التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (183)

وبعد أن تحدثت السورة الكريمة عن القصاص وعن الوصية أتبعتهما بالحديث عن عبادة عظيمة من العبادات التي جعلها الله - تعالى - ركناً من أركان الإِسلام وهي صوم رمضان ، فقال - سبحانه - :

{ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام . . . }

الصيام مصدر صام كالقيام مصدر قام ، وهو في اللغة : الإِمساك وترك التنقل من حال إلى حال ، فيقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام ، ومنه قوله - تعالى - مخبراً عن مريم : { إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً } أي : سكوتاً عن الكلام . وصوم الريح ركودها وإمساكها عن الهبوب . وتقول العرب : صام النهار وصامت الشمس عند قيام الظهيرة لأنها كالممسكة عن الحركة .

أما الصيام في عرف الشرع فهو - كما يقول الآلوسي - إمساك عن أشياء مخصوصة ، على وجه مخصوص ، في زمان مخصوص ، ممن هو على صفات مخصوصة .

وقد فرض الله - تعالى - على المسلمين صيام شهر رمضان في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة ، وعده النبي صلى الله عليه وسلم أحد أركان الإِسلام الخمسة ، فقد روى البخاري - بسنده - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بني الإِسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان " .

وأل في الصيام للعهد الذهني ، فقد كان العرب يعرفون الصوم ، فقد جاء في الصحيحين عن عائشة قالت : " كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش والجاهلية " .

والتشبيه في قوله - تعالى - : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } راجع إلى أصل إيجاب الصوم وفريضته . أي : أن عبادة الصوم كانت مكتوبة ومفروضة على الأمم السابقة ، ولكن بكيفية لا يعلمها إلا الله ، إذ لم يرد نص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا فيه كيف كان صيام الأمم السابقة على الأمة الإسلامية .

وقيل إن التشبيه راجع إلى وقت الصوم وقدره ، فقد روى عن مجاهد أنه قال : كتب الله - عز وجل - صوم شهر رمضان على كل أمة .

ولفظ " كما " في قوله - تعالى - : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } في موضع نصب على المصدر ، أي : فرض عليكم الصيام فرضاً كالذي فرض على الذين من قبلكم .

ومن فوائد هذا التشبيه ، الاهتمام بهذه العبادة والتنويه بشأنها إذ شرعها - سبحانه - لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم ولأتباع الرسل الذين سبقوه في الدعوة إلى توحيد الله ، وهذا مما يقتضي وفرة ثوابها ، وداوم صلاحها .

كذلك من فوائده تسهيل هذه العبادة على المسلمين ؛ لأن الشيء الشاق تخف مشقته على الإِنسان عند ما يعلم أن غيره قد أداه من قبله .

والفائدة الثالثة من هذا التشبيه إثارة العزائم والهمم للنهوض بهذه العبادة ، حتى لا يكونوا مقصرين في أدائها ، بل يجب عليهم أن يؤدوها بقوة تفوق من سبقهم لأن الأمة الإِسلامية قد وصفها سبحانه بأنها خير أمة أخرجت للناس ، وهذه الخيرية تقتضي منهم النشاط فيما كلفهم الله بأدائه من عبادات .

وقوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } جملة تعليلة جيء بها لبيان حكمة مشروعية الصيام . فكأنه - سبحانه - يقول لعباده المؤمنين : فرضنا عليكم الصيام كما فرضناه على الذين من قبلكم ، لعلكم بأدائكم لهذه الفريضة تنالون درجة التقوى والخشية من الله ، وبذلك تكونون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه . ولا شك أن هذه الفريضة ترتفع بصاحبها إلى أعلى عليين متى أداها بآدابها وشروطها ، ويكفى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال في شأن الصوم : " الصوم جنة " أي : وقاية . إذ في الصوم وقاية من الوقوع في المعاصي ، ووقاية من عذاب الآخرة ، ووقاية من العلل والأمراض الناشئة عن الإِفراط في تناول بعض الأطعمة والأشربة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (183)

178

ولقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليه الجهاد في سبيل الله ، لتقرير منهجه في الأرض ، وللقوامة به على البشرية ، وللشهادة على الناس . فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة ، ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد ؛ كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها ، واحتمال ضغطها وثقلها ، إيثارا لما عند الله من الرضى والمتاع .

وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك ؛ والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات ؛ والذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات !

وذلك كله إلى جانب ما يتكشف على مدار الزمان من آثار نافعة للصوم في وظائف الأبدان . ومع أنني لا أميل إلى تعليق الفرائض والتوجيهات الإلهية في العبادات - بصفة خاصة - بما يظهر للعين من فوائد حسية ، إذ الحكمة الأصيلة فيها هي إعداد هذا الكائن البشري لدوره على الأرض ، وتهيئته للكمال المقدر له في حياة الآخرة . . مع هذا فإنني لا أحب أن أنفي ما تكشف عنه الملاحظة أو يكشف عنه العلم من فوائد لهذه الفرائض والتوجيهات ؛ وذلك ارتكانا إلى الملحوظ والمفهوم من مراعاة التدبير الإلهي لكيان هذا الإنسان جملة في كل ما يفرض عليه وما يوجه إليه . ولكن في غير تعليق لحكمة التكليف الإلهي بهذا الذي يكشف عنه العلم البشري . فمجال هذا العلم محدود لا يتسع ولا يرتقي إلى استيعاب حكمة الله في كل ما يروض به هذا الكائن البشري . أو كل ما يروض به هذا الكون بطبيعة الحال :

( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ، لعلكم تتقون ، أياما معدودات ، فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ؛ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ؛ فمن تطوع خيرا فهو خير له ؛ وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون . شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر . يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) . .

إن الله - سبحانه - يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له ؛ مهما يكن فيه من حكمة ونفع ، حتى تقتنع به وتراض عليه .

ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين ، المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة ؛ ثم يقرر لهم - بعد ندائهم ذلك النداء - أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين ، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله :

( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )

وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم . . إنها التقوى . . فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة ، طاعة لله ، وإيثارا لرضاه . والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية ، ولو تلك التي تهجس في البال ، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله ، ووزنها في ميزانه . فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم . وهذا الصوم أداة من أدواتها ، وطريق موصل إليها . ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفا وضيئا يتجهون إليه عن طريق الصيام . . ( لعلكم تتقون ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (183)

القول في تأويل قوله تعالى : .

{ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ }

يعني الله تعالى ذكره بقوله : يا أيّها الّذين آمَنُوا ، يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، وصدّقوا بهما وأقرّوا . ويعني بقوله : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ فرض عليكم الصيام ، والصيام مصدر من قول القائل : صمت عن كذا وكذا ، يعني كففت عنه ، أصوم عنه صوما وصياما ، ومعنى الصيام : الكفّ عما أمر الله بالكف عنه ومن ذلك قيل : صامت الخيل إذا كفت عن السير ، ومنه قول نابغة بني ذبيان :

خَيْلٌ صِيامٌ وخَيْلٌ غَيْرُ صَائمةٍ تَحْتَ العَجاجِ وأخْرَى تَعْلُكُ اللّجُما

ومنه قول الله تعالى ذكره إنّي نَذَرتُ للرّحمَنِ صَوْما يعني صمتا عن الكلام . وقوله كَمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني : فرض عليكم مثل الذي فرض على الذين من قبلكم .

ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله : كَمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وفي المعنى الذي وقع فيه التشبيه بين فرض صومنا وصوم الذين من قبلنا ، فقال بعضهم : الذين أخبرنا الله عن الصوم الذي فرضه علينا أنه كمثل الذي كان عليهم هم النصارى ، وقالوا : التشبيه الذي شبه من أجله أحدهما بصاحبه هو اتفاقهما في الوقت والمقدار الذي هو لازم لنا اليوم فرضه . ذكر من قال ذلك :

حدثت عن يحيى بن زياد ، عن محمد بن أبان ، عن أبي أمية الطنافسي ، عن الشعبي أنه قال : لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشكّ فيه فيقال من شعبان ويقال من رمضان ، وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا فحوّلوه إلى الفصل ، وذلك أنهم كانوا ربما صاموه في القيظ يعدّون ثلاثين يوما ، ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالثقة من أنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما ، ثم لم يزل الاَخر يستنّ سنة القرن الذي قبله حتى صارت إلى خمسين ، فذلك قوله : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيّامُ كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .

وقال آخرون : بل التشبيه إنما هو من أجل أن صومهم كان من العشاء الاَخرة إلى العشاء الاَخرة ، وذلك كان فرض الله جل ثناؤه على المؤمنين في أوّل ما افترض عليهم الصوم . ووافق قائلو هذا القول القائلي القول الأول أن الذين عنى الله جل ثناؤه بقوله : كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ : النصارى . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ على الّذيِنَ مِنْ قَبْلِكُمْ أما الذين من قبلنا فالنصارى ، كتب عليهم رمضان ، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم ، ولا ينكحوا النساء شهر رمضان . فاشتدّ على النصارى صيام رمضان ، وجعل يقلب عليهم في الشتاء والصيف فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياما في الفصل بين الشتاء والصيف ، وقالوا : نزيد عشرين يوما نكفّر بها ما صنعنا . فجعلوا صيامهم خمسين ، فلم يزل المسلمون على ذلك يصنعون كما تصنع النصارى ، حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب ما كان ، فأحل الله لهم الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال : كتب عليهم الصوم من العتمة إلى العتمة .

وقال آخرون : الذين عنى الله جل ثناؤه بقوله : كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ : أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ : أهل الكتاب .

وقال بعضهم : بل ذلك كان على الناس كلهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال : كتب شهر رمضان على الناس ، كما كتب على الذين من قبلهم . قال : وقد كتب الله على الناس قبل أن ينزل رمضان صوم ثلاثة أيام من كل شهر .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ كَما كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ رمضان كتبه الله على من كان قبلهم .

وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى الآية : يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم الصيام كما فرض على الذين من قبلكم من أهل الكتاب ، أياما معدودات ، وهي شهر رمضان كله لأن من بعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان مأمورا باتباع إبراهيم ، وذلك أن الله جل ثناؤه كان جعله للناس إماما ، وقد أخبرنا الله عزّ وجل أن دينه كان الحنيفية المسلمة ، فأمر نبينا صلى الله عليه وسلم بمثل الذي أمر به من قبله من الأنبياء .

وأما التشبيه فإنما وقع على الوقت ، وذلك أن من كان قبلنا إنما كان فرض عليهم شهر رمضان مثل الذي فرض علينا سواء .

وأما تأويل قوله : لَعَلّكُمْ تَتّقُون فإنه يعني به : لتتقوا أكل الطعام وشرب الشراب وجماع النساء فيه ، يقول : فرضت عليكم الصوم والكفّ عما تكونون بترك الكفّ عنه مفطرين لتتقوا ما يفطركم في وقت صومكم . وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل : ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ يقول : فتتقون من الطعام والشرب والنساء مثل ما اتقوا ، يعني مثل الذي اتقى النصارى قبلكم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (183)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 183 )

و { كتب } : معناه فرض . والصيام في اللغة الإمساك وترك التنقل من حالٍ إلى حال ، ومنه قول النابغة : [ البسيط ]

خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ . . . تَحْتَ العَجَاجٍ وَخَيْلٌ تَعْلِكُ اللُّجُمَا

أي خيل ثابتة ممسكة( {[1655]} ) ، ومنه قول الله تعالى : { إني نذرت للرحمن صوماً }( {[1656]} ) [ مريم : 26 ] أي إمساكاً عن الكلام ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]

كأَنَّ الثُّريَّا عُلِّقَتْ في مَصَامها( {[1657]} ) . . . أي في موضع ثبوتها وامتساكها ، ومنه قوله( {[1658]} ) : [ الطويل ]

فَدَعْ ذَا وَسَلِّ الْهَمِّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ . . . ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا

أي وقفت الشمس عن الانتقال وثبتت ، والصيام في الشرع إمساك عن الطعام( {[1659]} ) والشراب مقترنة به قرائن من مراعاة أوقات وغير ذلك ، فهو من مجمل القرآن في قول الحذاق ، والكاف من قوله { كما } في موضع نصب على النعت ، تقديره كتباً كما ، أو صوماً كما( {[1660]} ) ، أو على الحال كأن الكلام : كتب علكيم الصيام مشبهاً ما كتب على الذين من قبلكم .

وقال بعض النحاة : الكاف في موضع رفع على النعت للصيام ، إذ ليس تعريفه بمحض لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة ، فلذلك جاز نعته ب { كما } إذ لا تنعت بها إلا النكرات ، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام ، وقد ضعف هذا القول( {[1661]} ) .

واختلف المتأولون في موضع التشبيه( {[1662]} ) ، فقال الشعبي وغيره : المعنى كتب عليكم رمضان كما كتب على النصارى ، قال : «فإنه كتب عليهم رمضان فبدلوه لأنهم احتاطوا له بزيادة يوم في أوله ويوم في آخره ، قرناً بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوماً ، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي » .

قال النقاش : «وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي »( {[1663]} ) ، وقيل : بل مرض ملك من ملوكهم فنذر إن برىء أن يزيد فيه عشرة أيام ، ثم آخر سبعة ، ثم آخر ثلاثة ، ورأوا أن الزايادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله( {[1664]} ) .

وقال السدي والربيع : التشبيه هو أن من الإفطار إلى مثله لا يأكل ولا يشرب ولا يطأ ، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام ، وكذلك كان في النصارى أولاً ، وكان في أول الإسلام ، ثم نسخه الله بسبب عمر وقيس بن صرمة بما يأتي من الآيات في ذلك( {[1665]} ) .

وقال عطاء : «التشبيه كتب عليكم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر - قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي بعض الطرق : ويوم عاشوراء - كما كتب على الذين من قبلكم ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء ، ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان » .

وقالت فرقة : التشبيه كتب عليكم كصيام بالإطلاق ، أي قد تقدم في شرع غيركم ، ف { الذين } عام في النصارى وغيرهم ، و { لعلكم } ترجّ في حقهم ، و { تتقون } قال السدي : معناه تتقون الأكل والشرب والوطء بعد النوم على قول من تأول ذلك( {[1666]} ) ، وقيل : تتقون على العموم ، لأن الصيام كما قال عليه السلام : «جنة » ووجاء( {[1667]} ) وسبب تقوى ، لأنه يميت الشهوات .


[1655]:- أي: عن الجري والحركة.
[1656]:- من الآية (26) من سورة مريم.
[1657]:- تمامه: ............................... بِأمْرَاسِ كَتَّـانٍ عَلَى صُمِّ جَنْــدَلِ مصامها: موضعها ومكانها – وفي رواية (مصابها) والمعنى واحد، وأمراس كتان هي: حبال محكمة الفتل مصنوعة من الكتان وهو النبات المعروف. وصم جندل: أي حجارة صمّاء.
[1658]:- أي امرئ القيس، والبيت من معلقته المشهورة التي قالها عند ذهابه إلى قيصر ملك الروم يستجير به، وأولها: سَمَا لَكَ شَوْقٌ بعْدَ ما كانَ أَقْصَــرَا وحَلَّت سُلَيْمَـى بَطْنَ ظَبْيٍ فَعَرْعَراً وقد روي البيت: "فدعها وسلّ الهمَّ إلخ" – والجسرة: الناقة العظيمة، والذمول: التي تسير سيرا لينا.
[1659]:- أي: وعن غير ذلك من كل ما يخل بالصيام من أنواع الشهوات والمحرمات.
[1660]:- في هذا بُعْد، من حيث تشبيه الصوم بالكتابة، لأن تشبيه الصوم بالكتابة لا يصح إن كانت مصدرية، وإن كانت موصولة ففيه تشبيه الصوم بالمصوم، وهو لا يصح إلا على تأويل بعيد – البحر المحيط 2-29.
[1661]:- نحو هذا ما قيل في قوله تعالى: [وآية لهم الليل نسلخ منه النهار] وهو خلاف ما تقرر في النحو من وجوب التوافق بين النعت والمنعوت، ولذا حكم ابن عطية رحمه الله بضعف هذا القول.
[1662]:- يعني في عدده ووقته، أو في فرضه ووجوبه، أو في صفته وكيفيته. أو في مطلق الصوم وعمومه.
[1663]:- رواه البخاري في التاريخ والطبراني.
[1664]:- يعني أنهم اعتبروا الزيادة فيه شافعة لهم في نقله عن وقته بسبب الحرارة.
[1665]:- عند قوله تعالى: [أحل لكم ليلة الصيام الرّفث إلى نسائكم] الآية، وقيس هذا موضع خلاف في اسمه: قيل: اسمه قيس بن صرمة – وقيل: أبو قيس بن صرمة – وقيل: صرمة بن قيس. راجع (الإصابة وأسد الغابة).
[1666]:- كانوا في أول الإسلام إذا حان الإفطار يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنع عليهم الأكل والشرب، ثم إن رجلا من الأنصار كان يعمل صائما حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائما فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدا شديدا: فقال: (مالي آراك قد جهدت جهدا شديدا) قال: يا رسول الله، إني عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائما – وكان عمر رضي الله عنه قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله قوله: [أُحلّ لكم ليلة الصيام الرّفث إلى نسائكم] الآية.
[1667]:- كلاهما في الصحيح في حديث أبي هريرة: (الصيام جنة)، وفي حديث ابن مسعود: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).