله وإن كان اعتقاداً في أحوال الناس فقد خسر الانتفاع بمن ظنه ضاراً ، أو الاهتداء بمن ظنه ضالاً ، أو تحصيل العلم ممن ظنه جاهلاً ونحو ذلك .
ووراء ذلك فالظن الباطل إذا تكررت ملاحظته ومعاودة جولانه في النفس قد يصير علماً راسخاً في النفس فتترتب عليه الآثار بسهولة فتصادف من هو حقيق بضدها كما تقدم في قوله تعالى : { أن تُصِيبُوا قوما بجهالة فتُصبحُوا على ما فعلتم نادمين } [ الحجرات : 6 ] .
والاجتناب : افتعال مِن جنَّبه وأجنبه ، إذا أبعده ، أي جعله جانباً آخر ، وفعله يُعدّى إلى مفعولين ، يقال : جَنبه الشرَّ ، قال تعالى : { واجْنُبْنِي وبَنِيّ أن نعبد الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] . ومطاوعه اجتَنب ، أي ابتعد ، ولم يسمع له فعل أمر إلا بصيغة الافتعال .
ومعنى الأمر باجتناب كثير من الظن الأمر بتعاطي وسائل اجتنابه فإن الظن يحصل في خاطر الإنسان اضطراراً عن غير اختيار ، فلا يعقل التكليف باجتنابه وإنما يراد الأمر بالتثبت فيه وتمحيصه والتشكك في صدقه إلى أن يتبين موجبه بدون تردد أو برجحان أو يتبين كذبه فتكذب نفسك فيما حدثتك . وهذا التحذير يراد منه مقاومة الظنون السيئة بما هو معيارها من الأمارات الصحيحة . وفي الحديث « إذا ظننتم فلا تحققوا » على أن الظن الحسن الذي لا مستند له غير محمود لأنه قد يوقع فيما لا يحد ضره من اغترار في محل الحذر ومن اقتداء بمن ليس أهلاً للتأسي . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم عطية حين مات في بيتها عثمان بن مظعون وقال : « رحمة الله عليك أبا السايب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله وما يدريكِ أن الله أكرمه . فقالت : يا رسول الله ومن يكرمه الله ؟ فقال : أمَّا هو فقد جاءه اليقين وإنّي أرجو له الخير وإنّي والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي . فقالت أم عطية : والله لا أزكّي بعده أحداً » .
وقد علم من قوله : { كثيراً من الظن } وتبيينِه بأن بعض الظن إثم أن بعضاً من الظن ليس إثماً وأنا لم نؤمر باجتناب الظن الذي ليس بإثم لأن { كثيراً } وصف ، فمفهوم المخالفة منه يدلّ على أن كثيراً من الظنّ لم نؤمر باجتنابه وهو الذي يبينه { إن بعض الظن إثم } أي أن بعض الظن ليس إثماً ، فعلى المُسلم أن يكون معيارُه في تمييز أحد الظنين من الآخر أن يعرضه على ما بينته الشريعة في تضاعيف أحكامها من الكتاب والسنة وما أجمعت عليه علماء الأمة وما أفاده الاجتهاد الصحيح وتتبع مقاصد الشريعة ، فمنه ظن يجب اتباعه كالحَذر من مكائد العدّو في الحرب ، وكالظنّ المستند إلى الدليل الحاصل من دلالة الأدلة الشرعية ، فإن أكثر التفريعات الشرعية حاصلة من الظن المستند إلى الأدلة . وقد فتح مفهوم هذه الآية باب العمل بالظن غير الإثم إلا أنها لا تقوم حجة إلاّ على الذين يَرون العمل بمفهوم المخالفة وهو أرجح الأقوال فإن معظم دلالات اللغة العربية على المفاهيم كما تقرر في أصول الفقه .
وأما الظن الذي هو فهم الإنسان وزكانته فذلك خاطر في نفسه وهو أدْرَى فمعتاده منه من إصابه أو ضدها قال أوس بن حجر :
الألمعيُ الذي يظن بك الظ *** ن كـأن قَدْ رأى وقد سمِعا
التجسس من آثار الظن لأن الظن يبعث عليه حين تدعو الظانَّ نفسُه إلى تحقيق ما ظنه سراً فيسلك طريق التجنيس فحذرهم الله من سلوك هذا الطريق للتحقق ليسلكوا غيره إن كان في تحقيق ما ظن فائدة .
والتجسّس : البحث بوسيلة خفيّة وهو مشتق من الجس ، ومنه سمي الجاسوس .
والتجسّس من المعاملة الخفية عن المتجسس عليه . ووجه النهي عنه أنه ضرب من الكيد والتطلع على العورات . وقد يرى المتجسس من المتجسس عليه ما يسوءه فتنشأ عنه العداوة والحقد . ويدخل صدره الحرج والتخوف بعد أن كانت ضمائره خالصة طيبة وذلك من نكد العيش .
وذلك ثلم للأخوة الإسلامية لأنه يبعث على إظهار التنكر ثم إن اطلع المتجسس عليه على تجسس الآخر ساءه فنشأ في نفسه كره له وانثلمت الأخوة ثلمة أخرى كما وصفنا في حال المتجسِّس ، ثم يبعث ذلك على انتقام كليهما من أخيه .
وإذ قد اعتبر النهي عن التجسس من فروع النهي عن الظن فهو مقيد بالتجسس الذي هو إثم أو يفضي إلى الإثم ، وإذا علم أنه يترتب عليه مفسدة عامة صار التجسس كبيرة . ومنه التجسس على المسلمين لمن يبتغي الضُرّ بهم .
فالمنهي عنه هو التجسس الذي لا ينجرّ منه نفع للمسلمين أو دفع ضر عنهم فلا يشمل التجسس على الأعداء ولا تجسس الشُرَط على الجناة واللصوص .
{ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فكرهتموه } .
الاغتياب : افتعال من غَابه المتعدي ، إذا ذَكره في غيبه بما يسوءه .
فالاغتياب ذكر أحد غائب بما لا يُحب أن يُذكَر به ، والاسم منه الغِيبة بكسر الغين مثل الغِيلة . وإنما يكون ذكره بما يكره غيبه إذا لم يكن ما ذكره به مما يثلم العِرض وإلا صار قذعا .
وإنما قال : { ولا يغتب بعضكم بعضاً } دون أن يقول : اجتنبوا الغيبة . لقصد التوطئة للتمثيل الوارد في قوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } لأنه لما كان ذلك التمثيل مشتملاً على جانب فاعل الاغتياب ومفعولِه مُهّد له بما يدلّ على ذاتين لأن ذلك يزيد التمثيل وضوحاً .
والاستفهام في { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } تقريري لتحقق أن كل أحد يقر بأنه لا يحب ذلك ، ولذلك أجيب الاستفهام بقوله : { فكرهتموه } .
وإنما لم يرد الاستفهام على نفي محبة ذلك بأن يقال : ألا يحب أحدكم ، كما هو غالب الاستفهام التقريري ، إشارة إلى تحقق الإقرار المقرَّر عليه بحيث يترك للمقرّر مجالاً لعدم الإقرار ومع ذلك لا يسعه إلا الإقرار .
مثُلّت الغيبة بأكل لحم الأخ الميت وهو يستلزم تمثيل المولوع بها بمحبة أكل لحم الأخ الميت ، والتمثيل مقصود منه استفظاع الممثَّل وتشويهه لإفادة الإغلاظ على المغتابين لأن الغيبة متفشية في الناس وخاصة في أيام الجاهلية .
فشبهت حالة اغتياب المسلم مَن هو أخوه في الإسلام وهو غائب بحالة أكل لحم أخيه وهو ميت لا يدافع عن نفسه ، وهذا التمثيل للهيئة قابل للتفريق بأن يشبه الذي اغتاب بآكل لحم ، ويشبه الذي اغتيب بأخ ، وتشبه غَيْبته بالمَوت .
والفاء في قوله : { فكرهتموه } فاء الفصيحة ، وضمير الغائب عائد إلى { أحدكم } ، أو يعود إلى { لحم } .
والكراهة هنا : الاشمئزاز والتقذر . والتقدير : إن وقع هذا أو إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه .
وفاء الفصيحة تفيد الإلزام بما بعدها كما صرح به الزمخشري في قوله تعالى : { فقد كذبوكم بما تقولون } في سورة الفرقان ، أي تدل على أن لا مناص للمواجه بها من التزام مدلول جواب شرطها المحذوف .
والمعنى : فتعيّن إقراركم بما سئلتم عنه من الممثَّل به ( إذ لا يستطاع جَحْدَهُ ) تحققتْ كراهتكم له وتقذركم منه ، فليتحقق أن تكرهوا نظيره الممثَّل وهو الغِيبة فكأنه قيل : فاكرهوا الممثل كما كرهتم الممثل به .
وفي هذا الكلام مبالغات : منها الاستفهام التقريري الذي لا يقع إلا على أمر مسلّم عند المخاطب فجعلك للشيء في حيّز الاستفهام التقريري يقتضي أنك تدّعي أنه لا ينكره المخاطب .
ومنها جعل ما هو شديد الكراهة للنفس مفعولاً لفعل المحبة للإشعار بتفظيع حالة ما شبه به وحالة من ارتضاه لنفسه فلذلك لم يقل : أيَتحمل أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً ، بل قال : { أيحب أحدكم } .
ومنها إسناد الفعل إلى { احد } للإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك .
ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتّى جَعل الإنسان أخاً .
ومنها أنه لم يقتصر على كون المأكول لحم الأخ حتى جعل الأخَ ميتاً .
وفيه من المحسنات الطباق بين { أيحب } وبين { فكرهتموه } .
والغِيبة حرام بدلالة هذه الآية وآثار من السنة بعضها صحيح وبعضها دونه .
وذلك أنها تشتمل على مفسدة ضُعف في أخوة الإسلام . وقد تبلغ الذي اغتيب فتقدح في نفسه عداوة لمن اغتابه فينثلم بناء الأخوة ، ولأن فيها الاشتغال بأحوال الناس وذلك يلهي الإنسان عن الاشتغال بالمهم النافع له وترك ما لا يعنيه .
وهي عند المالكية من الكبائر وقلّ من صرح بذلك ، لكن الشيخ عليّاً الصعيدي في « حاشية الكفاية » صرح بأنها عندنا من الكبائر مطلقاً . ووجهُه أن الله نهَى عنها وشنّعها . ومُقتضى كلام السجلماسي في كتاب « العمل الفاسي » أنها كبيرة .
وجعلها الشافعية من الصغائر لأن الكبيرة في اصطلاحهم فِعل يؤذن بقلة اكتراث فاعله بالدين ورقة الديانة كذا حدّها إمامُ الحرمين .
فإذا كان ذلك لوجه مصلحة مثل تجريح الشهود ورواة الحديث وما يقال للمستشير في مخالطة أو مصاهرة فإن ذلك ليس بغِيبة ، بشرط أن لا يتجاوز الحد الذي يحصل به وصف الحالة المسؤول عنها .
وكذلك لا غيبة في فاسق بذكر فسقه دون مجاهرة له به . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما استؤذن عنده لعُيينة بن حصن { بئس أخو العشيرة } ليحذّره من سمعه إذ كان عيينة يومئذ منحرفاً عن الإسلام .
وعن الطبري صاحب « العُدة » في فروع الشافعية أنها صغيرة ، قال المحلي وأقره الرافعي ومن تبعه . قلت : وذكر السجلماسي في نظمه في المسائل التي جرى بها عمل القضاة في فاس فقال :
ولا تجرح شاهداً بالغيبه *** لأنها عمت بها المصيبه
وذكر في شرحه : أن القضاة عملوا بكلام الغزالي .
وأما عموم البلوى فلا يوجب اغتفار ما عمّت به إلاّ عند الضرورة والتعذر كما ذكر ذلك عن أبي محمد بن أبي زيد .
وعندي : أن ضابط ذلك أن يكثر في الناس كثرةً بحيث يصير غير دالّ على استخفاف بالوازع الديني فحيئذٍ يفارقها معنى ضعف الديانة الذي جعله الشافعية جزءاً من ماهية الغِيبة .
{ واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رحيم } .
عطف على جُمل الطلب السابقة ابتداء من قوله : { اجتنبوا كثيراً من الظن } هذا كالتذييل لها إذ أمر بالتقوى وهي جُماع الاجتناب والإمتثال فمن كان سالماً من التلبس بتلك المنهيات فالأمر بالتقوى يجنبه التلبس بشيء منها في المستقبل ، ومن كان متلبساً بها أو ببعضها فالأمر بالتقوى يجمع الأمر بالكف عما هو متلبس به منها .
وجملة { إن الله تواب رحيم } تذييل للتذييل لأن التقوى تكون بالتوبة بعد التلبس بالإثم فقيل : { إن الله تواب } وتكون التقوى ابتداء فيرحم الله المتقي ، فالرحيم شامل للجميع .