ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين أمرهم فيه بأن يتقوا الله حق تقاته وأن يكونوا مع الصادقين ، وأوجب عليهم الغزة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعدهم عليه بجزيل الثواب ، وتوعد المتخلفين عنه بشديد العقاب فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
والمعنى : يا من آمنتم بالله واليوم الآخر . . اتقوا الله حق تقاته ، بأن تفعلوا ما كلفكم به . وتتركوا ما نهاكم عنه ، { وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } في دين الله نية وقولا وعملا وإخلاصا ؛ فإن الصدق ما وجد في شئ إلا زانه ، وما وجد الكذب في شئ إلا شأنه .
قال القرطبى : حق من فهم عن الله وعقل منه : أن يلازم الصدق في الأقوال والإِخلاص في الأعمال ، والصفاء في الأحوال ، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى ربنا الغفار .
قال - صلى الله عليه وسلم - " عليكم بالصدق فإن الصدق يهدى إلى البر وإن البر يهدى إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا " .
والكذب على الضد من ذلك . قال - صلى الله عليه وسلم - " إياكم والكذب فإن الكذب يهدى إلى الفجور ، وإن الفجور يهدى إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا " .
فالكذب عار ، وأهله مسلوبو الشهادة ، وقد رد - صلى الله عليه وسلم - شهاد رجل من كذبه كذبها . وسئل شريك بن عبد الله فقيل له : يا أبا عبد الله ، رجل سمعته يكذب متعمدا ، أصلى خلفه ؟ قال : لا .
وفي ظل قصة التوبة على الذين ترددوا والذين تخلفوا ؛ وفي ظل عنصر الصدق البادي في قصة الثلاثة الذين خلفوا ؛ يجيء الهتاف للذين آمنوا جميعاً أن يتقوا اللّه ويكونوا مع الصادقين في إيمانهم من أهل السابقة ؛ ويجيء التنديد بتخلف أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ، مع الوعد بالجزاء السخي للمجاهدين :
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين . ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه ، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل اللّه ، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً ، إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين . ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، ولا يقطعون وادياً ، إلا كتب لهم ، ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون ) . .
إن أهل المدينة هم الذين تبنوا هذه الدعوة وهذه الحركة ، فهم أهلها الأقربون . وهم بها ولها . وهم الذين آووا رسول اللّه - [ ص ] - وبايعوه ؛ وهم الذين باتوا يمثلون القاعدة الصلبة لهذا الدين في مجتمع الجزيرة كله . وكذلك القبائل الضاربة من حول المدينة وقد أسلمت ؛ وباتت تؤلف الحزام الخارجي للقاعدة . . فهؤلاء وهؤلاء ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول اللّه ، وليس لهم أن يؤثروا أنفسهم على نفسه . . وحين يخرج رسول اللّه - [ ص ] - في الحر أوالبرد . في الشدة أو الرخاء . في اليسر أو العسر . ليواجه تكاليف هذه الدعوة وأعباءها ، فإنه لا يحق لأهل المدينة ، أصحاب الدعوة ، ومن حولهم من الأعراب ، وهم قريبون من شخص رسول اللّه - [ ص ] - ولا عذر لهم في ألا يكونوا قد علموا ، أن يشفقوا على أنفسهم مما يحتمله رسول اللّه [ ص ] .
من أجل هذه الاعتبارات يهتف بهم أن يتقوا اللّه وأن يكونوا مع الصادقين ، الذين لم يتخلفوا ، ولم تحدثهم نفوسهم بتخلف ، ولم يتزلزل إيمانهم في العسرة ولم يتزعزع . . وهم الصفوة المختارة من السابقين والذين اتبعوهم بإحسان :
القول في تأويل قوله تعالى : { يََأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين معرّفهم سبيل النجاة من عقابه والخلاص من أليم عذابه : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، اتقوا الله وراقبوه بأداء فرائضه وتجنب حدوده ، وكونوا في الدنيا من أهل ولاية الله وطاعته ، تكونوا في الاَخرة مع الصادقين في الجنة . يعني مع من صدق الله الإيمان به فحقق قوله بفعله ولم يكن من أهل النفاق فيه الذين يكذّب قيلهم فعلهم .
وإنما معنى الكلام : وكونوا مع الصادقين في الاَخرة باتقاء الله في الدنيا ، كما قال جلّ ثناؤه : وَمَنْ يُطِعِ اللّهِ وَالرّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النّبِيّينَ والصّدّيقِينَ والشهَدَاءِ وَالصّالِحِينَ .
وإنما قلنا ذلك معنى الكلام ، لأن كون المنافق مع المؤمنين غير نافعه بأيّ وجوه الكون كان معهم إن لم يكن عاملاً عملهم ، وإذا عمل عملهم فهو منهم ، وإذا كان منهم كان لا وجه في الكلام أن يقال : اتقوا الله وكونوا مع الصادقين . ولتوجيه الكلام إلى ما وجهنا من تأويله فسر ذلك من فسره من أهل التأويل بأن قال : معناه : وكونوا مع أبي بكر وعمر ، أو مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرين رحمة الله عليهم . ذكر من قال ذلك أو غيره في تأويله :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن زيد بن أسلم ، عن نافع ، في قول الله : اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال : مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حبويه أبو يزيد ، عن يعقوب القمي ، عن زيد بن أسلم ، عن نافع ، قال : قيل للثلاثة الذين خلفوا : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ محمد وأصحابه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال : مع أبي بكر وعمر وأصحابهما رحمة الله عليهم .
قال : حدثنا محمد بن يحيى ، قال : حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن أبي هاشم الرماني ، عن سعيد بن جبير ، في قول الله : اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال : مع أبي بكر وعمر رحمة الله عليهما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال : مع المهاجرين الصادقين .
وكان ابن مسعود فيما ذكر عنه يقرؤه : «وكُونُوا مِنَ الصّادِقِينَ » ويتأوّله أن ذلك نهي من الله عن الكذب . ذكر الرواية عنه بذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، قال : سمعت أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود يقول : قال ابن مسعود : إن الكذب لا يحلّ منه جدّ ولا هزل ، اقرءوا إن شئتم : «يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مِنَ الصّادِقِينَ » قال : وكذلك هي قراءة ابن مسعود : «من الصادقين » ، فهل ترون في الكذب رخصة ؟
قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، قال : سمعت أبا عبيدة ، عن عبد الله ، نحوه .
قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، قال : سمعت أبا عبيدة يحدّث ، عن عبد الله قال : الكذب لا يصلح منه جدّ ولا هزل ، اقرءوا إن شئتم : «يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مِنَ الصّادِقِينَ » وهي كذلك في قراءة عبد الله ، فهل ترون من رخصة في الكذب ؟
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : لا يصلح الكذب في هزل ولا جدّ ، ثم تلا عبد الله : اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا ما أدري أقال «مِنَ الصّادِقِينَ » أو مَعَ الصّادِقِينَ وهو في كتابي : مَعَ الصّادِقِينَ .
قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن عبد الله ، مثله .
قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، مثله .
والصحيح من التأويل في ذلك هو التأويل الذي ذكرناه عن نافع والضحاك ، وذلك أن رسوم المصاحف كلها مجمعة على : وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ، وهي القراءة التي لا أستجيز لأحد القراءة بخلافها ، وتأويل عبد الله رحمة الله عليه في ذلك على قراءته تأويل صحيح غير ، أن القراءة بخلافها .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } هذا الأمر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين ، فجاء هذا الأمر اعتراضاً في أثناء الكلام إذ عن في القصة ما يجب التنبيه علي امتثاله ، وقال ابن جريج وغيره : الصدق في هذه الآية هو صدق الحديث ، وقال نافع والضحاك ما معناه : إن اللفظ أعم من صدق الحديث ، وهو بمعنى الصحة في الدين والتمكن في الخير ، كما تقول العرب : عود صدق ورجل صدق ، وقالت هذه الفرقة : كونوا مع محمد وأبي بكر وعمر وأخيار المهاجرين الذين صدقوا الله في الإسلام ومع في هذه الآية تقتضي الصحبة في الحال والمشاركة في الوصف المقتضي للمدح ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس «وكونوا من الصادقين » ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابن مسعود رضي الله عنه يتأوله في صدق الحديث . وروي عنه أنه قال : الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، اقرأوا إن شئتم { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } .
الظاهر أن هذه الآية خاتمة للآي السابقة وليست فاتحة غرض جديد . ففي « صحيح البخاري » من حديث كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة تبوك أنه قال : « فوالله ما أعلم أحداً . . . أبْلاه الله في صدق الحديث أحسنَ مما أبْلاني ما تعمدتُ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذباً وأنزل الله على رسوله { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار إلى قوله { وكونوا مع الصادقين } [ التوبة : 117 119 ] اه . فهذه الآية بمنزلة التذييل للقصة فإن القصة مشتملة على ذكر قوم اتقوا الله فصدقوا في إيمانهم وجهادهم فرضي الله عنهم ، وذِكر قوم كذبوا في ذلك واختلقوا المعاذير وحلفوا كذباً فغضب الله عليهم ، وقوم تخلفوا عن الجهاد وصدقوا في الاعتراف بعدم العذر فتاب الله عليهم ، فلما كان سبب فوز الفائزين في هذه الأحوال كلها هو الصدق لا جرم أمر الله المؤمنين بتقواه وبأن يكونوا في زمرة الصادقين مثل أولئك الصادقين الذين تضمنتهم القصة .
والأمر ب { كونوا مع الصادقين } أبلغ في التخلق بالصدق من نحو : اصدقوا . ونظيره { واركعوا مع الراكعين } [ البقرة : 43 ] . وكذلك جَعله بعد ( من ) التبعيضية وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : { أبى واستكبر وكان من الكافرين } [ البقرة : 43 ] ومنه قوله : { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [ البقرة : 67 ] .